يحدد توفيق الحكيم في كتابه "ثورة الشباب" الصادر عام 1975، الفرق الدقيق بين "الثورة" و"الهوجة" عندما يؤكد "أن "الهوجة" تقتلع الصالح والطالح معا.. كالرياح الهوج تطيح بالأخضر واليابس معا، وبالشجرة المثمرة والشجرة الصفراء جميعا. أما "الثورة" فهي تبقي النافع وتستمد منه القوة.. بل وتصدر عنه أحيانا، وتقضي فقط علي البالي المتهافت، المعوق للحيوية، المغلق لنوافذ الهواء المتجدد، الواقف في طريق التجديد والتطور". كلام "الحكيم" خطير ومهم، ويجب أن نتدارسه لنستفيد منه في حالتنا الراهنة التي تقتضي البحث عن خلفية فكرية وبرنامج علمي لتعمير مصر، والخروج من حالة "التوهان" إلي حالة "الاستقرار" وبناء الوطن علي أسس متينة وقواعد راسخة، ولن يكون ذلك إلا باستعادة الأمن في المقام الأول، حتي يشعر كل مواطن أنه آمن علي نفسه وأبنائه وأمواله وينام قرير العين بعد يوم عمل يدرك أنه سيضيف إلي رصيد بلده، ثم يكون الاهتمام بقضايا يأتي علي رأسها بناء اقتصاد قوي لا يدع فرصة للاحتكار، وإنما يقوم علي المنافسة الشريفة لصالح الوطن، بدلا من تحويله إلي "بقرة حلوب" تصب في أوعية أقوام ولا تصل إلي آخرين، ومن القضايا الملحة إصلاح التعليم من جذوره، والتخلص من الفوضي التي أصابته بتقسيمه إلي تعليم حكومي "للفقراء" وتعليم خاص "للأثرياء"، والهم الأساسي في الحالتين منح شهادة دراسية في نهاية كل عام دراسي وكل مرحلة دراسية، دون مراعاة للبحث عن النوابغ والمبدعين وعلماء المستقبل، أو علي الأقل بناء الإنسان القادر علي أن يكون عنصرا ذا أهمية في مجتمعه. ويجب أن يقوم برنامج الثورة علي إحلال "النافع" محل "البالي المتهافت" كما أشار توفيق الحكيم، وأن نقوي دعائم الوطن بالأفكار الجيدة التي تجعلنا نسرع الخطي إلي المستقبل لتعويض ما فات وما أهدره اللصوص، وأن نستغل طاقة "الشباب" في استعادة "شباب" الوطن وإزالة الأتربة والغبار عن وجهه الحضاري، وأن نعمل بأسرع ما نستطيع علي نضج الثورة، بأن نتحول إلي مرحلة الإنتاج واستغلال كل ما أمكن استغلاله من كنوز مصر فوق الأرض وتحت الأرض وفي باطن البحر، وأن يسير هذا علي قدم المساواة مع إعلاء "دولة القانون" القائمة علي العدل والحق، حتي لا تتحول "الثورة" إلي "هوجة" مؤقتة لا فائدة منها، وأن ننتبه إلي الفرق الجوهري بينهما، حتي نخرج بسفينة الوطن إلي شاطئ الأمان، وإذا أردنا النصيحة وجدناها في مضمون كلام "الحكيم" في الكتاب نفسه، عندما يقول: "فالثورة والهوجة تختلطان أحيانا، إن لم يكن في كل الأحيان. فالثورة كي تؤكد ذاتها وتثبت أقدامها تلجأ إلي عنف الهوجة لاقتلاع كل ما كان قبلها.. وتجعل بداية كل خير هو بدايتها، وتاريخ كل شيء هو تاريخها"، ثم يضيف: "ولا يتغير هذا الحال إلا عندما تشعر الثورة بصلابة عودها وتوقن أنه قد أصبح لها وجه واضح وشخصية متميزة ومكان راسخ في التاريخ العام.. عندئذ تنبذ عنها عنصر الهوجة وتأنف منه، وتعود باطمئنان إلي تاريخ الأمة العام لتضع كل قيمة في مكانها الصحيح، وتضع نفسها في الحجم المعقول، داخل إطار التسلسل الطبيعي لتطور أمة ناهضة". نحتاج إلي أن نضع كلام "الحكيم" نصب أعيننا ليكون الدليل إلي إنقاذ "الثورة" من أن تكون "هوجة"، لأن الثورة العظيمة التي أنجزها الشباب لا تستحق أن تقتصر علي وقفات وتظاهرات تنتهي كل يوم جمعة، ولا نخرج بشيء جديد سوي عناوين في الصحف حول حجم المظاهرة في ميدان التحرير. الشيء الذي نحتاج إليه هو وضع برنامج واضح للثورة نستخلصه من مجموعة كبيرة من الأفكار المطروحة في الصحف وعلي صفحات الإنترنت وفي بطون الكتب، وأن ننتقي منها أهم المشروعات التي ترتقي بالوطن، وأن نستفيد من العقول المفكرة التي تحول الأفكار إلي منهج علمي قابل للتطبيق، عسي أن نكون إحدي الأمم التي ينظر إليها العالم بإعجاب لا ينطفئ. [email protected]