إيمان عمر الفاروق سلسلة طويلة من الذكريات تنساب كخيط دماء رفيع كالذى نزلت قطراته من بين شفتيك لحظة استشهادك، كحبل مشنقة يلتف حول عنقى المنكسر من حشرجة الآهات. ذكرياتى معه منذ أن كان حملى إلى أن أصبح حلمى الحزين بأحشاء أيامى ومنذ أن كان جنين إلى أن غدا طيف حنين. تساقطت الذكريات بكثافة كرذاذ الأمطار من غيمة الماضى على زجاج سيارتى فأعاقت رؤيتى وأنا فى طريقى لحضور حفل تكريم لأمهات الشهداء بإحدى الجمعيات النسائية المشهورة بمناسبة "عيد الأم". عندما تلقيت الدعوة تسمرت أحداقى طويلا أمام كلمة حفل، خدشت مسامعى، أحسست بها مالحة فى فمى فلفظها لسانى. فكلمة حفل تحمل بين طيات حروفها ألوان قوس قزح، ضجيج البهجة ورنين الفرح. وأنا يكسونى شعور بأنه ليس حفل تكريم بل تأبين لأمومتى التى تم بتر جزء منها حين فقدت من منحنى شرعيتها. إنهم يقولون عنى إننى بطلة وامرأة فدائية، لكننى لست بطلة، فالبطولة المطلقة لك ولزملائك التى فاجأتنى وأبهرتنى بها وجاءتنى كالبرهان الحى من دماء ساخنة لامعة ببريق الوطنية، تُكذب ادعاءاتى واتهاماتى لجيله بالتفاهه وأنه الجيل الضائع، فاكتشفنا أننا نحن من سجنا عمرنا فى زنزانة الجمود . صعقنى خبر استشهادك، انفجر كعبوة ناسفة أحدثت تفريغا لهواء حياتى بشكل عنيف ومفاجئ فلم أعد أتنفس . أنا لست بطلة ولا فدائية، بل على النقيض من ذلك تماما، فى لحظات ثقيلة أشير إلى نفسى بأصابع الاتهام، أجل لقد أهملت وتراخيت كان يجب أن أمنعه بالقوة، لماذا لم أوصد الباب وأمارس سلطتى عليه كأم، فهل أنا الجانى أم الضحية. ليست تلك المرة الأولى لسجل إهمالى بل هى الأخيرة فى صحيفة سوابقى كأم منذ نعومة أظافره فكم من مرة عنفته، عاقبته هو صغير ليتنى كنت أكثر تسامحا معه وتدليلا له، سيف الندم يخترق حلقى يشطرنى . لم أغلق حسابك الشخصى على "الفيس بوك " أتواصل مع أصدقائك نيابة عنك، أكتب بعض الكومنتات التى تحمل بصمة أفكارك. يا لها من خواطر غريبة تجعلنى نصف مجرمة ونصف مجنونة، دفعتى لحضور جلسات "العلاج الجماعي" لعل المشاركة الوجدانية تخفف بعضا من شطحات شجنى، تناولت جرعات غير عادية من عقاقير الصبر والأمل لكنها لم تُجد نفعا. أهرع إلى المصحف، أعتصم بآياته أتمتم بينى وبين نفسى قائلة، كما أن الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون فكذلك حزن أمهاتهم عليهم وحزن كل أم فقدت نبض حياتها سيظل حيا بكرا لن يجف فليحاول كل منا أن يرويه. شطبت يوم "عيد الأم" من أجندتى، أعتزل العالم كلما مرت تلك المناسبة أتحاشى الخروج خشية أن تنفجر شلالات الدمع والحزن والحنين والحسرة عندما تخترق مسامعى كلمات "سيد الحبايب يا ضنايا إنت " أو "ماما يا حلوة يا أجمل غنوة " كانت تلك الأغنيات تنكأ جراحى منذ أن فقدت والدتى واليوم صارت نغماتها كوخز الإبر فى أوتار أعصابى .يناير 2011 رسم تقويما جديدا، تعدادا حزينا فقبل هذا الخط الطولى والعرضى بخارطتنا كان لقب " أمهات الشهداء "يرتبط أوتوماتيكيا وحصريا بأمهات أبطال حروبنا بانتصاراتها وانكسارتها، وفى مخيلة البعض كان يمتد عبر حدودنا الشرقية ليتجسد فى سيدات الكوفية الفلسطينية بالتحديد . أما اليوم فقد صرنا من كل لون وطيف، حى وكهف، صرنا ننافس حصى رمال سيناء . نبدو فى رباطة جأش الجبال أحيانا ربما لأننا نشعر بمشاركة المجتمع لحزننا وإن كان يظل فى نهاية اليوم شخصيا. على الأرجح نحن نستمد الثبات الانفعالى من الوعد السماوى الربانى بالجنة للشهداء . لم أعبأ بالبحث عن إحصائيات رسمية لأعداد أمهات الشهداء ، فأيا كان الرقم هائلا فإنه سيتضاءل كحبات اللؤلؤ أمام حزنهن الشامخ كالجبال، وأيا كان الرقم مفجعا صادما فإنه سيتوارى أمام مسحة الذهول التى لم تبرح أحداقهن، هذا فضلا عن أن الأرقام بجفائها تصيب القضايا العاطفية بالتصحر وتحولها إلى ظاهرة كمية تُنسى العالم أنه يتعامل مع كتلة أعصاب وليس رسما بيانيا. تبلل دموعى صفحات " ثلاثية " نجيب محفوظ وأتوحد مع شخصية أمينة والسيد أحمد عبد الجواد لحظة سماع خبر استشهاد نجلهما فهمى فى غمار ثورة 1919، أغبطهما وتحدثنى نفسى قائلة ليت نهايتك كانت فى مثل هذا العصر وتلك الأحياء، حيث لم يكن للوطنية سوى زى أوحد قان من الدماء، ولم تكن للدماء أيديولوجيا ! أدرت سيارتى للخلف، شأن حال ثورتنا، عذرا فلن أحضر الحفل . لقد ماتت المعاجم وأضحت عقيمة بموتك . لن أذهب لأن ما يجرى هناك ما هو سوى محاولة للتنفس الاصطناعى وكتم الجراح بحفنة من البن. سأبقى هنا فى الموضع الذى شهد آخر لحظة بحياتك هنا رحيقك وعطرك وتكريمى وتتويجى وتطيبي. بالميدان أجلس فوق البقعة التى ضمتك بين أرصفتها ألثم الإسفلت الذى يحمل أنفاسك الطيبات حين توسده جبينك، هنا فقط أشعر أننى فدائية قضيتى حية ساخنة كلزوجة دمائك الطاهرة، لن أبرح ساحة قضيتى، فأنا أشد التصاقا بالميدان من بنيته الأساسية ولن أتنحى لاستشعار الحرج أو الهرج .