إيمان عمر الفاروق الشباب هم فرق الانتحار.. هم الطيور المهاجرة.. هم الذين يتقدمون فى كل ثورات التاريخ برفع رايات العصيان ويطلقون الصيحات الأولى والشعارات المتطرفة، وتختلط عندهم الأفكار الجريئة بحركات الشغب الطائشة الغوغائية ولكن بعد ذلك هى الثورة . هذا الكتاب أشبه «بعملية تشريحية» لعقل ووجدان الشباب المتمرد الذى يريد إثبات ذاته، وتناول أشمل وأعمق لمفهوم الثورة يتجاوزها بمعناها السياسى الضيق ليحلق فى آفاق تجلياتها الاجتماعية والثقافية بكل أشكال الرفض للسلف بداية من الأزياء إلى القوالب الشعرية. وبرغم أن العمر الزمنى لتلك المقالات قد تجاوز العقود الأربعة، فإنك ستشم رائحة الحاضر تفوح من حروفها وكأن مدادها لم يجف بعد، فتلك عبقرية كاتبها الراحل توفيق الحكيم وكأنه كتبها خصيصا لهذا الملف عن «غضب الشباب»، لذا نعرضه دون ملاحظات أو وصلات ليمنحنا شعورا صادقا بأنه مقال بقلم توفيق الحكيم . يرى توفيق الحكيم أن كل ثورة هى دليل حيوية.. والشباب هو الجزء الحيوى فى الجسم، فلا عجب أن يقوم بالثورة الشباب، وقلما تكون هناك ثورة شيوخ، لأن الشيخوخة هى تناقص الحيوية . والثورة مادامت متصلة بالحيوية فلابد أن تكون منشطة لهذه الحيوية ومجددة لها، وإلا اتخذت اسما آخر هو "الهوجة". والفرق بين "الثورة " و"الهوجة" هو أن "الهوجة" تقتلع الصالح والطالح معا..كالرياح الهوج تطيح بالأخضر واليابس معا، وبالشجرة الصفراء جميعا .أما "الثورة "فهى تبقى النافع وتستمد منه القوة ..بل وتصدر عنه أحيانا، وتقضى فقط على البالى المتهافت، المعوق للحيوية، المغلق لنوافذ الهواء المتجدد، الواقف فى طريق التجديد والتطور. لكن المسألة ليست دائما بهذه البساطة .فالثورة والهوجة تختلطان أحيانا، إن لم يكن فى كل الأحيان .فالثورة كى تؤكد ذاتها وتثبت وجودها تلجأ أحيانا إلى عنف الهوجة لاقتلاع كل ما كان قبلها ..وتجعل بداية كل خير هو بدايتها، وتاريخ كل شىء هو تاريخها. ولا تتغير هذه الحال إلا عندما تشعر الثورة بصلابة عودها، وتوقن أنه قد أصبح لها وجه واضح وشخصية متميزة ومكان راسخ فى التاريخ العام.. عندئذ تنبذ عنها عنصر الهوجة وتأنف منه، وتعود بكل اطمئنان إلى تاريخ الأمة العام لتضع كل قيمة فى مكانها الصحيح، وتضع نفسها فى الحجم المعقول، داخل إطار التسلسل الطبيعى لتطور أمة ناهضة. إذا عرفنا ذلك، كان من الميسور أن نفهم حركات الأجيال الجديدة، أو ما يسمى اليوم بثورة الشباب. ما من أحد منا لم يشعر فى شبابه برغبة ما فى الانطلاق عبر بعض القيود ..ذلك مظهر من مظاهر الحيوية والحركة والتحرر وتأكيد الذات.ولكى نؤكد ذاتنا ونبرز شخصيتنا الخاصة، كان لابد لنا من الانفصال عن شخصية السلف، ووسائلنا فى ذلك مفتعلة كوسائل كل ثورة فى صباها ؛وهى الرفض لكل ما يقوله السلف. ولكن فى أيامنا نحن لم تكن الهوة سحيقة كما هى اليوم بين الآباء والأبناء. فلم يكن العالم قد شهد بعد حروبا عالمية، ولا مخترعات جهنمية، كان كل شىء مستقرا فى قوالب جامدة وصناديق مختومة، والدنيا هادئة نائمة تغط فى عاداتها المرعية وتقاليدها المقدسة. ولكننا اليوم فى عصر مستيقظ، يموج بالتغييرات المستمرة والتحركات الفكرية والعلمية والسياسية التى تسبق كل خيال، ما من شىء راكد أو يُسمح له بالركود، وما من شىء مقدس أو يُسمح له بعدم الخضوع للبحث والمناقشة. ووسائل الاتصال بين العالم من إذاعات وتليفزيونات وأقمار صناعية، قد جعلت الأفكار فى تحررها وجموحها وسموها وانحطاطها فى متناول كل شخص. مثل هذا العالم اليوم، ما تأثيره على الشباب الذى يريد أن يؤكد ذاته ويكون له رأى فى تحقيق شخصيته ودور فى تشكيل المستقبل؟ ذلك كله يجب أن نعيه ونضعه فى اعتبارنا ونحن نواجه الشباب اليوم، ومن واجبنا أن نبصره، أنه إذا كان من حقه أن تكون له ثورة، فواجبه أن يعرف الفرق بين الثورة والهوجة، وعليه أن يدرس ما يبقيه ويحافظ عليه ويضيف إليه، وما يلقيه وينبذه ويطرحه بعيدا عن طريق نموه وتطوره وزمنه الجديد. والحذر كل الحذر أن نواجه الشباب فى كل حين بالوعظ والإرشاد، أو أن نترك الجوهر ونحادثه دائما عن المظهر، ونظن القيامة قد قامت لاختياره شكلا من أشكال اللبس أو نمطا من أنماط شعر الرأس. وننسى أننا فى شبابنا كان الشباب حتى من المعممين يختارون ألوان الجبب والقفاطين زاهية فاقعة من اللون الليمونى الفاتح إلى البنفسجى والفستقى، أما الشباب الذين يرتدون الطربوش فكانوا يتبعون فى شكل سراويلهم كل جديد مستحدث، من البنطلون الضيق اللاصق، إلى المتسع "الشارلستون" إلى المتخذ شكل القُمع . وكانت السوالف تارة والشوارب المدببة تارة أخرى، ثم بدعة الشارب الحليق التى قيل يومئذ إنها تخنث وتشبه بالنساء، فأصبحت هى القاعدة العامة السائدة بين الكبير والصغير، كل هذه الأشياء لا تليق بعصرنا الحديث أن يعيرها اهتماما، وإن الكبار عندما يجعلون منها قضية يظهرون أمام الشباب بمظهر السخافة والتفاهة، ويفقدون فى الحال الثقة والجدية والاعتبار. نحن فى عصر الفكر المتحرك، ولا أمل فى مواجهة ثورة الشباب إلا بوضعها فى إطار الفكر والعقل والجوهر. هذه الأجيال الجديدة من الشباب الضائع المخدر المستهتر المخرب المتصعلك الهائم النائم فى الطرقات كما يراه البعض، هؤلاء هم فرق الانتحار هم الطيور المهاجرة التى تسقط فى البحر ليصل غيرها سالما إلى بر الأمان، هم الذين يتقدمون فى كل ثورات التاريخ برفع رايات العصيان ويطلقون الصيحات الأولى المشوشة والشعارات المتطرفة وتختلط عندهم الأفكار الجريئة بحركات الشغب الطائشة الغوغائية، ولكن بعد ذلك هى الثورة، أقصد ثورة الشباب الحقيقية التى بدأت ببعض المظاهر ككل الثورات وبرفض الوصاية على أسلوب حياتهم الجديدة ليشعروا بأن شيئا قد تغير ويشرعوا بعد ذلك فى حمل مسئوليتهم الكبرى لتغيير وجه العالم . يجب أن نتذكر أن هذه الأجيال الجديدة التى نشاهدها تمرح فى الظاهر كما تشاء هى فى الباطن، تلك التى تملأ مقاعد الجامعات والمكتبات وتنكب تبحث فى المعامل تحت العدسات وهى التى ستجرد وتفحص كل منجزات البشرية العظيمة النافعة لتزيد عليها وتنقلها إلى القرون المقبلة . كل ما تطلبه منكم أن تخففوا قليلا من عقدة الوعظ والزجر ومن شهوة البطش والقهر، فالأجيال الجديدة فيها غريزة البقاء الحضارى، وتعرف واجبها فى المحافظة على حضارة الإنسان والتقدم بأسلوب حياتها لا بأسلوب حياتنا نحن. فلنترك للشباب حريته فى اختيار الشكل الخارجى والداخلى لحياته كما يفرضها عليه زمنه الجديد، ولا نطالبه إلا بشىء واحد هو الإحاطة المتعمقة بحصيلة هذه الحضارة التى أوجدته ورضع من لبنها، ليحافظ وينمى ويضيف إلى خير ما فيها، ويطرح ويغير ويمحو ما فيها من شر وزيف لأن مستقبل هذه الحضارة فى يده هو وحده وصورتها غدا سوف تكون كما يتصورها هو ويصورها، فلتكن إذن للشباب ثورة ولكن يجب دائما أن يُفرق بين "الهوجة" و"الثورة ".