الطغاة عند ماركيز أولاد زنا , قساة يبيعون الأوطان للأعداء ...................... حيث جرى الاعتقاد بأنه رجل آت من عزلة الصحارى حسبما كانت توحي به شراهته للسلطة وطبيعة حكمه وقسوة قلبه المتناهية الفظة التى دفعته إلى بيع بحر الوطنلأجنبيوالقضاء علينا بأن نعيش فى هذا السهلالمتراميإلى مالا نهاية بضياء قمر أغبر ، حيث تمطرنا عشياته بجراح تنفذ إلى الروح .وقدرتالإحصاءات عدد أولاده بخمسة آلاف طفل جميعهم أولاد زنا ولدوا قبل الأوان من أمهات عشيقات كان يستقدمهن إلى حريمه بأعداد لا تحصى ، كلما جمحت به شهوته . وباستثناء طفل أنجبته "ليتسيا نازارينو" وأعلن جنرالاً منذ أبصر النور وأعطى قيادة وإقليماً . فإنه لم يكن يقر بنسب أحد من هؤلاء الأولاد ، لأنه كان يعرف أن لا أحد فيهم معروف النسب ، ولا يمكن التمييز بين واحد وآخر إلا بنسبته إلى أمه . وكانت هذه المعادلة صحيحة حتى بالنسبة إليه، فهو كان رجلاً بدون أب شأنه شأن معظم الطغاة الأكثر شهرة فى التاريخ ، ولم يكن له من أقارب يعرفهم ، أو ربما لم يكن له أقارب حقاً ، سوى أمه العزيزة "بندسيونألفا رادو" التى زعمت الكتب المقررة فى المدارس أنها جلت به ولم يمسسها بشر ، وفى منامها هبطت عليها البشرى أنها حامل بمخلص البشر . أمه التى أعلنت أم الوطن بمرسوم كانت إمرأة غريبة الأطوار ، ولا يعرف أحد لها أصلاً ، وفى فجرعهده سببت له المتاعب ، واستنكر المتعصبون للتقاليد أن تعلق أم الرئيس كيساً محشواً بالكافور حول عنقها تعوذاً من الأوبئة ، وأن تأكل الكافيار بالشوكة ، أو أن تتمايل كالبطة فى مشيتها بخف مرقط الألوان . ولم يستطيعوا أن يسلموا بصواب أن تربى النحل فى شرفة قاعة الموسيقى . أو أن تربى الديوك الرومية . والطيور المطلية بدهان لزج فى مكاتب الخدمة العمومية . أو أن تنشر شراشف سريرها على الشرفة الرئاسية ، كما لم يقبلوا أن يتحملوها وهى تخاطب سفير دولة عظمى خلال حفل استقبالدبلوماسي ، بقولها : "تعبت من كثرة ما صليت لله كى يطاح بإبنى ، لأن العيش فى هذا المنزلالرئاسي يا سيدى هو فضيحة مكشوفة" قالت ذلك دون تكلف ، تماماً مثلما شقت فى يوممن أيام الأعياد الوطنية صفوف حرسالشرف وإلى كوعها سلة مملوءةبالقنانيالفارغة ، ولحقت بسيارة "الليموزين" الرئاسية التى كانت تشق موكب الفرحة بالعيد ، وسط هرج ومرج الجماهير وهتافاتها الحماسية والأناشيد الوطنية ووابل الزهور .. ثم وضعت السلة فى السيارة وزعقت بابها : "أعدالقنانيإلى الكان قرب الزاوية ، مادمت ستمر من هناك ! " يالها من أم ساذجة ! أم بلغ فيها انعدام الشعور بالمسؤولية التاريخية ذروته ذات عشية ، خلال مأدبة أعدت للاحتفال بنزول المارينز بقيادة الأميرال "هعنغستون" ، وعندما أبصرت ابنها ببزته الفاخرة ، والميداليات والأوسمة الذهبية ، وقفازيالساتان المفروض عليه ارتداؤها مدى الحياة ، لم تستطع كبح جماح مشاعر الأمومة فصرخت بصوت عال أمم السلكالدبلوماسيبكامله "لو عرفت أن ابنى سيغدو رئيساً لكنت أرسلته طفلاً إلى المدرسة". وكانت فضيحة استوجبت نفى "بندسيون الفارادو" إلى قصر فى ضاحية المدينة ، مؤلف من أحد عشر غرفة ، كان قد كسبه فى لعبة قمار فى مقر إقامة الرؤساء المعزولين .. وفى ذلك القصر تقاسمت "بندسيونألفا رادو" لأنها كانت تزدرى الزخارف الإمبراطورية فى الغرف الأخرى ، التى تُشعرها بأنها زوجة قداسة البابا! تقاسمت مع أقفاص طيورها المبرقشة وعدة الخياطة فى شقيفة مهملة مرطوبة ، يسهل فيها اصطياد البعوض فى الساعة السادسة. وكانت إذ جلست للخياطة تحت ضوء خافت فى الفناء الكبير ، تفتح رئتيها لتنشق هواء شجرات التمر الهندى الصحى ، بينما دجاجاتها تسرح فى الصالونات ، والحراس يترصدون الخادمات فى الغرف الخالية . وأحياناً كانت تجلس لتدهن طيور الصفارى بالطلاء اللامع اللزج ، وتشكو لخادماتها من سلوك ابنها المسكين الذى جاء بهالمار ينزإلى البيتالرئاسي ، "بعيداً ياإلهى عن أمه ، وعن زوجة مخلصة تهتم به ليلاً إن أرقه الداء . وها هو يرهق نفسه بمهام رئاسة الجمهورية مقابل راتب بخس من ثلاثمائة بيزو فى الشهر .. يالصغيرى الحبيب .. " وكانت تعنى ما تقول ، إ أنه كان يبوح لها بمكنونات نفسه ، أثناء زياراته اليومية لها خلال القيلولة التى تغرق المدينة ، حاملاً معه معقود الثمار الذى تحبه ، فيروى على مسمعها كيف أنه اضطر لإخفاء معقود البرتقال والتين فى فوطة مخافة أن يراه أحد ، لأن سلطات الاحتلال أحصت عليه كل شئ ، حتى فضلات الطعام ! وراح يتذمر : " منذ فترة ليست ببعيدة حضر قائد البارجة إلى قصر الرئاسة مع جماعة من الناس ، لو رأيتهم يا أمى لحسبت أنهم فلكيون ، فقاسوا كل شئوأحصواكل شئ ، حتى أن أحدهم لم يتلطفبتحيتي ، ولميعيرونياهتماماً لدرجة أن مترهم القماشى مرّ فوق رأسى ، فزعق المترجم بى أن ابتعد من هنا ، فابتعدت ، فزعق : أغرب عن وجهى .. فابتعدت .. فزعق : اختبئ فى أحد الأركان بحيث لا تعرقل عملنا !!ولم أعرف بعد ذلك أين علىّ أن وقف دون أنأزعجهم ، ذلك أن بعضهم كانوا يقيسون بمترهم نور النوافذ !! " والأدهى من ذلك أماه هو أنهم طردوا اثنتين منمحظياتة ، لأن الأميرال رآهما غير جديرتين برئيس كونهما مشلولتين .. وهكذا حرموه من النساء . ممااضطره أحياناً أن يتظاهر بالخروج من قصر أمه فى الضاحية ، لكنه يتباطأ ليغازل الخادمات فى الغرف المقفرة ، فتشعر به أمه وتحزن من أجله ، وتتستر على كبته وحرمانه بأن تهيج الطيور فى أقفاصها أو ترغمها على التغريد ، فتغطى أصوات قوقأتها وغنائه صخب الهجوم الذى يشنه ، بدءاً من صوت ارتطامها بالبلاط فى أولى مراحل الاغتصاب ، مروراً بتوسلاتها المستنجدة ، " كن عاقلاًسيديالجنرال ، أو أخبرت أمك بكل شئ " ، وصولاً إلى همهمته المحمومة ولهاث نزوته ، ونشيج تباكيه كما الجرو ، وهو يندب حظه العاثر فى العشق فيضيع كل ذلك تحت قوقأة الدجاجات التى جفلت فى الغرف من هذا الغرام الجامح ، فى ذلك الطقس الحار من أيام أغسطس (آب) اللهاب ، وفى الثالثة بع الظهر حيث الرطوبة كلزوجة الزجاج الذائب .. " يالصغيرى المسكين" . وكان على هذا الجدب أن يتواصل حتى رحيل قوات الاحتلال خوفاً من الطاعون الذى ضرب البلاد ، ففككوا بيوت الضباط وحزموا أجزاءها المرقمة وأودعوها الصناديق ، واقتلعوا كل أعشاب الخضراء وطووها أغماراًطيالسجاد . وحملوها معهم ، وغطوا خزانات المياه المعقمة المطاطية التى جُلبت من بلادهم لحمايتهم من يرقانات أنهارنا التى يخافون أن تأكلهم من داخل ، ثم هدموا مستشفياتهم البيضاء وفجروا الثكنات كى لا يطلع أحد على كيفية بنائها . وخلفوا وراءهم على رصيف الميناء بارجة الإنزال العتيقة ، التى ظل الناس خلال ليالى حزيران (يونيو) ، يشاهدون على متنها شبح أميرال تائه فى عاصفة بحرية . وقبل أن يحملوا معهم متاع جنة الحرب المتنقلة هذا فى طائراتهم المحمولة ، قلدوه وسام حسن الجوار ، وأحاطوه بالتشريفات التى تليق برئيس دولة ، وقالوا له على مسمع من الجميع : ها نحن نتركك غارقاً فى فوضى عبيدك ، وسنرى كيف تتدبر شؤونك بدوننا .. ثم "رحلوا يا أماه وهجرونا يالها من مهزلة ". ولأول مرة منذ الاحتلال ، ها هو يمسك بمقاليد الحكم بنفسه ، ويتعالىسدته وسط صخب توسلات الجمهور الطالبة برفع الحظر عن حفلات صراع الديكة .. " حسناً ارفع عنها الحظر.. " ، وبالسماح من جديد لطيارات الورق الملون أن تطير فى سماء البلاد . "حسناً ، أسمح بذلك".. والموافقة على أن يمارس الناس الفقراءتسلياتهمالتى منعوا عن ممارستها .. "حسناً .. أوافق على ذلك..". ولشدة ثقته بمتانة حكمهالاستبدادي ، فإنه عكس ترتيب ألوان العلم ، ونزع من شعار الدولة قبعة إلهة الخصب واستبدلها بتنين الغزاة المدحورين : "إذ أننا أصبحنا أخيراً أحراراً أماه عاش الطاعون!". كان على "بندسيونألفا رادو" أن تعايش هذه التقلبات فى السلطة ، مثلما عايشت فى الماضى تقلبات أخرى مماثلة ، وأشد مرارة . غير أنها لا تذكر أنها عانت ما تعانيه هذه المرة. حيث هو يتخبط فى مستنقع الرخاء ، فيما هى تنتحب يأساً لعدم وجود من يصغى إليها حينما تشعر بالحاجة للكلام .. " لافائدة من أن يكون المرء أم رئيس .. أجل .. لا فائدة.. وهل ذلك إلالامتلاكآلة الخياطة المنحوسة هذه ولا شئ سواها ؟! حتى أنأبنىالمسكين ، هذا الذى يُشاهد فى عربته غارقاً فى أبهة السلطة، لن يجد حفرة يدفن فيها بعد أن خدم الوطن كل هذه السنين الطوال .. آه ياإلهى أين العدالة؟".. وهى فى شكواها المتكررة لم تكن مخادعة ، كما أنها لم تكن تفعل بحكم العادة ، وإنما لأنه كف عن رواية خيباته لها ، كما انقطع عن مكاشفتها بأسرار الدولة . وكان هذا التبدل منذ نزول قوات الإنزال ، إلى درجة أن "بندسيونألفا رادو" غدت تجده أكبر سناً منها ، كأنما هو أحرق الزمن وسبقها فى حصاده . وبدأت تشعر أنه أخذ يتأتىبالكلام ، وتختلط عليه أرقام ونتائج الحساباتاليومية ، ويسيل لعابه أحياناً دون سبب ، فعصفت فيها عاطفة البنوة ، لا الأمومة ، حينما كان يأتيها فى قصرها بالضاحية مثقلاً برزم الهدايا ، فيحاول أن يفتحها كلها فى وقت واحد ليدخل السعادة إلى قلبها فتكف عن التذمر ، فيسارع إلى قطع خيطان المربوطات بأسنانه ، وبأظافره ينتزع أسلاك اللف المعدنية .. وهكذا تراه يخرج كل الأشياء بكلتا يديه ، وبلهفة بادية يقول : "أنظريهذه يا أماه ، إنها عروس بحر حقيقية تسبح فى حوض ، وهذا ملاك بوسعه أن يطير فى الغرف إذا تمت تعبئته كما الساعة ، وأثناء طيرانه يرشد إلى الوقت بدقاته الخاصة . وهذه صدفة بحرية كبيرة تعزف النشيد الوطنى .. يالها من أشياء رائعة يا أمى ! هل رأيت ماأروعألا نعيش فى البؤس ".. ولم تكن لتبدى غبطتها ، بل على العكس ، فإنها مالت عنه وشرعت تمضغ الريش وتلون الصفارى ، كى تصرف انتباهه عن حزنها العميق وعن قلبها الذى يتفطر حسرة عندما تستعيد فى ذاكرتها وقائع ماضٍ تعرفه أكثر من أى شخص آخر ، فتتذكر كم جلوسه على هذاالكرسي ، حيث كان يجلس ياإلهي ليس فى هذه الأيام السهلة حيث السلطة مسألة واضحة وذات طابعشخصي ، كرة زجاج يقلبها بين يديه ، كما يقول ، بل يوم كانت السلطة سمكة "شابل" تسبح فى فوضى القصر دون قانون أو رقيب ، هاربة ومطاردة من سربمتوحشوجائع من بقايا قادة الحرب الفيدرالية، الذين ساعدوه على الإطاحة بالجنرال الشاعر "لوتارو مونيوز" المستبد المستنير ، رحمة الله عليه وعلى كتبه المقدسة التى كتبها المؤرخ سويتون باللاتينية ، وعلى جياده الاثنين والأربعين الأصيلة . ويومها استولوا على مزارعومواشيقدامى الدكتاتوريينالمخلوعين ، وتقاسموا حكم البلاد على شكل مقاطعات مستقلة ، متذرعين بالفيدرالية التى " من أحلها ضحينا سيديالجنرال " . وحكموا مقاطعاتهم حكماً مطلقاً وفق قوانين أمزجتهم وكانت لهم أعيادهم الوطنية الخاصة ، وأختامهم الخاصة ، وبزاتهم الفاخرة ، وسيوفهم المرصعة بالجواهر ، وستراتهم ذات الأزرار الذهبية ، وقبعاتهن ذات القرون الثلاثة والمزينة بريش الطاووس . على زى قدامى ملوك الوطن ، ولم يكونوا مهذبين ، فتراهم يدخلون قصر الرئاسة من بوابته الكبرى دون استئذان : "لأن الوطن ملك الجميع سيدى الجنرال ونحت ضحينا بحياتنا كى يغدوا الوطن كذلك " وكانوا يعسكرون فى قاعة الاحتفالات الكبرى ، مع نسائهم وأولادهم وحيوانات مزارعهم التى غنموها ، ويصطحبونها أينما ذهبوا ليجدوا دائماً الطعام ، ووراءهم يجرون خدامهم من المرتزقة المتوحشين ، الذين يلفون أقدامهم بالقماش عوضاً عن الأحذية ، ويتكلمون بصعوبة لغة المسيحيين . بيد أنهم كانوامخادعين فى لعبة النرد ، وماهرين فى استعمال السلاح ، بحيث صار بيت السلطة ، على أيديهم ، أشبه ما يكون بمعسكر للغجر . وانبعثت منه رائحة شبيهةبرائحةعفونة نهر فى حالةفيضان . وتقاسم ضباط هيئة القيادة أثاث الدولة بكامله ونقلوه إلى مزارعهم ، وراحوا يقامرون على امتيازات الدولة ، غير عابثين بتوسلات أمه " بندسيونألفارادو" التى كانت تعمل كل ما فى وسعها لكنس هؤلاء الأوباش المتوحشين ، وكانت الوحيدة التى أعملت فيهم مكنستها ضرباً حينما راحوا يلوثون بتفاهاتهم بيت السلطة ، ويتنافسون بالمقامرة على سلب الوظائف العليا فى القيادة . وكانت تشاهدهم وهم يتلاوطون خلف البيانو ، ويتغوطون فى آنية المرمر غير آبهين باعتراضها : " أيها السادة ، هذه ليست آنية صحية ، بل هى أوانٍ أثرية عثر عليها فى مياه "بابتلاريا" لكنهم كانوا يصرون على أنها مراحيض نزعت من قصور الأثرياء ، وما من قدرة بشرية تمكنت من تبديل قناعتهم هذه . مثلما لم تستطع أية قدرة إلهية أن تقنع الجنرال "أدريانو غوزمان" بالعدول عن حضور الحفلالدبلوماسيالكبير الذى أقيم بمناسبة العيد "لإرتقائى سدة الحكم " لكن ما من أحد كان يتصور ما سيقدم عليه ، عندما ظهر فى صالة الرقص ببزة بيضاء خشنةمن الكتان ، اختارها خصيصاً للمناسبة ، وغير مسلح براً بقسمه " العسكرى الذى التزم بهأمامي " ، ودخل ترافقه حاشيته مناللاجئينالفرنسيين فى ثيابهم المدنية ، يحملون معهم هدايا " كايين" ليوزعها سيدهم على زوجات السفراء والوزراء ، وهوينحنيأمام كل واحدة منهن ، تعبيراً عن حسن الأدب واللياقة ، كما هى تقاليد "فرساى" على حد قول رجال حاشيته . وما أن نفذ مهمته بإتقان وبذوق رجل المجتمع ، حتى اتخذ له مجلساً فى أحد الأركان وراح يراقب الراقصين ، ويوزع عليهم عبارات وإشارات الاستحسان : "رائع" كان يقول ، ويقول أحياناً : "حقاً أن الأوروبيين يرقصون جيداً" ، ثم يردف : "صحيح أن لكل شعب اختصاصه" . لم يكن يسمعه أحد وهو يدلى بملاحظاته هذه ، حيث أنه بدأ منسياً فى كرسيه ، " وكنت الوحيد يا أماه الذى فطن إلى وجوده لأننى رأيت أحد مرافقيه يسكب له الشامبانيا قدحاً بعد آخر ، إلى أن بدا صارم الوجه ودموياً ، فراح يفتح زراً من أزرار سترته كلما أدركتهجشأه ، وكان يجاهد النعاس ، وفجأة نهض يا أماه وكان الرقص قد توقف ، ورأيته يفك أزرار سترته ، ثم أزرار فتحة بنطاله ثم اندفع يرشرش فساتين زوجات السفراء والوزراء المعطرة ببول يتدفق منأنبوبهالذابل كأنبوب العقاب العجوز ، فيبلل قماش الموسلين الناعم وصدارات الذهب والديباج ، ومراوحريش النعام ، ببول العسكرى السكران ، فيما الهلع يغطى الجميع : وهو يغنى بأعصاب هادئة : (أنا عاشق لنفورك وأسقى أزهار بستانك .. ما أجملك أيتها الورود ) . كان يغنى ولا أحد يتجرأ على الاعتراض ، ابتداء منى أنا يا أماه أنا الذى كاننفوذيأقوى من نفوذ أى واحد آخر منهم منفرداً ، وأضعف حتماً من نفوذ أى اثنين آخرين حينما يتآمران "، بيد أن مصدر قوته كان فى قدرته على كشف الآخرين ورؤيتهم على حقيقتهم ، فيما هم عاجزون عن استشفاف أفكاره الشيطانية الخفية ، المغلفة برصانته القاسية ، التى لا يدانيها دقة غير حذرة وقوة اصطباره ، وقدرته على التمثيل ، حيث لم يكن بوسع أحد أن يرى منه غير هاتين العينين الكئيبتين ، وتينك الشفتين الغليظتين ، وكفينككفيفتاة محتشمة ، لم ترتجفا على مقبض السيف فى منتصف ذلك النهار حينما جاءه الخبر : سيديالجنرال ، القائد "نارسيز لوبيز" المدمن على الكوكائين والأنيسون، اختلى اليوم بأحد الحراس الشبان ، وفى المرحاض راح يداعبه إلى أن صار يرتعش شبقاً كامرأة متهيجة ، ثم أمره أن يدخله له : ستدخله كله .. انتبه .. هذا أمر .. كله ياحبيبي .. وحتى الخصيتين .. ثم بكى ألماً وحنقاً ، إلى أن انتهى وارتمى على أربع ، ورأسه إلى حوض المرحاض ، وراح يتقيأ تحت وطأة لشعوربالخزي ، ثم ما لبث أن رفع عنه ذلك الادونيس الوسيمذيالبزةالعسكرية ، وسمره بالرمح ، كفراشة ، على البسط الخضراء فى قاعة الاجتماعات دون أن يتجزأ أحد على اقتلاعه طوال ثلاثة أيام . كان لا يتدخل فى الحياة الخاصة لرفاق السلاح ، فقط كان يراقبهم كى لا يتآمروا عليه ، لقناعته بأنهم سيقضون على بعضهم البعض ، وسيأتيمن يحيطه علماً بالنبأ : سيديالجنرال ، الأمر يتعلق بالجنرال "يسوع سانشيز " الذى قتله مرافقوه ضرباًبالكراسي ، لأنه أصيب بنوبة كلب بعد أن عضه فط .. "مسكين" قال معقباً ولم يرفع رأسه عن الدومينو إلى أن جاؤ من يوشوشه بخير جديد : سيديالجنرال " لوناريو سيرينو" غرق لأن حصانهأصيب بالسكتة القلبية فيما كنا يجتاز به أحد الأنهار . "مسكين " وقبل أن يقطب حاجبيه جاءه النبأ : سيديالجنرال ، الجنرال "نارسيزو لوبيز" أدخل أصبع ديناميت فى مؤخرته ، وفجر بطنه خجلاً من شذوذهالجنسيالمتحكم به "مسكين " بهذه الكلمة كان يعلق على الأخبار الشائنة التى كانت تأتيه ، كأنما هى لا تعنيه وكانيكتفيبإصدار مراسيم تكريم بعد الموت لهؤلاء الجنرالات ويعلنهم شهداء سقطوا فى خدمة الوطن ، ويأمر بدفنهم بمواكب رائعة وعلى مستوى واحد من الأبهة ، فى مدافن العظماء . ذلك " أن وطناً بدون أبطال إنما هو بيت دونأبواب ، كان يردد . وعندما لم يبق من رفاق السلاح سوى ستة جنرالات ، استدعاهم للاحتفال بعيد ميلاده مع شلة من الأصدقاء ، حضروا كلهم دفعة واحدة ، حتى الجنرال " خاثينتو ألغارابيا" أكثرهم دهاء وغموضاً . والذى كان يتبجح بأنه أنجب طفلاً من أمه ، وبأنه لا يشرب الكحول إلا إذا كانت مستخرجة من خشب مجبول بالبارود .. " هل نحن وحدنا ، كما كنا فى الزمن الغابر ، وكلنا بدون سلاح ، كما لو أننا أخوة فى الرضاعة ، والمرافقون وحدهم أيضاً فى الغرفة المجاورة ، وهم محملون بالهدايا النفيسة للرجل الذى استطاع أن يفهمنا جميعاً " قالوا ذلك وهم يقصدون الرجل الوحيد الذى استطاع أن يديرهم بدهاء ، وأن يخرج الجنرالالأسطوري " ساتورنو سانتوس " من مخبئه البعيد فى الصحراء ، حيث كان يعيش كما لو أنههنديأحمر حقيقى وماكر ، فإذامشى بقدميه على الأرض بدا كمالونه خارج لتوهمن أحشاء أمه الفاجرة ..وعندما وصل إلى البيتالرئاسيكان متلفعاً برداء مزخرف بصور حيواناتعيبهبألوان فاقعة . ودخل وحيداً كعادته ، بدون مرافقين ، مصحوباً بنسمة سوداء ، وسلاحه منجل قص القصب الذى تمنطق به ولم يقبل أن ينزعه على أساس أنه أداة عمل وليس سلاحاً حربياً وما "أندخل يا أماه حتىوافتنيهديته : نسر مدرب على قتال الآدميين ، وقيثارةهذه الآلة المقدسة التى كانتنوتاتهاالموسيقية تتوسل إلى العاصفة أن تهب ، ولأيام الحصاد أن تسرع فى الأفول ، وكان الجنرال "سانتوس " يحسن العزف عليها، فترسل ألحاناً عاطفية توقظ فينا ذكريات ليالى الحرب المرعبة ، وتحرك فى أعماقنا أماه مشاعر الحنين لأيام الحرب الجربةككلبه ، وتثير فى ذاكرتنا نشيد مركب الحربالذهبي ، فتنجذب إليه جميعاً ، ونبدأ بالإنشاد من الأعماق ، واغرورقتعينايتأثراً حينما وجدتهم على هذه الصورة ، كانوا يغنون وهم يتناولون طعمهم : دجاجة رومية حشيت بالخوخ المجفف ، ونصف خنزير صغير ، وفى يد كل منهم زجاجة خمر يحتسى منها ، ما عدا الجنرال "ساتونو سانتوس " الذى لم يذق قطرة واحدة منالمشروباتالروحية طوال حياته . ولم يدخن ، ولم يأكل سوى كفايته من الطعام وعندما دخلت عليهم يا أماه انشدوا إكراماً لى أنشودة الصباح إحدى مزامير داود الشهيرة ، وأنشدوا كذلك ، وهم يبكون ، كلالأغانيالمتداولة فى مناسبات المولد ، ولما وصل القنصل هانيمان اقترح صيغة جديدة : "الغراموفونسيديالجنرال واسطوانةهابيبردى " ، وراحوايغنونوفى عيونهم نعاس وتعب ، ولم يعد فيهم من يكترث بذلك العجوز الصمت الذى ما أن انتصف الليل حتى أضاءمصباحهاليدويوراح يتفقد البيت قبل أن يركن إلى النوم ، تماماً كما يفعل عسكرى حذر . وفى جولته التفقدية الأخيرة أبصر الجنرالات الست فى قاعة الاحتفالات متمددين على الأرض بهدوء وأمان تحت حماية مجموعات المرافقين الذين كانت كل مجموعة منهم منهمكة بمراقبة المجموعات الأخرى ، لأنهم كانوا يخافون من بعضهم البعض ، ويخافون من غدره هو بهم ، مثلما يخاف هو من تآمرهم .. أعاد المصباح الكهربائي إلى حيث كان معلقاً ، فوق الباب ، وأوصد المزاليج الثلاثة ، والدعامات الثلاث ، ورتاجات حجرة مخدعه الثلاثة ، وتمدد أرضاً على بطنهوساعةالأيمنمطويتحت رأسه على شكل وسادة . وفجأة دوى انفجار كثيف اهتزت تحت وطأته مداميك الجدران ، وحين انطلقت دفعت واحدة رصاصات أسلحة المرافقين فى زخة أولى ، أعقبتها زخة ثانية ، وانتهى الأمر .. انتهىالإزعاجوخيم صمت لا تقطعه غير رائحة البارود . ولم بق من أهل النظام غيره سليماً معافى . وفى صبيحة اليوم التالى كان حرس الخدمة يتخبطون فى مستنقع من الدم يغطى قاعة الاحتفالات ، وأغمى على أمه "بندسيونألفا رادو" من شدة الهلع ، عندما اكتشفت أن الجدران ظلت تنضح دماً على الرغم من طلائها بالكلس والرماد بهدفتجفيفها . "أجل ياإلهي ، وواصلت السجادات نز الدم حتى بعد أن جمعت مطوية .. وعبر الأروقة والمكاتب كان الدم يتدفق كالسيل ، فبذلت المرأة جهدها لغسل المكاتب والأروقة ، ولإخفاء آثار المذبحة التى قضى بواسطتها على البقية الباقية من ورثة الحرب الأهلية ، هؤلاء الذين اغتالهم مرافقوهم فى ساعة جنون ، كما زعم بلاغ رسمى ، ولفت جثثهم بالعلم الوطنى ونقلت إلى مدفن عظماء الأمة فى مأتمجنائزيلائق . أما المرافقون فقد لاقوا حتفهم بدورهم ، ووقعوا فى شرك المأساة التى قضت على أسيادهم : " مامن أحد نجاسيديالجنرال باستثناء الجنرال "سانتورنو سانتوس " الذى يبدو أنه محصن بحجاب سبحته