التبادل التجارى بين الدولتين 35 مليار دولار.. وكان متوقاً إرتفاعه إلى مائة عندما أعلن سيرجى ناديشكين، رئيس مجلس النواب الروسى (الدوما) : أن لموسكو حق الرد عسكريا على أنقرة اعتمادا على القانون الدولى، بعد إسقاط الطائرة الروسية ميج 24 ، التى قالت تركيا إن الطائرة اخترقت مجالها الجوى وقامت بتحذيرها عدة مرات ولم ترجع، بينما كذبت روسيا تلك الرواية . وعندما أعلن أيضا وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف، أن حادث إسقاط الطائرة الروسية من جانب تركيا يمكن أن يقوض المصالح الاقتصادية بين البلدين إلى حد بعيد. تلك التصريحات ينبغى أن تجعلنا نطرح هذا التساؤل: هل التصعيد ما بين روسياوتركيا يمكن أن يؤدى فعلا إلى صراع عسكرى وحرب بين البلدين؟ أم أن الصراع سيكون صراعا اقتصاديا؟ أم أن جميع السينياريوهات ستظل مطروحة بعد التصعيد الذى نشهده يوما بعد يوم، والبحث فى جميع السيناريوهات للنظر فى مدى إمكانية حدوث الصراع بين الجانبين . علينا أن نناقش الصراع على جميع المستويات: أولا على المستوى العسكرى فنحن أمام تصريحات إذا أخذت على محمل الجد، فهى تشير إلى أن الطرفين سيتورطان فى صراع عسكرى، لأنها صدرت من أطراف مهمة لكن فى الوقت ذاته لا يمكننا التعويل على تلك التصريحات لأنها صدرت عن شخصيات خارج دائرة المسئولية، بمعنى أنهم لا يحملون أى مناصب سياسية، ومنها تصريح ميخائيل ألكسندروف، خبير الدراسات السياسية والعسكرية، الذى يقول: يجب على روسيا فى حال حدوث حرب بينها وبين تركيا أن تستخدم الأسلحة النووية، لأن المصير الوجودى للأمة الروسية سيكون على المحك، لأنه لا يجب أن ندخل فى حرب استنزاف كما حدث فى شبه جزيرة القرم. أيضا التصريح الذى أعلنه سيرخى برماكوف، نائب مدير مركز تلورى للمعلومات التحليلية قال: يجب أن نتجنب أن يكون الصراع العسكرى مع تركيا على الأرض، ويجب استخدام الإمكانات البحرية والجوية المتفوقة، على أن يكون استخدام السلاح النووى الخيار الأخير. وربما ما يكون ما أعطى لتلك التصريحات قدرا من الأهمية هى تلك التحركات على الأرض، فقد حركت روسيا بعض القطع العسكرية تجاه المنطقة، حيث أرسلت الطراد موسكنا أو موسكو الذى يعتبر من أقوى القطع البحرية على مستوى العالم، ويطلق عليه أيضا صائد حاملات الطائرات، وهو قادر على حمل صواريخ كروز المضادة للسفن من نوع ب 500، التى يبلغ مداها 550 كيلو مترا، ويبلغ وزنه 950 كجم، ويعتبر هذا الطراد الأكثر تجهيزا، وتبلغ حمولته 11300 طن، ويستطيع حمل مروحتين مسلحتين ضد السفن والغواصات، ويحمل الطراد 16 صاروخ إس آى إن 12 وأربعة صواريخ إس إس 4 ومدفعين من عيار 130 ملم، ونظاما مركزيا للدفاع ضد الصواريخ و84 صاروخ إس 300 كما أرسلت روسيا إلى المنطقة بطاريات صواريخ إس 400 التى تعتبر من أقوى الدفاعات والمضادات للصواريخ على مستوى العالم، والتى نقلت إلى القاعدة الروسية فى سوريا، وهى قاعدة الحماميم . إن تلك التصريحات العنيفة وهذا المناخ المتصاعد والأوضاع على الأرض، كلها تعطى انطباعا بأن طبول الحرب تدق فى المنطقة، غير أن قضية الحرب بالتأكيد ليست نزهة لأى من البلدين، فالجيش الروسى هو الثانى على مستوى العالم، ويمتلك نحو 700 ألف جندى، ويمتلك العديد من المعدات المتقدمة، والجيش التركى هو الثانى على مستوى أوروبا والسابع على مستوى العالم، وبه أكثر من 450 ألف جندي، والكثير من المعدات العسكرية المتقدمة، كما أن تركيا عضو مؤسس فى الناتو منذ عام 1952 وعضو أصلى، والمادة الخامسة من ميثاق الناتو تنطبق على تركيا التى تقضى بأن الناتو ملزم بالدفاع عن تركيا فى حال تعرضها لأى اعتداء، والناتو فيما يبدو أن لديه معلومات بأن الطائرة الروسية قد اخترقت الأجواء التركية، وسبق أن اخترقت الطائرات الروسية من قبل الأجواء التركية، والناتو قام بالاحتجاج لدى موسكو، ولدى الناتو تسجيلات تشير إلى ذلك، وهناك إحدى الطائرات اللبنانية التقطت التحذير التركى الموجه للطائرة الروسية، باختصار الناتو يرى أن تركيا على حق وأنها دافعت عن مجالها الجوى، والناتو ملتزم بالدفاع عن تركيا، ومجلس الأمن الأوروبى عقد اجتماعا عقب إسقاط الطائرة الروسية واتخذت أوروبا العديد من الإجراءات التى تؤكد فيها من جديد على قواعد الاشتباك التى لم تخرج عنها تركيا فى إسقاطها للطائرة الروسية حسب الناتو، مما سبق يتبين لنا بالقطع أن الخيار العسكرى مكلف جدا لكل الأطراف، وروسيا تدرك ذلك خصوصا بعد دخولها الساحة السورية، وهناك من يرى أن سوريا هى أفغانستان أخرى، التى تسببت فى انهيار الاتحاد السوفيتى سابقا، فإن سوريا قد تكون سببا لانهيار روسيا، وفيما يبدو أن بعض القوى الغربية تراهن على إدخال روسيا فى المستنقع السورى، وهناك إدراك لدى الروس بخطورة الانزلاق فى هذا المستنقع، لهذا هم حذرون جدا وحريصون على أن تكون المواجهات فى الجو بعيدا عن الأرض، بالتالى فيما يبدو أن التسخين الروسى هو للاستهلاك المحلى، لأن الرأى العام فيما يبدو يشعر بجرح فى كرامته الوطنية، ولهذا فإن القيادة الروسية تقوم بالتصعيد طبقا لارتفاع درجة الرأى العام، ومن الصعب طبقا للمراقبين أن يكون الخيار العسكرى هو المطروح الآن، وإنما التسخين القائم الآن هو فى إطار التهديد وفى إطار تهدئة الرأى العام وليس دخولا لحرب واسعة لا يستطيع أحد أن يتنبأ بنهايتها أو عواقبها . ثانيا الخيار الاقتصادى أيضا جرى تصعيد كبير على المستوى الاقتصادى، حيث اتخذ الرئيس الروسى فلاديمير بوتين حزمة من الإجراءات الاقتصادية فى مواجهة تركيا، على رأس هذه الإجراءات وقف حركة النقل التجارى بين البلدين، كذلك منعت روسيا 39 رجل أعمال تركيا كان من المفترض أن يشاركوا فى معرض زراعى، حيث منع هؤلاء من دخول مطار كراسفودار، وتم ترحيلهم إلى بلادهم، كذلك أعلنت روسيا وقف الصادرات الغذائية التى تستوردها روسيا من تركيا، وأنها ستقوم بالاستيراد من إسرائيل أو المغرب، كذلك من المتوقع أن يتم وقف الصادرات الروسية إلى تركيا من الحبوب، حيث تستورد تركيا 12% من الحبوب الروسية التى تمثل نحو 3.5 مليون طن، وأنها ستحاول تعويضها فى أسواق أخرى فى الشرق الأوسط وإفريقيا . أيضا أعلنت روسيا أنها ستتشدد فى فحص الواردات الزراعية القادمة من تركيا العشرة أشهر الماضية، حيث كان حجم الاستيراد (مليار دولار أمريكى). والأخطر مما سبق ولم يعرف مصيره حتى الآن هو ما يتعلق باستيراد الغاز الروسى لدى تركيا، حيث تحتل تركيا المركز الثانى فى استيراد الغاز الروسى بعد ألمانيا، حيث يمثل الغاز الروسى لتركيا 60% من حجم استهلاكها، وتقوم تركيا أيضا باستيراد الغاز من إيران وقطر وغيرها. وهناك أيضا مشاريع كبرى لم يعرف مصيرها بعد مثل بناء المفاعل النووى التركى، الذى من المفترض أن تقوم روسيا ببنائه فى منطقة مرسين جنوبتركيا، حيث صرح أردوغان بأن روسيا إذا توقفت عن بناء هذه المحطة، فإن أطرافا أخرى ستتولى تنفيذ المشروع، وهذا المشروع سيتكلف أكثر من 12 مليار يورو. هناك أيضا ما يسمى بتحالف الغاز الذى تم العام الماضى ما بين الرئيسين أردوغان وبوتين لبناء خطوط تركيش إستريم، وهو المشروع الضخم الذى تراه موسكو بديلا عن الأنابيب عبر الأراضى الأوكرانية، ويمتد إلى أوروبا، وكان من المفترض الانتهاء منه عام 2016 غير أن المفاوضات تعثرت بسبب بعض الخلافات حول التسعيرة، وهناك أيضا مشروع خط أنابيب تاتاب الذى يبلغ طوله 2000 كيلو متر، وينطلق من أذربيجان عبر جورجياوتركيا إلى اليونان وأوروبا، ويفترض أن يبدأ عام 2019، هذه المشاريع الضخمة والإستراتيجية لا يعرف أحد مصيرها إذا تعقدت الأمور ودخلت فى نفق مظلم، حيث إن التبادل التجارى بين روسياوتركيا يبلغ الآن 35 مليار دولار، ويتوقع فى حال استكمال المشاريع المتفق عليها والمتوقعة أن يصل التبادل التجارى إلى مائة مليار دولار ، روسيا تقول إن تركيا سوف تتضرر جدا فى حال تنفيذ العقوبات الاقتصادية لتركيا التى بدأت بنصيحة من الرئيس بوتين بعدم ذهاب السياح الروس إلى تركيا، ووقف التعامل التجارى، غير أن الأتراك يرون أن روسيا ستكون الخاسر الأكبر فى حال إذا طبقت الإجراءات الاقتصادية، حيث ترى تركيا أن توقفها عن استيراد الغاز الروسى سيمثل صفعة كبرى للاقتصاد الروسى، الذى يعانى الآن بسبب انخفاض قيمة وأسعار النفط التى أسهمت أمريكا مع دول إقليمية أخرى فى انهيار أسعار النفط حتى سبب ذلك فى إيذاء اقتصادي لروسياولإيران، وبالفعل أعلن وزير الدفاع الأمريكى عن نجاح هذه الإستراتيجية وقدم الشكر لهذه الدولة الإقليمية، وبالتالى فإن انهيار أسعار النفط التى انخفضت لأكثر من 50% بجانب هذه الضربة التى توجه إلى الغاز ، التى يمكن أن تلحق ضررا بالاقتصاد الروسى، خصوصا أن تركيا تتنوع مصادر وارداتها من الغاز من أكثر من دولة، ويمكن أن تعوض النقص من دول أخرى، وكذلك إذا توقفت روسيا عن تنفيذ المحطة النووية، فإن تركيا تؤكد أن لديها بدائل، أى دول بديلة لتنفيذ ذلك، وأن الخاسر سيكون الاقتصاد الروسى والصناعة الروسية، أيضا توقف المشاريع الإستراتيجية الضخمة سوف يعود بالخسارة على كلا الجانبين، لأن مد الخطوط من تركيا إلى أوروبا سيكون أفضل لروسيا وسيرفع من صادراتها من النفط والغاز، وأيضا تركيا سوف تستفيد من مد الخطوط داخل أراضيها، باختصار إذا فعل الطرفان خيار المقاطعة الاقتصادية، بالقطع سوف يتأثر اقتصاد كلا البلدين، وستكون خسارة مؤكدة، ومن خلال الوقائع فإن الخسارة الروسية ستكون أكبر، فهل تقبل روسيا هذه الخسائر، من الواضح أن خطوة تنفيذ العقوبات الاقتصادية هى خطوة بالغة القسوة لا يتحملها الاقتصاد الروسى الذى سيتضرر بشكل أكبر، لهذا فإن اتخاذ روسيا لهذه الخطوة ليس أمرا سهلا، وبالتالى فإن قراءتنا للموقف بأن القضية الآن هى فى إطار الحرب الإعلامية، والتسخين الإعلامى لتهدئة الرأى العام الذى يرتفع سقف تطلعاته فى الرد على إسقاط الطائرة الروسية ما يتجاوز قدرة صانع القرار الذى ينظر إلى الصورة كل جوانبها، وليس مثل رجل الشارع الذى تعنيه فقط الكرامة الوطنية، لهذا فإن الاتجاه المتوقع هو استبعاد الخيار العسكرى تماما، واستبعاد الخيار الاقتصادى مؤقتا حتى تهدأ عواصف أزمة الطائرة .