بعد هجمات 11 سبتمبر سادت قناعة لدى بعض الأنظمة العربية بأن الولاياتالمتحدة قادمة لا محالة لبسط سيطرتها على المنطقة، ولن تبقى نظام حكم لا يتمتع بالرضا الأمريكى فى مكانه، ومن ثم سارع إلى نيل الرضا بكل شكل من الأشكال الممكنة، بدءاً بإرسال برقيات عزاء وحتى الانخراط فى تسهيل تلك الهيمنة بالتآمر على «أنظمة حكم صديقة» فى دول شقيقة، مروراً بالإبلاغ عن نفسه وما يمتلكه من أسلحة دمار شامل وبفتح قنوات اتصال دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل بوصفها الوكيل الإقليمى الرئيس لواشنطن فى المنطقة، ومن لم يؤيد غزو العراق صراحة فى 2003 على سبيل المثال، وجد فى ممارسات نظام صدام حسين تبريراً للغزو ولموقفه إنقاذا لنفسه. وبرغم أن غزو العراق عزز هذه القناعة وكرسها، فإن هناك أنظمة حكم أخرى تحدت السياسة الأمريكية فى مواقع الاشتباك كروسيا فى جورجيا، وإيران فى الملف النووى والصين فى ملف التجارة، والبرازيل فى ملف التنمية، وبات من الطبيعى أن تشكل هذه الدول وغيرها الآن «باندونج جديدة» أو «لوبى التحدى» للسياسة الأمريكية فى مواقع عديدة ومنها منطقة الشرق الأوسط، وبعضها حول «مشروع الهيمنة» فى مواقع أخرى كالعراق وأفغانستان إلى «ورطة أمريكية». ومع اجتياح المنطقة العربية ثورات وانتفاضات شعبية من أجل الحرية واسترداد الكرامة والعدالة الاجتماعية، وجدت السياسة الأمريكية فرصتها لركوب موجة هذه الثورات التى أسقطت أنظمة حليفة لها لتشويهها عمداً كما يحدث الآن من ناحية، ولكبح جماحها من ناحية أخرى عبر وسطاء وسماسرة محليين وإقليميين، مرة بزعم أنها شريكة بدعوى أنها أسهمت (بالتمويل) فى نشر الديمقراطية ، ومرات بالدفاع زيفاً عن النشطاء وحقوق الإنسان، وأطلقت و اشنطن تسمية «الربيع العربى» ظناً بأنه ربيعها! حيث وجدت الفرصة سانحة للتخلص من نظم حكم مناوئة مثل النظام السورى بعدما أزاح الثوار فى بلدان أخرى عن كاهلها أنظمة حكم حليفة فقدت صلاحيتها. وعلى غرار ما حدث فى أعقاب أحداث سبتمبر 2001 ، سايرت أنظمة حكم بالمنطقة السياسة الأمريكية.. قسم منها خشى من امتداد حالة الانتفاضات الشعبية إليها، وقسم آخر لاتزال قناعات الماضى تحكم رؤيته، وتشهد المنطقة «مسخرة» من نوع دعوة الأنظمة العشائرية الديكتاتورية نظراءها إلى «الإصلاح»!! فيما تواجه أطراف إقليمية اختبارا صعبا بين عواطفها ومصالحها، وأخرى تعد نفسها لدور «إمبراطورى». ومثلما وجد الجميع فى ممارسات صدام تبريراً للغزو ولموقفه، وجدوا أيضاً - على سبيل المثال - فى ممارسات القذافى تبريراً لاستدعاء حلف «الناتو» للتخلص من النظام الليبى، فحولوا الثورات الشعبية إلى «فوضى إقليمية».. تتجلى مساخرها فى اعتبار قطاعات ثورية فى بلدان عربية التدخل الخارجى واحدا من بين الخيارات «الوطنية»!! وهتف البعض: «إلى الأمام يا ناتو»، مثلما هتف البعض فى مصر خلال الحرب العالمية الثانية: «إلى الأمام يا روميل»، فى إساءة بالغة لدماء الشهداء، بل وجد «حلف الناتو» رجال دين يفتون له.. جديد هذه المرحلة أن العالم العربى لم يعد فى مواجهة مؤامرة خارجية فقط بل بات فى مواجهة أطماع إقليمية، مع ملاحظة أن المؤامرات الخارجية لا تنجح إلا إذا توافرت لها ظروف داخلية مواتية. تريد حكومة تركيا برئاسة أردوغان استعادة روحها «العثمانية» (التوسع)، والعودة من غيبتها الكبرى عبر دعم «الثورات» فى مصر وليبيا وسوريا ودعم حركة حماس، لكنها حائرة بين مصالحها مع الولاياتالمتحدة وفى الانضمام للاتحاد الأوروبى وعضويتها فى حلف الناتو وبين عواطفها ومصالحها وأطماعها فى المنطقة، فأردوغان يتصرف أحياناً كرئيس حكومة أوروبى حليف لواشنطن، وفى أحيان أخرى كرئيس لجماعات الإسلام السياسى فى العالم العربى.. فهو يواجه أزمات داخلية نتيجة صدام مشروعه مع التيارات العلمانية والليبرالية وتيارات فى الجيش ورجال أعمال كثير منهم من الطائفة العلوية، فقدم مشروعه ونفسه بوصفه حامى «السنة» فى المنطقة، فمد أصابعه فى القضية الفلسطينية عبر حركة حماس ومسرحية «سفينة الحرية»، وفى ليبيا وفى سوريا، لكن عندما اصطدم مشروعه - دعم ثورات الشعوب فى مواجهة الأنظمة الحاكمة - مع ما يجرى فى البحرين اختار دعم النظام الحاكم. ولا يختلف المشروع الإيرانى عن التركى بل لا يختلف النظام الإيرانى فى عهد الشاه عن النظام الإيرانى الحالى وإن اختلفت السياسات فالهدف (التوسع) واحد، ومنطقة المشرق العربى تعد من منظور توسعى «منطقة فك وتركيب» ملائمة. فى حالة سوريا يتصادم المشروعان التركى «العثمانى» و«الإيرانى»، فالأول نفض يده من النظام السورى بعد أن استفاد منه سياسياً و اقتصادياً وحتى ثقافياً، حيث كانت سوريا بوابة «دبلجة» الدور التركى إلى العربية، وأنهى التركى بلحظة مجلس التعاون الإستراتيجى «الرئاسى»، وهى نفس صيغة التعاون التى عرضتها تركيا على مصر خلال زيارة أردوغان للقاهرة فى سبتمبر 2011!! أما إيران فقد استمرت فى دعم النظام السورى مع تقديم النصائح له.. لكن يجب هنا ملاحظة أن إيران لديها اقتصاد قوى يعتمد على النفط، وتوظف الاقتصاد لخدمة السياسة، أما الاقتصاد التركى فيقوم على التجارة، ويوظف السياسة لخدمة الاقتصاد ما يفسر حيرة التركى وارتباكاته الإقليمية. ومن المفارقات أن أردوغان الذى يلاعبه الأوروبيون بورقة «إبادة الأرمن» وينصح المصريين بدستور «علمانى» يهدم - فى لعبة المصالح - التجربة العلمانية فى سوريا، الأمر الذى دعا الأقليات، لاسيما المسيحيين فى سوريا ولبنان للالتفاف حول النظام، وبرغم أن هذا الكلام نفسه مردود عليه بأن صدام حسين كان علمانياً، فإن اللعبة هنا تجاوزت إسقاط نظام إلى إسقاط الدولة (للتدخل بدعوى «حماية السنة» فى حالة سوريا) كما الهدف فى مصر. أما «الإسرائيلى» فمشروعه الصهيونى هو المستفيد الأول من حالة السيولة وتفكك دول الجوار، ويعتبر الفرصة سانحة لتحقيق أحد أهم أهدافه، وهو اعتراف العرب بإسرائيل «دولة يهودية» طالما هناك من يريد أن تنص دساتيره الجديدة على هويته «الإسلامية»، وذلك بخلاف أطراف إقليمية تريد أن تصدِّر إلى مصر مشاكلها الطائفية الداخلية. تتصادم المشاريع التى تطرح نفسها فى المنطقة العربية بوصفها «إسلامية» مع عقائد قسم من المواطنين، ناهيك عن التصادم مع المذاهب الإسلامية الأخرى وعن كون جمهورها من المسلمين فقط، وتعتبر المسلمين من غير المواطنين أقرب من المواطنين غير المسلمين، وتتصادم الليبرالية والعلمانية مع الإسلاميين، والماركسى جمهوره ومشروعه طبقى، ويعتبره الإسلامى خارج الملة... أما التيار العروبى فهو تيار جامع يحتوى الجميع، العرب المسلمين، من كل المذاهب (سنة وشيعة ودروز وغيرهم)، والمسلمين غير العرب (كالأكراد و الأمازيج) والعرب غير المسلمين (كالأقباط فى مصر و الموارنة فى لبنان)، وحتى الملحدين. فى خضم ما يجرى فى مصر والمنطقة تبدو استعادة مصر «روحها العربية» طوق النجاة لها وللمنطقة (مع الاستفادة من أخطاء الماضى) فمصر العربية لا تقف وحدها ولا تنتظر مساعدات خارجية من أحد والأزهر الشريف فى مصر «العربية» - على سبيل المثال - يوفر للأغلبية السنية وللأقليات غير السنية وغير المسلمة الحاكمة والمحكومة غطاء أمان أنقذ المنطقة ومصر مراراً من اندلاع فتن طائفية. ويبدو التاريخ أحياناً وكأنه يعيد نفسه، فقد وجدت مصر مع ثورة يوليو 1952 ضالتها فى عروبتها مستفيدة أيضاً من أخطاء الماضى بعدم التحام ثورة 1919 فى مصر مع الثورة العربية الكبرى 1916.. وقتها خسرت مصر والأمة العربية ونجحت مؤامرة سايكس - بيكو، فقد وعت قيادة مصر بعد يوليو 1952 درس التاريخ، برغم أنه لا القضية الفلسطينية ولا الصراع مع إسرائيل ولا حتى الوحدة العربية كانت ضمن أهداف الثورة الستة، فنظرية «شرق السويس» بمنع مصر عن مشرقها العربى وانكفائها داخل حدودها هى كمين. تواجه مصر الآن تحديات أشد وطأة، فقد تم تقسيم السودان والناتو أصبح جارنا من جهة الغرب فى ليبيا، وإسرائيل متحفزة فى الشرق، وعروبة مصر من أقوى الدفاعات، فالتيار العروبى هو التيار الغالب فى الشارع العربى باعتراف زعيم حزب النهضة التونسى راشد الغنوشى، الذى يرى أن الهوية إسلامية لكن الشارع عروبى ولا يعتبر أن هناك تناقضاَ بين هذا وذاك، ومصر هى القاطرة، فكما يقول المفكر اللبنانى منح الصلح:«إن العالم العربى والعروبة هى دولة (مصر) حولها مجموعة من القبائل والطوائف والعشائر.. والعرب أصحاب مصلحة أكبر من مصلحة مصر فى عروبتها».. فالعرب ينتظرون مصر القائد.. لكنها يجب أن تحسم مصر خياراتها أولاً.. كلمة أخيرة: مع نهاية عام عاصف وبدء عام جديد، تستعيد مجلة «الأهرام العربى» هويتها كمجلة عربية تصدر من مصر تهتم بالشأن العربى وبالشأن المصرى الذى يهم قراءها العرب والمصريين، ويعاهد جميع العاملين بالمجلة بما تضمه من كفاءات وبما توفره «الأهرام » من إمكانات القراء بمواصلة تقديم خدمة صحفية متميزة. وفى هذا الإطار أيضا ينطلق غداً الأحد موقع «بوابة الأهرام العربي»، رسميًا، على الإنترنت، التى تقدم خدمة إخبارية على مدار الساعة، تعنى بقضايا الأمة العربية والمصرية والعالمية، مع التركيز بشكل أكبر على دول «الثورات العربي»، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام. يمثل موقع «بوابة الأهرام العربي» على الإنترنت وعنوانه: http://arabi.ahram.org.eg تجربة فريدة، حيث يقدم متابعات يومية للموضوعات المنشورة بمجلة «الأهرام العربي»، التى تصدر صباح السبت من كل أسبوع، إضافة إلى نشر كل ما يستجد من أخبار وأحداث سياسية واقتصادية وفنية وثقافية ورياضية، وبهذا تتميز «بوابة الأهرام العربي» بالمزج بينها وبين مصدرها الأم “مجلة الأهرام العربي"، ليمثلا بذلك أول تجربة مزج حقيقة بين الإعلام الإلكتروني والمطبوع. كما تتيح البوابة لزوّارها التفاعل المباشر والسريع مع الأهرام العربي، سواء كبوابة إخبارية يومية، أم كمطبوعة أسبوعية. وتوجد للبوابة والمجلة صفحات رسمية لها على موقعى التواصل الاجتماعى “فيسبوك" وتويتر"، ومن خلالهما يمكن للقارئ معرفة كل ما هو جديد من أخبار لحظة نشرها على البوابة.