مهدى مصطفى كانت ليلة تركية دامية. ليلة الخامس عشر من يوليو 2016. تحرك عساكر الانكشارية الأتراك فى شوارع مدينة إسطنبول والعاصمة أنقرة. أعلنوا نهاية السلطان رجب طيب أردوغان، سلطان العثمانية الجديدة، كان فى منتجع سياحى يقضى إجازة سعيدة مع أفراد حاشيته. وجد نفسه خارج العرش فى لحظات. 2 التليفزيون الرسمى يذيع بيانا عسكريا لقادة الانقلاب. الجيش يسيطر على الحكم من أجل السلام والديمقراطية. لم يجد أردوغان إلا صهره بيرات البيرق، زوج ابنته الساطع لينصحه باستخدام مواقع التواصل الاجتماعى، يا لها من أقدار . منذ أشهر طويلة يحذر أردوغان من هذه المواقع، يعتبرها خطرا على الأمة العثمانية الجديدة، يتهم دولا غربية بالمؤامرة على حكمه السلطانى، الآن هو مضطر إلى شرب هذا السم، يظهر على شاشات الموبايلات، وأجهزة الكمبيوتر، ليدعو أنصاره للنزول إلى الشوارع، وتصفية الانقلاب بكل الطرق، بما فيها استخدام العنف والرصاص. 2 كان الرئيس السوفيتى ميخائيل جورباتشوف فى منتجع سياحى فى شبه جزيرة القرم. عرف من إذاعة البى. بى. سى نبأ الانقلاب العسكرى. كان حائرا لا يعرف ماذا يفعل. ثلاثة أيام وهو معزول عن العالم، لم تكن هناك مواقع تواصل اجتماعى، لكنه على غرار جماعة أردوغان ليلة الخامس عشر من يوليو، وجد ضالته فى بوريس يلتسين، صديقه الروحى فى مسألة الجلاسونست والبروستريكا، أى إعادة المصارحة والمكاشفة، والإصلاح، فالسكير المدمن يلتسين ذهب إلى الشارع، حشد الأنصار، أوقف تدفق الدبابات إلى الشوارع، منع العربات العسكرية من التقدم، ومن مفارقات تلك الأيام، أن إشارة المرور فى أحد ميادين موسكو أصبحت حمراء فتوقف رتل الدبابات، احتراما ، فانقضّت الجماهير الغاضبة بقيادة يلتسين على هذا الرتل الملتزم بقانون المرور. 3 أركان حاشية أردوغان سارت على دربه، يظهر أحمد داود أوغلو تليفونيا على قناة الجزيرة القطرية، عبد الله جول يرسل تويتاته الحارقة إلى الشعب، رئيس مخابراته المقرب هاكان فيدان يستخدم وكالة الأناضول، العساكر فى الشوارع، تركيا معزولة عن العالم لساعات، توقفت حركة التجارة العالمية فى مضيق البسفور، وطريق بحر قزوين، وميناء جيهان، وتركيا موقع خطير فى حركة التجارة والسياسة العالمية، فهى دولة وظيفية بامتياز، فى الحروب والاقتصاد الحر، وترتيب السياسات وترسيم الخرائط، ودائما ما تكون لها حكومة علنية وأخرى سرية، أو كيان موازٍ كما يعترف أردوغان نفسه. 4 انتظرت أوروبا وقتا طويلا حتى تعلن موقفها من تصفية حكم أردوغان، واشنطن تترقب كالعادة، يستفيق أردوغان من الصدمة، يعلن أن قائد الانقلاب محمد فتح الله جولن، وما أدراك ما جولن، صاحب جماعة «الخدمة»، الممتدة فى أربعة أركان الأرض، كحركة يشجعها الغرب والشرق معا، بوصفها حنفية صوفية، لها مدارسها فى معظم عواصم الدنيا، صاحبها يقيم فى بنسلفانيا بالولايات المتحدةالأمريكية، لديه شبكة علاقات خارقة، محطات تليفزيونية ، مواقع إنترنت وعدد من الصحف الكبرى. وكان قبل حين يمثل دور والد أردوغان الروحى قبل أن ينقلب على الأخير، ليذهب أردوغان بعيدا فى طريق نجم الدين أربكان أبى الإسلام السياسى التركى، ليقطع أردوغان الحبل السرى بينه وبين جولن، فجولن كشف إمبراطورية الفساد الأردوغانى وابنه بلال، فحق عليه التصفية وقطع دابر حركة الخدمة من جذورها كما صرح رئيس الوزراء بن على يلدريم، مطالبا واشنطن بتسليم جولن المحمى بتنظيمات سرية عالمية. 5 يا لها من مفارقة. أردوغان كان الشخص الوحيد غير الأمريكى الذى حصل على مشروع الشرق الأوسط الإسلامى الموسع من جورج بوش. ففى شهر إبريل عام 2004 استدعى بوش الصغير أردوغان إلى البيت الأبيض، سلمه مسودة المشروع. اختاره ليكون سلطان العثمانية الجديدة. خرج أردوغان سعيدا. قال فى تصريحات تليفزيونية بفخر: تركيا تقوم بدور كبير ومهم فى الشرق الأوسط، أتعلمون ما هو؟ لقد أصبحنا جزءا ممن يتزعمون مشروع الشرق الأوسط، ومشروع شمال إفريقيا. قبلها كان أردوغان يقول فى تصريحات أخرى: أصبح بلدنا مختلفا. أصبح نجما ساطعا فى مشروع الشرق الأوسط! 6 كان رفيقه فى حزب العدالة والتنمية، ومفكر الحزب أحمد داوود أوغلو، وضع نظرية (صفر مشاكل) مع جيران تركيا. وكان أردوغان وعائلته يسافرون إلى الشام، يستضيفان فى بيت عائلة الأسد، وليس فى قصور الرئاسة السورية، وبالمثل كان الأسد يفعل فى تركياوإسطنبول. أما أرمينيا، واليونان، والعراق، وبلغراد، وإيران، وأذربيجان، والأكراد فوجدوا أنفسهم فى علاقات حميمة مع جماعة أردوغان، وبدت تركيا الجديدة غير تركيا التى عرفها الجيران على مدى قرون، لكن يا فرحة ما تمت، فمن ينظر الآن إلى هؤلاء الجيران فسيجدهم فى حيص بيص، وحروب، وفوضى تلعب فيها تركيا البطل المقدام، فلم يكن غريبا أن يطلق السوريون زخات الرصاص فى الهواء، ابتهاجا بتصفية السلطان الجديد، حتى لو بانقلاب عسكرى ينتمى إلى عصر الخمسينيات من القرن الماضى. 7 تقول الحكمة المشهورة: كل قط يحب خناقه. وأردوغان وقع فى فخ زعيم جماعة الخدمة جولن، وجولن له آلاف العساكر التابعون له، وآلاف القضاة، وأساتذة الجامعات، والصحفيون، وجاهز لتسلم الحكم فورا فى حالة الانتصار على سلطان الإسلام السياسى، وأستاذه نجم الدين أربكان، ولم يجاف أردوغان الحقيقة عندما أطلق على جماعة الخدمة بالكيان الموازى، وهو الكيان المزمن فى الحالة التركية منذ نشأة هذه البلاد التى تشكلت من ملايين الأعراق والجنسيات، وكأنها من (كل زيق رقعة) كدولة أو جماعة أو إمبراطورية وظيفية فى قلب آسيا الغربية، وصولا إلى آسيا الوسطى وجزيرة العرب، حتى شمال إفريقيا. وهل يجد الأوروبيون معبرا إلينا أفضل من الجسر التركى؟ 8 مشاهد جنود العرايا ليس جديدا على ثقافة العثمانية القديمة والجديدة. ففى أثناء غزو مصر قتلوا عشرة آلاف مصرى من العوام وهم عرايا. وهى صور محفورة فى ذاكرة التاريخ، ولا سبيل إلى طمسها من هذه الذاكرة. كما لن تمحى قصة شلح الجنود من قبل الميليشيات التركية. 9 عاد أردوغان، عاد جريح الذاكرة. عاد بدون جيش. يا لها من مفارقة، فأردوغان أحد مصممى تصفية الجيوش العربية، فإذا به يصفى جيشه بيديه. ويا لها من مفارقة أن يتهم أمريكا بالضلوع فى الانقلاب، ولا يجد إلا روسيا وإسرائيل لتعيده إلى صدارة المشهد، ويا لها من مفارقة أن يظهر أحد كتاب المارينز المصريين مدافعا عن أمريكا بأنها لم تكن تعلم بالانقلاب، تماما مثلما لم تكن على علم بالربيع العربى!!! من أردوغان إلى جولن يا قلبى لا تحزن. واحد يريد العرب، والثانى يريد آ سيا الوسطى. واحد تركى «مخلط»، و آخر تركى نقى!!