بوابة الأهرام العربي الصفوف متراصة في انتظام عجيب، يربط خيط وهمي طول الصف واستقامته، واختلاف أطواله، وأحجامه، وحركة أفراده. تفوح الروائح المعطرة من المكان، تعلو الهمهمات من الأفواه، تزهو الجلابيب البيضاء تحت شعاع الشمس، المتسلل من فتحات شبابيك السقف، التى تتوسط المكان، والتي يطلقون عليها (شخشيخة)، تشبيها للصوت الموسيقي الذي يحدثه الهواء حين يمر من الشبابيك العالية، ليأخذ دورته في فضاء المكان؛ محدثا صوتا موسيقيا يشبه إيقاع (البركشن). الأجساد خاشعة، والعيون مغمضة في سكون، أو ناظرة إلى الأرض في انكسار. تجري الحروف والكلمات على لسان ساكن القبو الأمامي، خافتة,شجية، يتردد صداها في المحراب، وترتد إلى الصفوف، فتتلقفها الآذان، وتتحرك الرؤوس في حركة لا إرادية، مع إغماض العينين، والهمس بكلمات مبهمة يملؤها الحنين، والخضوع. يعلو صوته مختنقا بالدموع، في نغمة مختلفة، وطبقة صوت لا تشبهها طبقات أخرى، في إرتفاعها وتوسلها. اختار مكانه في أقصى اليمين، جعل له حدودا بعيدة عن الصفوف، اختار بساطه ليناجيه من فوقه، لم يهتم يوما بمظهره الخارجي؛ حتى طالت لحيته، وطال شعر رأسه بطريقة عشوائية، حتى أصبح يشبه رسامي عصر النهضة..! اختفت ألوان الملابس تحت هالة الشعر واللحية، نادرا ما يلاحظ أحد تلك الرقع التي تتوسط الثوب، الذي غلب عليه اللون الرمادي، وصبغته الدموع الشفافة، بتراب رحلتها من العين إلى البساط الرمادي، الذي اختار أن يقف عليه وحيدا، لا يجاوره أحد، ولا يعلو على صوته أحد، ولا يجفف دموعه أحد، فتنزل حارة حينما يهوي بجسده، صانعا زاوية قائمة، مشيرا برأسه ناحية الشرق. تُغرق دموعه بساطه الأثير، صانعة بحيرتين صغيرتين، سرعان ما يتشربهما البساط، فتزداد حدة الدموع، وارتجاف الكتفين. يتسلل إلى أذنيه صوت ابنته الصغيرة، باكية، وزوجته ذاهلة تُخرج الآهات عن النطاق، يضيق الصدر بالكلمات، تأتي الدموع دامية من القلب مباشرة، يزداد الصمت من حوله، وتنزل دموعي جحيما، تحرقني، أنا من راهنت على غوايته..! أشاركه إغفائته، على أن أكسب رهاني عليه، أراه يركب بساطه ويناديه، يرى في إغفائته أنه طائرًا، على بساط من الماء، وكلما ارتفع صوته؛ ارتفع الماء من حوله. كان البساط سريعا، يطوي سحبا، وشهبا، ونجوما، وشموسا، وسماوت، وبلاد، وجبال، وحزن، وسهد، ودموع، وتيه، وفقر، ومرض، وخوف، وجراح، وأحلام. يناديه بكل أسمائه، ويرجوه بكل أسمائهم، فقراء، ضعفاء، مرضى. ينسى جرحه، ويتذكر جراحهم. يناديه ويختفي الجميع، يسأله عنهم، ويهجروه. يدعو لهم، ويسبوه. أتشكل في أوج تيهي معه؛ فأصبح صورة مبهجة لطفله الفقيد، أرسم إبتسامة على شفتيه، أضع لمعة على حدقات عينيه، أحاول استعادة تلك اللحظة المعجزة، التي رفع فيها ابنه بكلتا يديه، فأخفى قرص الشمس البرتقالي وراء ظهره، وأصبحت أطرافه الصغيرة مصدرا لنور الكون. يبتسم، يبكي، يصيح باسمه.. عاليا، يصمت، يتوه. أفرح، أضحك، أنتشي، يبكي.. يبكي.. يبكي، يناديه بلا صوت، يراه بلا أعين، ويحرقني صوته. مرضى، فقراء، ضعفاء، مشردون، مكلومون. يناديه دونهم، يحمل إليه آلامهم، يعيرهم دموعه، وصوته، وقربه منه، ومكانه الذي يناديه منه. لم أعد أسمع لساكن القبو صوتا، ولا همهمات الصفوف، لم أعد أتبين سوى دموعي، وتيهي، وصوتي يردد خلفه، فقراء، ضعفاء، مرضى، مشردون، مكلومون. صورتي تحل محل صورة ولده، ضعيف، ذليل، باكي، غارق فى الدموع، لا أتبين لي مكانا، سوى بساطه الرمادي الأثير، وسط جوقة الصفوف المتراصة، التي أصبحت خلفه تماما.