محمد وطنى مع سقوط أجزاء كبيرة من وسط وغرب العراق بيد الآلاف من مسلحى ما يعرف بتنظيم الدولة فى العاشر من يونيو الماضي، وسيطرة التنظيم على محافظة نينوى العريقة، لم تحتل المخاوف على التراث الأثرى فائق القيمة الذى تضمه المحافظة أولوية على قائمة التنديدات الدولية المتوالية بما ينسب للتنظيم فعله من كوارث، خصوصاً مع إرهاب مئات الآلاف - وفق مصادر إعلامية - ودفعهم لهجر منازلهم ومدنهم وقراهم، والنزوح للجبل هربا من دموية التنظيم ومنتسبيه، وطوال فترة امتدت أكثر من 6 أشهر، عمد عدد من أعضاء التنظيم وقادته إلى نهب وسلب «ما قل خف وزنه وارتفعت قيمته» من آثار المنطقة النادرة، بحسب رسائل واصل بثها آثاريون ومتخصصون عراقيون وشهود عيان خلال الأشهر الماضية، ولكنها لم تلق آذانا واعية، أو تجاوبا دوليا واسعا ربما بسبب هول الأحداث الدموية التى يصدرها التنظيم عبر وسائل الإعلام بشكل شبه يومي، وربما لأسباب أخرى، فلا يخفى على باحث أو متابع الأهمية والقيمة الفائقة لآثار واحدة من أعرق حضارات العالم القديم، والتى باتت مستباحة لمن يقدر على دفع الثمن الذى أصبح بخسا بعد وقوعها فى أيدى من يجهلون قيمتها الإنسانية والمادية - إن كانت تقدر بثمن -. وخلال الأيام الأخيرة توالت الأنباء القادمة من العراق والتى تتحدث عن تدمير «داعش» للمتاحف والمواقع الأثرية العراقية التى تقع فى المناطق الخاضعة لسيطرتها، فبعد إعلان تدمير مقتنيات متحف الموصل ثانى أهم المتاحف العراقية، ونهب كامل محتوياته، بل وبث شريط مصور يظهر منتسبى التنظيم وهم يدمرون ما لم يستطيعوا تهريبه من آثار المتحف، توالت الإدانات الدولية لتخريب التراث الإنسانى على يد التنظيم الإرهابي، ويبدو أن التنظيم لم يعبأ بها وواصل تجريف وهدم المواقع الأثرية العراقية بشكل متواصل. تجريف آثار «نمرود» تعد مدينة نمرود الأثرية من أهم آثار الحضارة الآشورية القديمة، وقد أعلنت الحكومة العراقية أن آثار المدينة تعرضت ل «تجريف» على يد تنظيم الدولة الإسلامية، حيث قالت وزارة السياحة والآثار العراقية إن «عصابات» التنظيم الذى يسيطر على مساحات واسعة من البلاد، قامت «بالاعتداء على مدينة نمرود الأثرية وتجريفها بالآليات الثقيلة مستبيحة بذلك المعالم الأثرية التى تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد». وتقع المدينة التاريخية عند ضفاف نهر دجلة على مسافة 30 كلم جنوبى من الموصل، كبرى مدن شمال العراق والخاضعة لسيطرة التنظيم منذ يونيو الماضي. وجاء الإعلان عن تدمير آثار مدينة نمرود بعد أيام من نشر التنظيم شريطا مصورا يظهر قيام منتسبيه بتدمير آثار فى متحف الموصل، ونقلت فرانس برس عن عالم الآثار العراقى فى جامعة ستونى بروك الأمريكية حيدر حمدانى قوله: «نمرود كانت عاصمة آشور خلال العصر الآشورى الحديث، وهى من المواقع الأثرية المرشحة للإدراج على لائحة التراث العالمى لمنظمة اليونسكو. واسمها المعتمد هو الاسم العربى للمدينة التى كانت تعرف أساسا باسم «كلحو». وقد بدأ ذكر المدينة من قبل علماء الآثار فى العام 1820، وجرت عمليات استكشافها والتنقيب عنها فى عقود لاحقة، من قبل علماء أجانب، وقد سبق وأن تعرضت المدينة للنهب إبان الاجتياح الأمريكى للعراق فى العام 2003. ولم يتضح مدى الضرر الذى ألحقه الجهاديون بالمدينة الأثرية، إذ إن حراس الموقع ومسئولى الآثار العراقيين غير قادرين على تقييمه بسهولة. وتقع غالبية المواقع الأثرية فى محافظة نينوى، ومركزها الموصل، فى مناطق تحت سيطرة تنظيم الدولة، وبرغم نقل العديد من آثار نمرود من الموقع الأثرى إلى متاحف عدة بينها متحفا الموصل وبغداد، بالإضافة إلى متاحف فى باريس ولندن وغيرها. إلا أن أبرز وأشهر آثار المدينة، والممثلة فى التماثيل الآشورية الضخمة للثيران المجنحة ذات الرأس البشرية، والقطع الحجرية المنقوشة، بقيت فى الموقع الأصلي. ومن أبرز الآثار فى الموقع «كنز نمرود» الذى اكتشف فى 1988، وهو عبارة عن 613 قطعة من الأحجار الكريمة والمجوهرات المصنوعة من الذهب، وعرض الكنز الذى يعود تاريخه إلى نحو 2800 عام، لمدة وجيزة فى المتحف الوطنى العراقى فى بغداد، قبل اجتياح العراق للكويت فى صيف العام 1990. وأخفت السلطات العراقية الكنز إلى أن عثر عليه فى المصرف الوطنى العراقي، بعد أسابيع من سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين إثر دخول القوات الأمريكيةبغداد فى إبريل 2003. ومن جهته قال فرهنك كومشيني، المتحدث الرسمى باسم وزارة الثقافة فى حكومة إقليم كردستان فى تصريح إعلامي: «ندين بشدة الأعمال الوحشية التى ينفذها داعش فى محافظة نينوى، وهى جرائم اجتازت بوحشيتها كل المعايير الإنسانية، وامتداداً للعقلية التى دمرت فى عام 2001 آثار بوذا فى أفغانستان، فالتنظيم لم يقف عند سفك دماء الناس بل تخطى ذلك إلى القضاء على تأريخ المنطقة». كما قال دريد طوبيا، المستشار القانونى لمحافظ نينوى: «إن الأضرار التى لحقت بآثار محافظة نينوى من قبل تنظيم داعش لا تحصى ولا تعد، خصوصاً آثار نمرود، لأن كل التماثيل التى جرفت بالكامل باستخدام المعدات والآليات الثقيلة، كانت تماثيل أصلية، تعود إلى 1300 سنة قبل الميلاد», وأضاف: «لقد اجتمعنا مع وزير السياحة والآثار فى بغداد، وطلبنا منه إعلامنا بإجراءات الوزارة فى هذا المجال، ووصلنا إلى حقيقة، وهى أن الآثار التى تضررت بشكل كبير لا يمكن إعادتها مرة أخرى، أما ما لحق به أضرار طفيفة فيمكن فى مرحلة ما بعد داعش إصلاحه، وبدء عمليات التنقيب من جديد، لأننا نمتلك كميات هائلة منها تحت الأرض، ونعيد من جديد إظهار آثار حضارتنا للعالم». نسف مدينة «الحضر» الأثرية وبعيد ساعات من إعلان وزارة الآثار العراقية عن «تجريف» مدينة آثار النمرود، نقلت وسائل إعلام محلية ودولية عن رئيس قسم الآثار بجامعة الموصل الدكتور حامد الجبوري، قوله إن «داعش» قام بتفخيخ وتفجير مدينة الحضر التاريخية جنوبى مدينة الموصل (400 كم شمالى بغداد)، وقال الجبورى إن «جريمة جديدة ارتكبت اليوم ضد الآثار العراقية من قبل داعش»، ووصف ما حدث ب«الدمار الكبير والخسارة التى لن تعوض». ونقلت رويترز عن مسئول بوزارة الآثار العراقية قوله:»تلقينا تقارير من موظفينا فى مدينة الموصل الشمالية الواقعة تحت سيطرة التنظيم المتشدد، تؤكد أن الموقع الأثرى فى الحضر دمر. وأن الوزارة لم تتلقَ أى صور توضح حجم الدمار، الذى لحق بمدينة الحضر، التى أدرج اسمها ضمن مواقع التراث العالمى عام 1987. لكن أحد سكان المنطقة قال إنه سمع دوى انفجار عنيف فى وقت مبكر صباح أمس، وأن آخرين فى مناطق قريبة ذكروا أن المقاتلين المتطرفين، دمروا بعض أكبر المبانى فى الحضر، وأنهم يدمرون مناطق أخرى بالجرافات. وتقع الحضر على بعد نحو 110 كيلومترات جنوب الموصل، وتعد مملكة العرب أو «عربايا» أقدم الممالك العربية فى العراق، وعرفت بتميزها فى الهندسة المعمارية التى نافست المدن الرومانية القديمة وعلى رأسها روما. تفجير آثار «خورسباد» واستمرارا فى نفس النهج نقلت وكالة الأنباء الألمانية عن الخبير فى شئون آثار محافظة نينوى شمال العراق جمعة عبد لله حسن، قوله إن تنظيم داعش أقدم على تفجير أثار مدينة خورسباد شمال الموصل، التى تضم مواقع آثار وتراث من العهد الآشورى فى المنطقة، ويعود تاريخها إلى قرنين قبل التاريخ»، وأضاف أن سكان خورسيباد قالوا إن التنظيم سرق أغلب الآثار ونقلها وفجر القليل منها أمام عدسات إعلامه. فيما نقلت وسائل إعلام عن خالد الدباغ، أستاذ الآثار فى جامعة الموصل، قوله: إن داعش جرف بآلياته بقايا معبد «خورسباد» فى منطقة خورسباد على طريق الشلالات (15كم شمال الموصل». وأوضح الدباغ أن «آثار المعبد فى خورسباد لا تقارن مع آثار الحضر والنمرود التى دمرها التنظيم، لكنها تعود لنفس العهد فى الحقبة الآشورية»، مبينًا أن «الآثار القيمة للمعبد جرى تحويلها إلى بغداد فى تسعينيات القرن الماضى ولم تبق إلا آثار أرضية للمعبد، وهذا ما جرى تجريفه على عكس آثار النمرود والحضر». يذكر أن خورسباد كانت عاصمة لمملكة آشور فى زمن سرجون الثانى بعد وقت قصير من توليه العرش عام 721 قبل الميلاد. «تدمير الأصنام» وفيما بدا مثيرا للدهشة وسط الإدانات الدولية واسعة النطاق لتدمير الآثار العراقية، اقتحم محتسبون منصة المحاضرات بالقاعة الكبرى فى معرض ثقافى بالعاصمة السعودية الرياض، معترضين على ما فهموا أنه اعتراض المحاضر على هدم آثار الموصل، إذ بادروا بقولهم إن اسمها «أصنام»، وأن الرسول محمد حطمها حين دخل مكة.