رفع الحظر المفروض على النقاب باعتبار أن كندا وطن للجميع كانت مأدبة العشاء حافلة بما لذ وطاب عندما ارتفعت الكئوس في الهواء ليشرب الحاضرون نخب طفل رضيع لم يكن عمره قد تجاوز الأربعة أشهر بعد. وليرفع الضيف الكبير كأسه في الهواء ، متخليا عن كل الرسميات وضاربا بكل القواعد عرض الحائط ومؤكدا توقعه أن يصبح هذا الرضيع أعظم قادة كندا في يوم من الأيام.
المأدبة كانت على شرف الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون ، أما المضيف فكان رئيس الوزراء الكندى بيير ترودو ولم يكن الرضيع سوى جاستن ترودو الذي أصبح اليوم رئيس وزراء كندا ليحقق نبوءة نيكسون له التى تنبأها عام 1972.
لم تكن نبوءة نيكسون محض مصادفة، فعندما نعلم أن جاستن ترودو هو ابن بيير ترودو حاكم كندا والذى قادها لمدة 16 عاما، وعندما نعلم أيضا أنه فور توليه رئاسة الحكومة عام 1968 أثار موجة من الإعجاب والتأليه في أوساط الشباب لدرجة أنهم أطلقوا عليه اسم ظاهرة «جنون ترودو» نتأكد صدق المثل العربى الشهير «ابن الوز عوام». فكما نجح بيير الأب في إحداث ظاهرة جنون ترودو هذه بعد إجرائه عدة تغييرات جذرية في الدستور الكندى، ها هو جاستن الابن يعيد الأمجاد ويعيد ظاهرة جنون ترودو مرة أخرى بين الشباب ليس فقط لأنه بات ينافس أكثر المشاهير وسامة في العالم، لكن بسبب فوز حزبه الليبرالي الكندي بأغلبية ساحقة في الانتخابات الفيدرالية التى أجريت يوم 19 أكتوبر عام 2015 ليصبح ترودو صاحب ال43 عاما رئيسا للحكومة الكندية على خطى والده بعد تمكنه من الفوز على خصومه، وبرغم النقد والسخرية اللتين واجههما خلال الفترة الأخيرة، لا سيما بعد الهزيمة الساحقة التي لحقت بالليبراليين في انتخابات 2011 إبان تولى «مايكل إجناتييف» لرئاسة الحزب. لتتجه الأنظار إلى «جاستن» ليعيد أمجاد الحزب وقد نجح فعلا في ذلك. فشاب مثله كان يمارس رياضة التجديف والملاكمة ويعمل مدربا للتزحلق على الجليد ، ليس من الصعب عليه أن يواجه منحدرات الحياة ويتغلب عليها، إذ سرعان ما وعد بزيادة الإنفاق لتمويل بعض المشروعات المتعلقة بالبنية الأساسية، حتى لو كان هذا الأمر سببا في عجز الموازنة. كما وعد أيضا بزيادة الضرائب على الأثرياء الكنديين وخفضها لمتوسطي الدخل. أما أكثر النقاط التى أثارت الكثير من الجدل فهى تقنين «جاستن» لمخدر الماريجوانا التى تركت الكثير من الكنديين فى السجون من دون داع، وبسجل جنائى وكان من الأجدى إدماجهم فى المجتمع بدلا من عزلهم عنه. كما أن مكافحة الماريجوانا تتطلب تكلفة كبيرة تتكبدها خزائن الدولة في سبيل دعم القوات الشرطية المتخصصة في هذا الشأن. كما لامس جاستن وترا حساسا لدى الجالية المسلمة في فرنسا عندما أكد أن ارتداء النقاب لأسباب دينية يعد حقا أساسيا للكنديين، في إشارة إلى رفضه اتباع سياسات الحكومة السابقة الداعية لحظر النقاب.
لم تكن تلك هى المرة الوحيدة التى أظهر فيها جاستن تعاطفه وتضامنه مع مسلمى كندا، فقد سبق وتناول طعام الإفطار الرمضانى في أحد المساجد، كما شارك المسلمين أيضا صلاة المغرب بعدما ارتدى جلبابا عربيا مؤكدا حرصه الشديد على مكافحة العنصرية والطائفية خصوصا أن المسلمين جزء مهم في الكيان الكندى.
ويبدو أن وسامة جاستن وشبابه وتحرره من كثير من القيود التى يلتزم بها السياسيون والمسئولون ، قد أعادت الروح إلى الكنديين الذين رأوا فيه عدة صفات افتقدوها كثيرا في العواجيز الذين سبقوه، فهو عاشق للتغيير كحال كل الشباب، ومن المتوقع بالطبع أن ينفذ كل ماوعد به . كما أنه يكره القتال فقد قرر سحب طائراته المشاركة في التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وربما لا يثير هذا القرار الكثير من الدهشة إذا عرفنا شدة اهتمام جاستن بالأعمال التطوعية والأنشطة الخيرية فلطالما جمع الأموال لعلاج الأطفال والفقراء والمرضى، وبالتالى فإنه ترجم حبه للخير عن طريق رفض الاشتراك في حرب لا يعرف من هم ضحاياها وفى نفس الوقت المحافظة على قواته. كل ذلك جاء بهدف تغيير السياسة الكندية والحفاظ على السلام العالمي، كما أنه أطلق يد سفرائه في الخارج ليستعيدوا دورهم القديم بعد أن كانت أيديهم مغلولة على يد الحكومات الشمطاء السابقة.
تلك الحكومات التى سبق وأعلنت أنها لن تقبل أكثر من 3000 لاجئ سوري، وستكون الأولوية لغير المسلمين ليأتى جاستن ليؤكد استعداد بلاده لاستقبال 25 ألفا من اللاجئين.
وبرغم وراثة جاستن لصفة القيادة من والده «بيير ترودو» رئيس الوزراء الكندى السابق وصاحب التاريخ الكبير فى الساحة الكندية السياسية، وأحد أهم الساسة البارزين فى تاريخ كندا ، لدرجة أن اسم «جاستن» أصبح معروفًا حتى قبل أن تبدأ حملته الانتخابية. فهو معروف في الحياة العامة منذ ولادته في 25 ديسمبر 1971 واحتل عناوين الصحف عندما كان والده في السلطة. وقد نشأ في المقر الرسمي لرئيس الوزراء في أوتاوا الذي شغله والده بلا انقطاع تقريبا من 1968 إلى 1984. ونستطيع القول إنه حتى هذه اللحظة فإن جاستن تفوق على والده بقراراته التى سرعان ما اتخذها فور توليه المنصب ففى يوم 4 نوفمبر سجل جاستن حدثا تاريخيا في تاريخ كندا ربما لم يحدث من قبل وهو تشكيل وزارة مكونة من 30 وزيرًا نصفهم بالضبط من النساء. أما المفاجأة الكبرى في هذا التشكيل ، هو أن إحدى هؤلاء النساء هى مريم منصف التي جاءت لكندا 1995 كلاجئة سياسية والتى تعد أول وزيرة مسلمة في التاريخ الكندي، وكانت المفاجأة الكبرى اختيار وزير الدفاع الكندي من أصول هندية ويرتدي عمامة السيخ، وذلك لترسيخ مبدأ الانفتاح على جميع الجاليات والأقليات. أما المفاجأة الأكبر فهى تعيين 2 من الوزراء من ذوي الاحتياجات الخاصة ليحقق مقولته الشهيرة «تغيير حقيقي» وهو شعار حملته الانتخابية. ومن المتوقع أن يشمل التغيير بذلك كل الكنديين سواء أغنياء أم فقراء والذين أبدوا جل سعادتهم بفوز جاستن الذين رأوا فيه التواضع والإنسانية بفضل روح الشباب التى يتمتع بها، فضلا عن ضيقهم بسياسات ستيفن هاربر الرئيس السابق للحكومة الكندية والذى دفعهم لإزاحة المحافظين الذين حكموها لمدة عشر سنوات وصفت بأنها «سنوات الضياع» واستبدالهم بالليبراليين الذين ما إن تم إعلان فوز زعيمهم «جاستن ترودو» بالانتخابات حتى خرجوا عن بكرة أبيهم ليحتفلوا في الشوارع.
ويبدو أن احتفالهم وتفاؤلهم بهذا القادم الجديد قد جاء في محلهما فحتى الآن يعمل جاستن على تنفيذ وعوده ليس فقط بتشكيل الوزارة التى جاءت مفاجأة سعيدة للجميع، لكن أيضا باتخاذه عدة قرارت حازت على ترحيب شديد من أطراف المجتمع الكندى الذي انتظر هذه القرارات بفارغ الصبر منذ 10 سنوات، هى فترة تولى المحافظين للحكم الذين جعلوا من كندا الحليف الدائم للولايات المتحدة في كل القرارات، ولعل ذلك ما سبب صدمة قاسية للأمريكيين وعلى رأسهم أوباما بعد إعلان جاستن سحب قواته التى تحارب في سوريا والعراق. إذ اعتادت الولاياتالمتحدة على موافقة كندا على كل ما تتخذه من قرارات. لم تكن الولاياتالمتحدة وحدها هى التى صدمت من فوز «جاستن ترودو» فالفوز أصاب إسرائيل بخيبة أمل شديدة، إذ إنها خسرت حليفها الأقوى على الإطلاق فقد كان ستيفن هاربر رئيس الوزراء السابق حليفا قويًا لإسرائيل، حيث ساندها على مدار سنوات حكمه الكثيرة بدعمه الدائم لبناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضى الفلسطينية. ولعل هذا الدعم قد تأكد جليا عندما زار هاربر إسرائيل فى 2014 وألقى كلمة أمام الكنيست الإسرائيلى وأنهاها بأن كندا ستساند إسرائيل وستظل حليفها القوى مهما تطلب الأمر.
ولعل هذا ما دفع بالجالية اليهودية في كندا لتأييد وتشجيع رئيس الوزراء السابق «ستيفن هاربر» لدرجة أنهم قدموا له دعما ماديا بلغ نحو مليون دولار لضمان نجاحه في الانتخابات واستمراره في منصبه ليستكمل عداءه للمسلمين الكنديين والفلسطينيين المقيمين هناك. فإن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن الإسرائيلية ليأتى «جاستن» ويعرب صراحة عن أسفه للأوضاع فى غزة وفلسطين، مؤكدا أنه يساند مبدأ الدولتين، وأن أفعال الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى العنيفة هى ما تساعد على تأجج الأوضاع، ويعد هذا التصريح إدانة صريحة لأفعال الجانب الإسرائيلي في سابقة هى الأولى من نوعها في تاريخ كندا على الأقل في ظل الحكومات المحافظة السابقة.
من كل ما سبق نعلم أن جاستن يتمتع بدهاء سياسى شديد، فهو يعلم أنه كلما استطاع أن يؤمن للأقليات حقوقهم استطاع كسب الأغلبية. ويبدو أنه لم ينجح فقط في كسب قلوب الكنديين بل نجح في الإيقاع بالمذيعة الجميلة صوفى جريجوار، والتى كانت زميلة دراسة لأخيه الصغر وسرعان ما وقع في هواها عام 2003 عندما التقيا مرة أخرى ليتزوجا بعدها بعامين في حفل كاثوليكى فخم يليق بنجل رئيس وزراء أسبق وليرزقا بثلاثة أطفال طالما ظهروا معه في كل احتفالاته.