عزمي عبد الوهاب انضم نزار قباني إلى السلك الدبلوماسي السوري في أغسطس سنة 1945 كان في الثانية والعشرين من عمره، يوم عين ملحقا بالسفارة السورية بالقاهرة، منذ تلك اللحظة ظل مأخوذا بلعبة السفر لمدة عشرين عاما (من 1945 إلى 1966) صار قلبه مليئا كحقيبة امرأة، على حد تعبيره، ومزدحما كمدينة من مدن الصين، فمن شمس القاهرة إلى مآذن استنبول إلى أمطار هونج كونج إلى نافورات روما، إلى شحوب لندن إلى مرتفعات سكوتلاندا إلى ثلوج موسكو إلى معابد تايلاند إلى سور الصين العظيم إلى مقاهي الرصيف في سان جيرمان، ومنها إلى ملاعب مصارعة الثيران في إسبانيا، إلى غرناطة ومنها إلى هولندا والبحيرات السويسرية ورمال نيس ومونت كارلو إلى لبنان.
ذلك كان مسار رحلة نزار قباني الدبلوماسي، الذي أعجبته لعبة السفر، وأدمن دوار البحر، حتى صارت سطوح المراكب سريره، ومقاعد الطائرات وطنه، وصار قلبه كرويا كالأرض، وكلها اختيارات ومشاعر نزار قباني الشاعر العظيم والناثر الأعظم، نزار الذي لم يكن يتصور في بداية الرحلة الدبلوماسية، أنه سيصبح طائرا هولنديا، وأن غباره سيتناثر على كل القارات، فحين ارتفعت به الطائرة تاركة خلفها مآذن دمشق وقبابها وبساتينها، شعر بأنه انفصل عن جاذبية الأرض والتاريخ، رغم أنه يعرف أن الشعور بانعدام الوزن شعور مريح بالنسبة للشاعر، لأنه يتيح له أن يكتشف أبعاد جسمه الحقيقية، وينعتق من الضغوط الخارجية على فكره وأصابعه.
كان للعمل الدبلوماسي تأثيرات كبيرة على نزار الشاعر فهو يقول في “قصتي مع الشعر”: “مع كل خطوة كنت أخطوها، كان قلبي يكبر، وشبكية عيني تتسع، وآبار نفسي تمتلئ، والبدوي في داخلي يرق، ويشف ويتحضر، إن اصطدامي بالعالم وبالمدن واللغات والثقافات، جعل ذاكرتي كذاكرة آلة التصوير، لا تنسى شيئا ولا تهمل شيئا، ومن هذا المخزون الهائل من الخطوط والألوان والأصوات ومن رائحة البواخر الحادة ورائحة الفنادق، التي تكتب وتمحو وجوه نزلائها، ونوافذ القطارات التي تمضغ في طريقها آلاف الأشجار ومناديل المودعين، ومن ضجر المقاهي وأحزان فناجين القهوة، ومن سفري داخل الكتب، وسفري داخل الإنسان، تكون عندي قاموس شعري، لا تنتمي مفرداته لأرض معينة أو وطن معين، هذا القاموس الشعري ليست له جنسية، فهو ليس دمشقيا ولا مصريا ولا لبنانيا ولا فرنسيا ولا إنجليزيا ولا صينيا ولا إسبانيا”.
يواصل نزار قباني تماهيه مع تأثيرات عمله ملحقا في السفارة السورية في مختلف دول العالم قائلا: “إنني في شعري أحمل جنسيات العالم كلها، وأنتمي إلى دولة واحدة، هي دولة الإنسان، هذا هو انتمائي الأساسي والوحيد، لذلك لم أدخل في أي حزب سياسي، ولم أنتسب لأية رابطة أو جمعية من أي نوع، فأنا من المؤمنين بأن أي انتماء مهما كان مثاليا وطاهرا، من شأنه أن يربط عربة الشعر بحصان المغامرة الزمنية، وينحرف بها عن خط سيرها الأصلي”.
على هذا فإن نزار قباني مدين لعمله الدبلوماسي بالكثير، وما قدمه له الرحيل إلى عواصم العالم، يجعلنا نسأل كيف تكون ملامح شعره حال بقي مغروسا في تراب وطنه كوتد خيمة؟ هو نفسه كان يعي إجابة هذا السؤال حين قال: “لقد رفضت حالة الشاعر – الشجرة، واخترت قدر الشاعر – العصفور، ذلك لأن الشجرة لا تستطيع، مهما حاولت، أن تغير محل إقامتها ومواضع جذورها، وشكل أوراقها، أما العصفور فأهم ما فيه أنه يستطيع أن يخترع كل ثانية وطنا جديدا”. كان نزار ينتمي إلى زمرة الشعراء الغجر، الذين يحملون حاجاتهم في خيمة، يفترشونها في أي أرض، يجدون فيها الحب والشعر والحرية، لقد أدخله عمله الدبلوماسي أعظم القصور، فعرف الملوك والملكات والأمراء والنبلاء ورؤساء الجمهوريات، وبعد أن التقى بهم اكتشف أن الشعر وحده هو الملك، وأنهم هم من كانوا في حضرته، كان يشعر بأن كل قاعة دخلها، أو مقعد جلس إليه، يرحب به كشاعر لا كدبلوماسي، من هنا كما يقول: “نشأ الصدام الذي استمر عشرين عاما بين حقيقتي وبين مهنتي، بين الوجه والقناع، كانت الدبلوماسية قناعا من الشمع، ألبسه في المناسبات، وكنت أذهب إلى الحفلات الدبلوماسية مضطرا، كما يذهب التلميذ إلى مدرسة لا يحبها، ولكم فكرت في لحظة من لحظات البراءة أن أحرق كل الملابس التنكرية وربطات العنق البيضاء والسوداء والأحذية اللماعة التي تعارف الدبلوماسيون على ارتدائها، وأركض تحت المطر كطفل عاري القدمين، أو كحصان لا صاحب له”.
شهادة نزار قباني عن العمل الدبلوماسي لا تعني أحدا سواه، لا تخص غيره ممن امتهنوا هذا العمل، فهو شاعر متمرد باستمرار على الواقع الذي يحيطه، حتى لو تغير هذا الواقع على النحو الذى يريده ، فلم يكن ليكف عن التمرد، وعلينا أن نلتمس العذر له حين يقول: “إن عالم السفارات متحف من متاحف الشمع، كل ما فيه مصطنع ومزور وغير حقيقي، وكل المعروضات فيه مطلية بقشرة سميكة من التظاهر والنفاق، لا يمكن لأي دبوس أن يخترقها، واللغة الدبلوماسية لغة عائمة، تنمو كالفطر على أطراف الفم وتموت في مكانها، إنها لا تضيء شيئا ولا تعني شيئا ولا تعطي شيئا، إنها كالزهور الاصطناعية، ألوانها فاقعة، ولكن لا رائحة لها، إن التمثيل الدبلوماسي تمثيلية لم أكن أتقنها، إن طبيعتي تأبى التمثيل، وقد كانت ذروة المأساة بالنسبة لي كشاعر، ربط قدره بالكلمة، أن أضطر إلى تداول الكلمات المغشوشة، ولقد استمر هذا الفصام الحاد بين لغة أحب أن أقولها ولا أقولها، وبين لغة أكره أن أقولها وتدفعني حرفتي إلى قولها”.
في ربيع عام 1966 استطاعت لغة الشعر أن تقتل اللغة الدبلوماسية، وتعيد نزار قباني المشطور إلى نصفه الآخر، ليكتمل ويتوحد، لقد قدم استقالته لينقذ الرجل الثاني الذي – على حد تعبيره – “كادت تطحنه عجلات السيارات الطائشة، والخارجة دائما على القانون، والتي تحتمي بلوحة كتب عليها “هيئة سياسية” وبعد انتهاء حياته الدبلوماسية، كان في مكتبه ببيروت، يشعل سيجارة، مزهوا بانتصاره على تلك اللغة، التي كانت على وشك أن تقتل الشاعر فيه، وأسس دار نشر. كانت القاهرة أول بعثة دبلوماسية يذهب إليها نزار قباني، وصل إليها شابا في الثانية والعشرين من عمره، وقضى فيها ثلاث سنوات، يقول: “للقاهرة علي فضل الربيع على الشجر، وبصمات يديها ترى واضحة على مجموعتي الثانية “طفولة نهد” المطبوعة في القاهرة عام 1948 كان الديوان نقلة مهمة بالنسبة لشعر نزار قباني، فكيف كانت القاهرة بالنسبة له؟ يؤكد: “صقلت القاهرة أحاسيسي وعيني، ولغتي الشعرية، وحررتني من الغبار الصحراوي المتراكم فوق جلدي، كانت القاهرة في الأربعينيات زهرة المدائن وعاصمة العواصم العربية، وكانت بستانا للفكر والفن عز نظيره، وقد أسعدني أن أدخل الوسط الأدبي والفني والصحفي، من أعرض أبوابه، وأعرف صفوة أعلامه”.
عرف نزار قباني توفيق الحكيم والمازني وكامل الشناوي ومحمد حسنين هيكل وإبراهيم ناجي والفنان محمد عبد الوهاب وأحمد رامي والناقد أنور المعداوي، ويعود الفضل للأخير في إلقاء الضوء على شعره، فقد كان شديد الحماسة لمجموعته “طفولة نهد” لدى صدورها في القاهرة عام 1948 . من سنة 1958 إلى 1960 كانت التجربة الصينية التي يقول عنها: “إنني أظلم الصين إذا تحدثت عنها كشاعر، وأطوق عنقها بالزهر، كتجربة من أعظم تجارب البشر، إذا نظرت إليها كمثقف، من زاوية الشعر ظلت الصين خارج مرمى حواسي الخمس، ولم أستطع بسبب طبيعة النظام، وقسوة القيود المفروضة على الدبلوماسيين، أن أتواصل مع الإنسان الصيني، وأدخل في أي نوع من أنواع الحوار معه، إن جدار الصين الكبير ليس جدارا تاريخيا أو رمزيا، لكنه جدار حقيقي لا يسمح لغير الصينيين باختراقه”.
كان حصاده الشعري في الصين قليلا، وكان اللون الطاغي على تلك المرحلة هو الأصفر، من هنا عرف الحزن، وكتب “نهر الأحزان و”ثلاث بطاقات من آسيا” ولا تنتهي تجربة نزار قباني الدبلوماسية دون الذهاب معه إلى لبنان، الذي كان وطنا له منذ عام 1966 وكما يقول: “إن صلتي بلبنان ليست صلة طارئة فقد اشتبكت بلبنان وجوديا وثقافيا وشعريا منذ طفولتي الأولى، حيث كان أبي يجيء بنا إلى بيروت لنقضي عطلتنا الصيفية على رمال شاطئ الأوزاعي، أو على ضفاف نهر البردوني في زحلة”.
يصف الشاعر الراحل علاقته بالبلدان التي أنشد فيها شعره قائلا: “إن قراءاتي الشعرية في السودان والعراق لم تكن قراءات بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، لكنها كانت حفلة ألعاب نارية على أرض من الرماد الساخن، في دار الثقافة في أم درمان كان السودانيون يجلسون كالعصافير، على غصون الشجر، وسطوح المنازل، ويضيئون الليل بجلابيبهم البيضاء، وعيونهم التي تختزن كل طفولة الدنيا وطيبتها، وفي بغداد كدت أختنق في حديقة كلية التربية في آذار 1962 بحبال الحب، لو لم يخطفني أحد أساتذة الكلية إلى داخل المبنى، وفي قاعة الخلد في بغداد حيث انعقد مهرجان الشعر عام 1969 ظل العراقيون حتى ساعات الصباح الأولى مزروعين في القاعة وأمام أجهزة التليفزيون، يتابعون القصائد بعشق، يصل إلى حد التصوف”.