حسناء الجريسي على الرغم من الجهود التى كانت تبذلها الكنيسة فى العصور الوسطي، لإقامة السدود تلو السدود للحيلولة دون بلوغ الفكر الإسلامى إلى العالم المسيحي، فإنه تكون ما يسمى بالأديرة الأوروبية، فى المراكز الثقافية من معاهد للعلوم العربية لترجمة كتب المسلمين فى الفلسفة والطب والفلك والطبيعيات وغيرها إلى اللغة اللاتينية التى كانت لغة العلماء فى أوروبا الغربية. وبالنسبة لترجمة القرآن فإن أول ما يستحق الذكر على أنه محاولة أولي، كان فى دير كلينى فى جنوبفرنسا، وهو من الأديرة التى كان بها مركز للدراسات العربية، فقد أصدر راعى الدير بطرس دوبومونتبوا ترييه، تعليماته الخاصة بوضع ترجمة القرآن باللاتينية بغرض تفنيده، وذلك فى مقابل أجر طائل، وقد اشترك فى هذه الترجمة ثلاثة منهم إنجليزى يسمى "روبرتوس الرتيني" وآخر ألمانى هرماتونس الدلماسى وراهب إسبانى عربي، واستغرقت هذه المهمة ثلاث سنوات، خرجت منها الترجمة غير جديرة أن تسمى ترجمة، لكثرة ما فيها من حرية التصرف الذى لا يمكن تعليلها والأخطاء التى لا عداد لها، فضلا عن الحذف والإضافة حتى لم يبق بها من المشابهة للأصل إلا النادر الأقل، وبقيت هذه الترجمة مخطوطا ما لا يقل عن أربعة قرون، طبعت بعدها على يد "تيودور بيلياندر" سنة 1543 فى مدينة بال السويسرية، فما كادت تنشر هذه الترجمة اللاتينية السويسرية التى رأينا عدم جدارتها بأن تسمى ترجمة حتى ترجمت إلى اللغات الحية الإيطالية والألمانية والهولندية، وهذا على أى حال دليل قاطع على مبلغ اهتمام العالم الأوروبى بالاطلاع على القرآن، ومما يلفت النظر أنه فى أواخر القرن الخامس عشر، عند استرداد الإسبان بلاد الأندلس كلها وطردهم المسلمين منها، إلا من أظهر اعتناقه المسيحية دين المنتصرين، كان من أهل "بلنسية "عالم مسلم، كان قد أظهر المسيحية باسم يوحنا أندرياس "وانقلب قسا فأمره"مارتن جارسيا " أسقف برشلونة ورئيس محكمة التفتيش فى مملكة أراجون، أن يترجم القرآن إلى اللغة الإسبانية الأرجوانية مع شروح فى تفنيده، ففعل الرجل وزاد على ذلك ترجمة كتب السنة السبعة، ويقول أحد كبار المبشرين المتأخرين "جورج سال" إنه لا يشك فى جودة ترجمة مثل هذا العالم للقرآن، بحكم نشأته ودراساته الإسلامية فى بيئته الأولي، ولكن تفنيده للقرآن وهو الشيء الوحيد الذى أمكن وجوده ، فلا يشهد له بالقدرة والإجادة". نود أن نلفت الانتباه إلى أن ترجمات القرآن لم تكن تنشر إلا مشفوعة بالمقدمات أو الحواشى والتذييلات فى دحض الكتاب الكريم وتفنيده، ومن قبيل الإعلان من جانب المترجمين المسيحيين عن حسن إيمانهم وصحة عقيدتهم، دفعا للشبهة عن أنفسهم وتزكية لعملهم عند أهل ملتهم، تكفيرا عنه، وهذا ما جرت عليها الحال – كما رأينا فى الترجمات السابقة، وسنرى أن الأمر جار على ذلك المنوال بعد ذلك حتى أوائل القرن الثامن عشر، وفى القرن السادس عشر المعروف بعصر النهضة الفكرية والإصلاح الدينى فى أوروبا وبدء التاريخ الحديث، قام "بانييتوس" وهو من أبناء بريشا" على نشر وطباعة القرآن فى نصه العربى مما جعل البابا يغضب كثيرا، وعلى الفور أمر بجمع النسخ المطبوعة كلها وحرقها، وأقام البابا لذلك احتفالا دينيا شهده شخصيا ، ليظهر للعالم المسيحى استنكاره البابوي. ويمكننا القول إن تيار الترجمات للقرآن لم يقف منذ بدأ بل تجاوز حد الترجمات الناقصة إلى الترجمة للنص القرآنى كله، ويظهر هذا بجلاء فى الترجمة الفرنسية التى طبعت فى باريس سنة 1647 للمستشرق الفرنسى أندريه دى ريير، الذى كان دبلوماسيا فى الآستانة ثم قنصلا فى مصر، وقد نشر أكثر من مصنف يدل على تنوع دراساته الشرقية، ومن ذلك كتاب باللغة اللاتينية عن الأجرومية التركية، ومن بعده ترجمة عن الفارسية لكتاب جولستان "أو بستان الورد للشاعر الفارسى سعدى " وأخيرا وليس آخرا ترجمة للقرآن كله، وعلى الرغم أن هذه الترجمة لا تخلو من أخطاء فى كل صحيفة، فإنها كانت خير ترجمة فى ذلك الحين، وقد بلغ من شهرتها وما وجدته من رواج أن نقلت إلى مختلف اللغات الأجنبية الأخري، ومنها تلك الترجمة الإنجليزية الأولى التى قام بها إسكندر روس وطبعت على فترات فى السنوات 1649-1688ومما يؤسف له أن المترجم الفرنسى المنقول عنه، لم يحتفظ بأسلوب نظم القرآن من حيث تفصيل الآيات بل وصل بينها أسوأ وصل، فجاءت هذه الترجمات فاقدة للشاعرية من كل سحر، ولم تلبث هذه الترجمات كلها أن بدت للعلماء الأوروبيين هزيلة، حين ظهرت سنة 1698 ترجمة لاتينية للقرآن ومعها النص العربى الكريم، طبعها فى مدينة "بادوا " فى الشمال الشرقى من إيطاليا ، القس الجزويتى "الأب لويس ماراتشى المستشرق الكبير، المشهور بتطلعه فى اللغات الشرقية، والذى كان يعمل أستاذا بكلية المعرفة والدعاية الدينية ، والذى ارتضاه البابا "أنوسنت الحادى عشر " للاعتراف على يديه، ومن الأعمال التى اشتهر بها هذا المستشرق الجزويتى نقله التوراة إلى اللغة العربية سنة 1671 لاستعمالها فى الكنائس الشرقية، أما ترجمته للقرآن من اللغة العربية إلى اللاتينية، فقد قضى فيها أربعين سنة وألزم نفسه الدقة الحرفية حتى فى ترجمة مصطلحات التعبير العربية كما هي، فجاءت الترجمة من حيث الدقة والأمانة الحرفية، على الرغم من بعض الغرابة أفضل من كل ما سبقها، كما أنه شفعها بالكثير مما نقله عن كبار المفسرين المسلمين، ولكنه للأسف الشديد أضاف إلى تعليقات المفسرين المسلمين أضعافا مما أملاه عليه التعصب الدينى من التعليقات، العدائية المجحفة والمهاترات المقذعة التى ما كان ليصح أن تجرى من عالم مثله على لسانه، وأن يكون عنوان كتابه "تفنيدة القرآن" وعلى أساس هذه الترجمة أخرج المبشر الإنجليزى جورج سال "بعد ربع قرن من ترجمته الإنجليزية المشهورة مع الشروح التاريخية والمقدمة المستفيضة السيئة النية، وقد تعددت منذ ذلك الحين إلى اليوم طبعات هذه الترجمة تلبية لحاجة فى نفوس بعض المغرضين، ومما يذكر بهذه المناسبة، أنه قبل ظهور الترجمة اللاتينية للقس الجزويتى الإيطالى سنة 1698 مشفوعة بالنص العربى للقرآن ، ظهرت للقرآن الكريم باللغة العربية طبعة كاملة لم تلق ما لقيته سابقتها فى روما على يد البابا صاحب السيادة الدينية على العالم الكاثوليكي، وذلك لأن هذه الطبعة الثانية للقرآن الكريم فى نصه العربى ظهرت سنة 1649 بمدينة هامبورج فى ألمانيا البروتستانتية، وكذلك صدرت فى ألمانيا ، وبالتحديد فى برلين سنة 1701 ، طبعة للقرآن بأربع لغات الأصل العربى والترجمات الفارسية والتركية واللاتينية. وقد ظهرت بعد ذلك طبعة ثالثة للقرآن الكريم باللغة العربية فاقت جودة الطبع وما سبقها من الطبعات الأوروبية واستأثرت بالشهرة، وهى مطبوعة سنة 1787 فى سان بطرسبورج عاصمة روسيا الأرثوذكسية، بأمر الإمبراطورة كاترين الثانية بمناسبة زيارتها لبلاد القرم التى كانت قد ضمتها إليها، وذلك مرضاة لرعاياها الجدد من التتار المسلمين. لكن يبدو أن الأمر كان مختلفا فى القرن الثامن عشر ففى عام 1776 أى قبل إحدى عشرة سنة من ظهور الطبعة العربية للقرآن، نذكر منها ما نقل إلى اللغة الروسية وطبع أول ما طبع فى سان بطرسبورج. وكانت مفاجأة القرن الثامن قبل ختامه أن طلع علينا بخير الترجمات الفرنسية للقرآن حتى ذلك الوقت، منها ترجمة المستشرق الفرنسى "نقولا سافاري" التى طبعت فى باريس سنة 1783، ومما هو جدير بالذكر، أن هذا المترجم الأديب بعد أن أتم دراساته فى فرنسا، قدم إلى مصر سنة 1774 وهنا أقام عندنا أكثر من خمس سنوات، خالط فيها البيئة العربية، وجلس إلى مشايخ الأزهر يأخذ عنهم حتى تمت دراسة لغة القرآن تحت ملاحظتهم، ابتغاء الوصول إلى ما يمكن للأعجمى الوصول إليه من أسرارها، وفى وسط هذه البيئة العربية الإسلامية، التى رأى أبناءها عند السماع لتلاوة القرآن، كيف تأخذهم الروعة، وتداخلهم النشوة ويستولى عليها البكاء، عكف "نقولا سافاري" على عمله الممتع الشاق، محاولا أن يدخل عليه جهد ما استطاع بعض التنغيم والإيقاع، حتى فرغ من ترجمة القرآن الكريم، ولما عاد إلى فرنسا سنة 1781 شرع فى طبع الترجمة مشفوعة بما يحتاج إليه القارئ الأجنبى من الحواشى والتعليقات، مع مقدمة إضافية عن حياة سيدنا محمد معتمدا فيها على أساس تاريخ المؤرخ العربى أبى الفداء ثم غيره من المصادر، وقد صدرت هذه الترجمة سنة 1783 ، من جزأين ثم أخرج فى أعقابها خلاصة عن الشريعة الأخلاقية عند " سيدنا محمد عليه السلام " كما نشر فى خلال سنتين 1788- 1789 " رسائل عن مصر " فى ثلاثة أجزاء ، وبعد وفاته صدر كتاب له بعنوان " أجرومية اللغة العربية ، الفصحى والعامية". ومن طريف ما يذكر فى شأن تلك الترجمة الفرنسية للقرآن التى قام بها "سافاري" ما تم من تقديمه مخطوطها إلى ملك فرنسا لويس السادس عشر، الذى أصدر الأمر بمراجعة هذا المخطوط إلى سكرتيره الشرقى العلامة المستشرق "دينى كاردون" وكان قد قضى فى الأستانة عشرين عاما عكف فيها على دراسة اللغات التركية والفارسية والعربية مع آدابها، فرفع للملك تقريرا، فصدر الأمر بأن ترسل نسخة من التقرير للمترجم، فنشره الناشر فى الطبعة الأولى لترجمة القرآن بتاريخ 29 من إبريل سنة 1782 أى قبل سبع سنوات من قيام الثورة الفرنسية التى ساقت الملك إلى الإعدام بالمقصلة. أما فى القرن التاسع عشر فنذكر من ترجماته للقرآن ترجمة فرنسية أخرى ظهرت سنة 1840 للمستشرق "كازيمرايسكي" البولونى الأصل الذى اتخذ فرنسا وطنه المختار واشتغل سنوات عدة بالسفارة الفرنسية فى إيران ومن واجب الإنصاف أن نسجل أن ترجمته للقرآن أثنى عليها وأشاد بها وفضلها على غيرها من الترجمات الفرنسية، المستشرق الإيطالى المعاصر، كارلو نللينو" المعروف لدينا فى مصر بمحاضراته التى حضرها د. طه حسين أثناء دراسته فى الجامعة المصرية ، ونحن إذا ذكرنا أن "كازيمركيسكي" عالم لغوى كبير، وأنه قد صدر له سنة 1845، قاموس عربى فرنسى مشهور، لا يسعنا التردد لحظة فى القول بأن ترجمته للقرآن أقرب دون شك إلى الأصل من الناحية اللغوية وأصح، ولكنها فيما نعتقد أقل من ترجمة سافاري"طلاوة وموسيقية ومن أجل الطلاوة الموسيقية صار فى حكم المتفق عليه المعترف به، أن ترجمة سافارى هى الأكثر حتى اليوم رواجا. ولما كان مجال القول أضيق من أن يتسع لذكر بقية ترجمات القرآن والكلام عنها وهى أكثر من أن يحيط بها حصرنا فنكتفى بذكر بعضها هنا. فمن أهمها فى اللغة الألمانية ترجمة للمستشرق العلامة فلوجيل سنة 1841 كذلك تعددت ترجمات القرآن فى اللغة الإنجليزية مثل ترجمة "رودويل" سنة 1861ومن بعده سنة 1880 ظهرت ترجمة "بالمر" الذى زعم البعض أنه صرف فيها همه إلى الخصائص الجمالية فى أسلوب القرآن. وجاء فى الترجمة الإيطالية ترجمة للمستشرق أكيليو كاسي، وقد نشرها ومعها النص العربى بحيث تكون الترجمة والأصل فى صفحتين متقابلتين، وكان طبعها فى ميلانو سنة 1914كما ظهرت بعدها عام 1929 ترجمة للمستشرق بونللى وغيرهما كثير ومن طريف المترجمات لا نغفل تلك المبادرة التى قام بها إنجليزى مسلم هو "خالد شلدريك" بترجمته القرآن الكريم إلى الإسبرانتو، التى كان مفترضا فى وقت من الأوقات أن تكون اللغة العالمية.