عماد عريان أشفقت كثيرا على اللواء عبد المنعم عثمان، مدير إدارة الإعلام فى وزارة الداخلية يوم مقتل الناشطة السياسية شيماء الصباغ فى ميدان طلعت حرب، كان من الواضح أن الرجل بحكم منصبه الرفيع ومسئولياته الجسام، تقع على عاتقه مهمة تبييض وجه الداخلية من أى شوائب، فى وقت تبذل فيه الأقوال الأمنية جهودا مضاعفة لإقرار الأمن والاستقرار فى البلاد، أتبع الرجل سياسة "الكعب الداير"- وهو تعبير أمنى بالمناسبة- فلم يترك قناة فضائية ولا برنامجا حواريا ولا مذيعا جماهيريا فى تلك الليلة، إلا وأجرى معه اتصالا هاتفيا عاجلا، وتركت للرجل مساحات زمنية هائلة للتحدث عن الواقعة، وبحماسة شديدة وصوت جهورى راح المسئول الرفيع يكرر نفس الجمل ونفس الكلمات، ويكيل نفس الاتهامات بدقة شديدة وكأنها "أسطوانة مشروخة" تتكرر كلما جاءت الفرصة المناسبة. تذكرت على الفور أيقونة ثورة 25 يناير الشاب خالد سعيد الذى كالت له الداخلية اتهامات تنوء بحملها الجبال، بينما منحه زملاء أعزاء فى الإعلام والفضائيات لقب "شهيد البانجو" بامتياز، ثم اتضح أنه شهيد التوحش الأمنى داخل أحد أقسام شرطة الإسكندرية بضربه بمنتهى العنف، وإلقاء جثته فى عرض الطريق بأيدى مخبرين متمرسين، لكن دماءه لم تذهب هدرا على أية حال، فقد كانت شرارة الثورة، وبرغم محاولات الداخلية المستميتة لقتل الحقيقة فى مهدها فإن الباطل لم يصمد للنهاية. قد يكون من المستبعد أن تفجر دماء شيماء الصباغ ما فجرته دماء خالد سعيد، ولكننا أمام حالة مأسوية تثبت أن القيم القديمة والأفكار النمطية مازالت تهيمن وتعشش فى أهم وأكبر مؤسسات الدولة، وهى ظاهرة فى منتهى الخطورة فى مجتمع يتطلع إلى ما أفضل، ولنتأمل المشهد مجددا، ذلك الذى حدث فى طلعت حرب يوم استشهاد شيماء الصباغ، قالوا ثلاثين أو أربعين أو خمسين شابا من حزب سياسى تجمعوا فى مسيرة حاملة أعلام مصر الغالية وأكاليل زهور تحية لأرواح الشهداء، القول الأمنى فى طلعت حرب ضرب قنابل الغاز بزعم عدم حصولهم على تصريح! أين الحوار أولا وأين روح القانون وأين المواءمة السياسية والإنسانية؟، كان على هذا القول أن يوفر كل حماية ممكنة لهم، حتى ينجزوا مهمتهم بدلا من ضرب النار وإطلاق وحوش كاسرة فى مواجهة "عصفور" برىء. قالوا إن عناصر مندسة اخترقت المسيرة وقام أحد المندسين بقتل شيماء! ألم توفروا أنتم الفرصة – إذا صحت روايتكم – لهؤلاء المندسين بخلق حالة الهرج والمرج بقنابل الغاز ومطاردة الشباب واعتقالهم بدلا من حمايتهم والاحتفاء بهم؟أين كياستكم فى القدرة على التفرقة بين الإخوانجى والإرهابى والسياسى المسالم؟وإذا صحت روايتكم بقيام مندس بارتكاب هذه الفعلة الشنعاء، أليست مهمتكم الأولى ضبط المجرمين والقتلة، كنتم فى المكان وفرقتم الجمع وشتتم الشمل وبعد كل هذا أليس لديكم القدرة على ضبط الجانى ومعكم أسلحة متنوعة وسيارات حديثة؟ الغريب فى الأمر أيضا أن أول بيان صدر للداخلية عن الواقعة جاء مفعما بالمغالطات - ولا داعى لقول الأكاذيب احتراما لمكانتها – حيث أشار إلى استخدام الشباب المشاركين ألعابا نارية وشماريخ، وهو ما نفاه الجميع وكذبته الصور بنسبة مائة فى المائة، ثم قالوا إن الفتاة تم نقلها إلى المستشفى لكن الحقيقة لم تكن كذلك، حيث نقلت لمركز طبى قريب (عيادة)، أما الصادق فى البيان فهو بدايته عند تحدث عن "رصد"القول الأمنى تجمعا فى ميدان طلعت حرب، ولكن لنتأمل هذه اللغة "التربصية"وكأن ما تم رصده كتيبة أعداء، ونتناسى أن أى محطة ركاب "ميكروباص"قد تكون بها مئات الأشخاص الذين يعطلون المرور بمشاهد من البلطجة دون حسيب أو رقيب، نتناسى أن محطة مترو واحدة قد يكون على رصيفها أكثر من ألف شخص فى لحظة واحدة، فما الضرر الأمنى أو المرورى أو الإنسانى من تجمع خمسين شخصا حتى تقتل أكثرهم براءة ونقاءً، النتيجة تفريق خمسين شخصا وخروج خمسين ألفا يبكونها يوم جنازتها فى الإسكندرية، مأساة خالد سعيد تتكرر من جديد. قلبى مع اللواء عثمان وهو يحاول محو كل آثار الاتهام عن الداخلية، ولكن كنا سنشعر بسعادة غامرة لو أن الرجل تخلى عن "أسطوانته المشروخة"واكتفى ببيان صادق متحضر، يؤكد فيه أن الداخلية ستجرى تحقيقات محايدة على أعلى مستوى لإظهار الحقيقة حتى ينال المخطئ جزاءه، ذلك أفضل من توريط تلك "الجوقة" الإعلامية التى أفلست بالفعل فراحت تتنفس من جديد على حساب دماء الأبرياء بنفس الوسائل والأساليب السابقة على ثورة 25 يناير. قلبى ينفطر مجددا على شهداء الشرطة الأبرار الأطهار وهم فى عليين، هؤلاء الرجال الذين يقدمون أرواحهم بلا مقابل ولا حسابات فى سبيل الوطن وحتى ينام المواطن آمنا مطمئنا، وعلى أقرانهم الذين لم تصلهم الرسالة بعد فى مختلف المواقع أن يطهروا هم أيضا أنفسهم بدماء زملائهم، فلا يعقل أن يموت الأبطال فى معركة الشرف، بينما آخرون يفسدون بطولاتهم ويشوهون إنجازاتهم ويسحبون من أرصدة الشرفاء، بل ومن أرصدة كل من يسعى بجدية لإعادة بناء هذا الوطن وتطهير مؤسساته وهيئاته.أغلب الظن أن الشعب مستعد لأن يتحمل مزيدا من الصعوبات الاقتصادية أو الخدمية، ولكنه أبدا لن يتحمل فسادا جديدا أو مزيدا من القمع.