أحمد يوسف من المؤكد أنك لو سمعتنى أقول لك إن السينما تستطيع أن تناقش قضايا فلسفية جادة، فسوف تتخيل على الفور أفلاما غامضة، متجهمة، تستخدم عبارات من ذلك النوع الذى يستعصى على الفهم، وينفى عن السينما كونها فنا لابد أن يهدف أولا للمتعة والترفيه. لكن الحقيقة أن هناك بالفعل أفلاما ذات أبعاد فلسفية، ربما احتاجت من المتلقى لبعض التفكير لإدراك ما خفى تحت السطح، لكنها أيضا أفلام ممتعة، وذات لمسة كوميدية ورومانسية رقيقة، ومن بين هذه الأفلام، الفيلم الذى يحمل اسم»أغرب من الخيال». ربما بعد أن تنتهى من مشاهدة الفيلم سوف تفكر أيضا أن العنوان بالإنجليزية قد يعنى بطرف خفى "أغرب من الرواية"، ذلك لأن "التيمة" الرئيسية فيها تقوم على الصراع بين كاتبة روايات، تقتل كل أبطال رواياتها، وبطل إحدى هذه الروايات، الذى لا يريد أن يموت. ولعلك أيضا سوف تلمس الجانب الفلسفى من تلك الفكرة ذاتها: فإذا كنا أبطالا لروايات تكتبها قوة عليا ما، فهل نملك اختيار مصائرنا؟ أم أن كل شىء "مكتوب" ولا حيلة لنا أو اختيار؟ لا تبدأ الحكاية فى الفيلم بمجرد أن نرى البطل هارولد كريك (ويل فيريل، الممثل الكوميدى الذى يأخذ هنا دوره بجدية تامة) وهو يمارس طقوس حياته اليومية بالمسطرة والقلم، وتتم ترجمة ذلك على الشاشة بظهور أرقام ومقاييس تُظهر دقة هذه التصرفات، طبقا لصوت امرأة يأتى واصفا إياه من خارج الكادر، لكن الحكاية الحقيقية تبدأ عندما "يسمع" هارولد ذلك الصوت، يردد ما يفعله، فكأن هارولد يصل فى لحظة من لحظات حياته إلى مرحلة "الوعى بذاته"، وتلك هى اللحظة التى بدأت بها بالفعل مسيرة البشر على الأرض، والإحساس بأنه من الممكن للإنسان أن يختار مصيره بنفسه. لكن هذا الوعى كما يحدث دائما لنا جميعا يسبب أيضا نوعا من الشقاء (الذى لا غنى عنه لامتلاك المصير)، فهارولد يشعر أنه مطارد من صوت ما، ونحن دائما نطلق على أمثاله أنهم مصابون بمرض نفسى، هو فى الغالب "انقسام الشخصية" أو "السكيزوفرينيا"، كما أن "مرضه" يزداد سوءا عندما يقابل امرأة شابة هى على النقيض منه تماما، فهو موظف فى إدارة مكافحة التهرب من الضرائب فى أمريكا (وهذه الشخصية تحمل دائما فى الأعمال الفنية ظلالا ثقيلة كالموت بالنسبة للمواطن الأمريكى)، وقد ترك هذا العمل عليه مسحة جفاف وجفاء قاتمة، أما الشابة فهى أنا باسكال (ماجى جلينهال، فى دور لن تنساه لها أبدا)، صاحبة المخبز، المفعمة بالحيوية والحسية والبساطة وحب الحياة، بل إن لها موقفا سياسيا ضد ممارسات حكومة بلدها، مما يدفعها إلى أن تسخر من إدارة الضرائب بالتهرب منها. كان هذا اللقاء هو السبب الثانى لوعى هارولد بحياته، لكن السبب الأول ما يزال يطارده، ذلك الصوت المجهول لمن تصف ما يفعل. لكننا سرعان ما سوف نعلم (دون أن يعلم هو) أنه صوت الكاتبة الروائية كارين آيفيل (إيما طومسون، بلهجتها الإنجليزية التى تضفى على شخصيتها سمة تجعلها أكثر تفوقا وامتلاكا للموقف)، لكن براعة الفيلم أيضا تأتى من إظهارها فى ثوب من تعانى من أزمة تعوقها عن استكمال الرواية، وتراها دائما فى حالة عصابية وهى تحاول أن تتخيل طريقة مبتكرة لموت بطل روايتها هارولد. وعندما يسمعها هارولد بداخله وهى تخطط لموته، يظل يهذى ثائرا كالمجنون، فهو لا يريد أن يموت، ويهتدى أخيرا لأستاذ فى الأدب هو البروفيسور هيلبيرت (داستين هوفمان، الذى يدهشك مثل أبناء جيله الآخرين لاحتفاظهم بتلقائية التمثيل وتنوع الأدوار، حتى بعد أن بلغوا هذه المرحلة من العمر)، وبعد بحث مستفيض يصل البروفيسور إلى أن كاتبة رواية هارولد مغرمة بموت أبطالها فى النهاية، وأن عليه أن يمتثل لذلك، لأننا جميعا سوف نموت، ولا يبقى له إلا أن يعيش ما تبقى من حياته كما كان يحلم، وليس كما أراد الآخرون له. سوف أقاوم إغراء استكمال قصة الفيلم لك، لأننى أرجو أن تستمتع بأن ترى بنفسك ذلك السباق بين قيام الكاتبة بنسخ الكلمات على الورق، ومحاولة هارولد إيقافها، ناهيك عن إمكانية تطور علاقته مع صاحبة المخبز الشابة «آنّا»، وهل يمكن لتلك العلاقة أن تجعل من حياته "كوميديا" أم "تراجيديا"؟ وهل يقبل هارولد بمصيره المحتوم، أم أن هناك طريقا للخلاص؟ لكن ما أود الإشارة إليه الآن هو أن فيلما ممتعا بحق مثل "أغرب من الخيال" استطاع أن يلمس هذه النقاط الفلسفية، من خلال تعدد مستويات السرد، فأنت أحيانا أمام حياة هارولد كما ترويها الكاتبة، وأحيانا أخرى أمامه وهو يرفض استكمال هذه الرواية. ولعل ذلك يذكرك على نحو ما بالمؤلف المسرحى والقصصى (ومدرس الفلسفة أيضا) الإيطالى لويجى بيرانديللو، الذى كتب العديد من المسرحيات عن اختيار الشخصيات الفنية لمصائرها، مثل "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، كذلك مسرحية الكاتب والشاعر اليونانى العظيم «نيكوس كازانتزاكيس» "عطيل يعود"، التى تصور تداخل عالم تمثيل الشخصية بمصير الممثل نفسه. كما شهدت السينما فيلما قبل "أغرب من الخيال" بفترة قصيرة، هو "استعراض ترومان"، الذى يكتشف فيه البطل ترومان (جيم كارى، فى دور جاد أيضا) أنه ليس إلا بطلا لعرض تليفزيونى على الهواء، مستمر على مدار النهار والليل، يديره مخرج يسيطر على كل شىء (إيد هاريس). ففى هذين الفيلمين بطل يُتهم بأنه مجنون، لأنه وقف على حافة الوجود متأملا ومتمردا، لكنه البطل الذى يجعلك فى الفيلمين تتساءل: ما القدر؟ وما مساحة الاختيار فيه؟ من يكتبنا أو يدير استعراضنا؟ وهل يمكن أن يجعله تمردنا يحبنا أكثر؟ فى مسرحية أخرى لكازانتزاكيس هى "كريستوفر كولمبس"، يتعذب البطل كولمبس لأنه يرى وحده القارة المجهولة التى ينكر وجودها غيره، وقد اختار أن يمضى فى رحلته الشاقة إلى النهاية، وعندما يتوجه البعض بالدعاء إلى الله راجين أن يشفق عليه من صعوبة اختيار المصير، تكون الإجابة:"لماذا أشفق عليه؟؟ إننى أحبه".