أعداد جنوده تراجعت من 800 ألف جندى في الثمانينيات إلى النصف حاليا - ثانى أفضل جيش في حلف الناتو بعد الجيش الأمريكى
بعيدا عما حدث مساء الجمعة 15 يوليو من انقلاب عسكرى فاشل، فإن الجيش التركى بقوامه الذي يبلغ 510 آلاف وستمائة جندى يعتبر ثانى أكبر قوة عسكرية في حلف شمال الأطلنطى بعد الجيش الأمريكى ومن أفضل الجيوش تدريبا في العالم. وتضم القوات المسلحة التركية 402 ألف رجل في الجيش البرى منهم 77 ألفا من المتخصصين و325 ألف مجند. كما يضم نحو 48 ألفا وستمائة في البحرية منهم 14 ألفا ومائة من المتخصصين و34 ألفا وخمسمائة من المجندين. إضافة إلى 60 ألف ومائة في السلاح الجوى منهم 28 ألف وستمائة من المتخصصين والباقى من الجنود. وذلك وفق التقرير الذي أصدره معهد الفكر الإستراتيجى في لندن عام 2016 . وبناء على هذا التقربر يمكن إضافة نحو 102 ألف و200 فرد من أفراد للحرس الوطنى من القوات شبه العسكرية. وقد شهدت هذه الأرقام أطراءا فبعد أن كان الجيش يبلغ قوامه 800 ألف جندى عام 1985 استقرت به الأمور في السنوات الأخيرة على هذه الأرقام التى ذكرها المعهد في لندن. فمنذ وصوله إلى السلطة قام الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بتطهير القيادات العسكرية عدة مرات. فهذا الجيش الذي تمتلكه تركيا التى يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة، والتى تعد من البلدان الرئيسية في حلف شمال الأطلنطى، قد قاد بالفعل ثلاثة انقلابات إبان النصف الثانى من التسعينيات ( 1960 – 1971 – 1980 ) كما أنه في عام 1997 أجبر نجم الدين أربكان المعروف بتوجهاته الإسلامية على الاستقالة من منصبه لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري فعلي. على صعيد المعدات العسكرية نجد أن الجيش التركى معزز بالعديد من أحدث التجهيزات وأقواها، وذلك لتعزيز الدفاع عن الأراضى وخصوصا ضد تهديد الانفصاليين الأكراد المتمركزين في العراق. وتشارك تركيا بجيشها ضمن التحالف الدولى ضد تنظيم الدولة (داعش) . وبرغم التقدم الكبير الذي أحرزه الجيش التركى منذ أوائل 1990 فإن الخبراء يعتبرون أن جزءا من ترسانته قد بلغ من العمر أرذله بمعنى أنه أصبح خارج نطاق الخدمة. ووفقا لمعهد الدراسات الإستراتيجية فإن القوات الجوية التركية تمتلك 364 طائرة مقاتلة معظمهما إف 16 والجيل القديم من الفانتوم إف 4. أما بالنسبة للقوات البحرية فإن لديها إمكانات وقدرات قوية على القيام بعمليات مضادة للغواصات فهى تملك 13 غواصة و18 فرقاطة 6 طرادات.
الجيش التركى.. كيان يحمل الكثير من المخاطر للسلطة بعد إخلاء الشرطة لساحة تقسيم بإسطنبول في ال 17 يونيو عام 2013 والذى اندلعت فيه الحركات الاحتجاجية ضد حزب العدالة التنمية والذى يحكم منذ عام 2002 وعقب الدعوة التى قامت بها اثنتان من أكبر النقابات هناك لعمل إضراب قامت الحكومة على الفور بالتلويح باستخدام قبضة الجيش ضد المتظاهرين والذى لم يكن موجودا في الصورة حتى هذه اللحظة. منذ بداية الاحتجاجات في 31 مايو 2013 استخدمت الحكومة التركية شرطة مكافحة الشغب لقمع المحتجين في إسطنبول وأنقرة. وكان هذا الاستخدام للشرطة في البلاد عظيم الأثر في إبراز العلاقة الخاصة بين الرئيس التركى رجب طيب أردوغان وبين قوات الشرطة في بلاد شهدت أربعة انقلابات عسكرية في القرن العشرين. وبالتالى تسبب استخدام الشرطة في تسليط الضوء على غياب الجيش الذي يعتبر نفسه وصيا على إرث مصطفى كمال أتاتورك العلمانى مؤسس الجمهورية التركية عام 1923. ولعل هذا ما جعل أردوغان يفضل دوما الشرطة على الجيش، وهذا ليس من قبيل المصادفة فعلى مدار 11 عاما في السلطة عمد أردوغان (الإسلامى المحافظ) إلى تقليم أظافر الجيش وكبح جماحه تدريجيا وإجراء عمليات تطهير بشكل دورى في الوقت الذي يقوم فيه أيضا القضاة الأتراك بإصدار أحكامهم على ضباط الانقلابات السابقة أو المتآمرين للإطاحة بحكومته. باعتباره حامى حمى العلمانية في تركيا نصب الجيش التركى نفسه وصيا على الدولة، ولطالما تدخل في السياسة عن طريق الانقلابات العسكرية. فالقادة العسكريين كانوا يطيحون بالحكومات التى يرون من وجهة نظرهم أنها فقدت السيطرة على البلاد أو أنها ضد العلمانية. في عام 1960 تمت الإطاحة برئيس الوزراء التركى آنذاك عدنان مندريس. وفى عام 1971 حدث الانقلاب العسكري التركي في 12 مارس ليعد ثاني انقلاب عسكري في جمهورية تركيا، بعد أحد عشر عامًا من سابقه الذي حدث عام 1960، وانتهت المسألة بعزل حكومة سليمان ديميريل. وفي 12 سبتمبر 1980 حدث انقلاب عسكري بجمهورية تركيا تزعمه الجنرال كنعان إيفرين، حيث استحوذ على السلطة بالقوة وأعاد كتابة الدستور ليشمل الحق القانونى للجيش في إسقاط الحكومة، وفى عام 1997 أجبر قادة الجيش نجم الدين إربكان على تقديم استقالته طواعية بدلا من اللجوء للعنف وإراقة الدماء . الطريف أن أردوغان في ذلك الوقت كان يشغل منصب عمدة إسطنبول، وزج به في السجن لمدة أربعة أشهر لأنه قرأ إحدى القصائد بلهجة إسلامية! وعندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 بدأت عملية التنظيف والتطهير من القمة، حيث جرت عدة محاكمات مدوية وتمت إعادة فتح ملفات سنوات الديكتاتورية السوداء والشبكات السرية. وباعتبار أن الجيش التركى هو دولة داخل الدولة، فإنه دوما يقبع تحت الملاحظة خصوصا بعد تدخلاته الكثيرة ولمدة طويلة في الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد، استنادا لدوره التاريخى في تأسيس تركيا الحديثة ذات التوجه الديمقراطى العلمانى، فإن أردوغان تمكن من كبح جماح كل ذلك مع توالى ضربات التطهير والمحاكمات التى قضت على السلسل الزمنى. وقد عمد أردوغان إلى جعل الجيش هدفا للانتقادات والاتهامات بالتآمر للإطاحة بالحكومة. ومنذ عام 2007 والاتهامات تتوالى على العشرات منهم وعلى رأسهم جيتين دوغان قائد سلاح البحرية إبان بداية الألفية الثالثة وكان قد قام بدور أساسي في الحملة التي شنها عسكريون في 1997 وأدت إلى استقالة أول رئيس حكومة إسلامية في البلاد نجم الدين أربكان الذي يعتبر مرشد أردوغان. وقد تم اتهام جيتين أيضا بأنه أعد سلسلة من الهجمات بهدف زرع الفوضى في تركيا لتبرير تدخل الجيش لحفظ السلم الداخلى للبلاد. نفس الشىء بالنسبة للجنرال السابق كنعان أفرين الذي توفى العام الماضي، والذى اعتبر انه المسئول عن انقلاب 1980 باعتبار أنه كان رئيس المجلس العسكرى ومنذ عام 2010 تمت محاكمة 365 من الضباط العاملين والمتقاعدين بتهم مختلفة. ولعل الجنرال السابق ليفنت أرسوز الذي كان يحاكم منذ عام 2008 بتهمة قلب نظام الحكم عن طريق تسميم الرئيس السابق تورجوت أوزال هو خير دليل على ذلك، وذلك إضافة إلى 300 شخص من ضمنهم رئيس أركان سابق تتم جميعا محاكمتهم بتهمة محاولة قلب نظام الحكم فيما يسمى بجماعة "شبكة إيرجينيكون". وإيرجينكيون هذه هى اسم مكان أسطورى فى آسيا الوسطى انحدر منه الشعب التركى لتصبح للقضاء اليد الطولى في المؤسسة العسكرية التى ظلت لعقود طويلة تتمتع بحصانة فولاذية غير قابلة للمساس. ولكن إذا كان حزب العدالة والتنمية يرى أن هذه التجارب القضائية تمثل خطوة رئيسية نحو تحقيق الديمقراطية في تركيا فإن أنصار الإرث العلمانى الأتاتوركى يرون أنها مؤامرة لإسكات المعارضة وتسهيل الأسلمة التى تزحف للبلاد. الشىء اللافت للنظر أن تركيا اليوم تتعامل مع الدولة العميقة المتمثلة في هذه الشبكة غير الرسمية من الجيش والمدنيين الذين قاموا على مدى عقود بإعدام المنشقين والشيوعيين والصحفيين والإسلاميين على أنهم يمثلون تهديدا للدولة. في النهاية يمكننا القول إن الانقلاب ضد أردوغان قد فشل بالتأكيد، ولكن تظل قوة أردوغان الداخلية والذى يواجه العديد من التحديات تتمثل في الاستفادة من هذا الانقلاب الفاشل للقيام بتصفية خصومه الديمقراطيين والتقدميين، وأيضا تظل القوة التى يجب أن يحسب لها أردوغان ألف حساب هى قوة الأكراد الذين ليس لديهم أى استعداد للتخلى عن حقوقهم المشروعة وكذلك عدم استغلال هجماته ضد داعش لضربهم حتى لا يواجه كارثة أخرى مثل كارثة مطار إسطنبول، والتى كان من شأنها إضافة إلى هذا الانقلاب الفاشل الأخير أن تفقد تركيا قوتها الإقليمية في المنطقة برمتها.