د. ياسر ثابت هذا الكتاب مهم لسببين رئيسين، أولهما أنه يتحدث عن الوضع في مصر خلال فترة حاسمة من تاريخها، خصوصاً تلك التي سبقت تنحي الرئيس حسني مبارك، عن الحكم نتيجة ثورة 25 يناير، وثانيهما أنه يقدم شهادة بالغة الأهمية على لسان امرأة كانت سيدة أولى، ثم أصبحت عضوًا في مجلس الشيوخ عن نيويورك إحدى أهم الولاياتالأمريكية، ثم كادت أن تصبح أول رئيسة في تاريخ الولاياتالمتحدة، قبل أن تشغل في نهاية المطاف ولمدة أربع سنوات منصب وزيرة الخارجية في إدارة باراك أوباما الأولى. عن هيلاري كلينتون نتحدث، وعن مصر نتكلم. أما المناسبة، فهي كتاب كلينتون الذي صدر قبل أيام، وحمل عنوانًا لافتًا هو «خيارات صعبة». أهمية هذا الكتاب بصفحاته ال688، والصادر عن دار «سيمون آند شوستر»، تكمن في تقديرنا أنها تقدم رصدًا دقيقًا من جانبها لمواقفها من ثورة 25 يناير، وما بعدها، علمًا بأنها كانت - ربما حتى اليوم الأخير قبل سقوط مبارك- تتحدث بإيجابية عن نظام مبارك، وحاولت أن تقول إننا ندعم هذا النظام وأن هذا النظام حليف ثابت وقوي للولايات المتحدة، ولكن سرعان ما أدت مواقف أوباما الأكثر تشددًا إزاء مبارك، إضافة إلى إصرار جموع المصريين على الإطاحة بمبارك وبدء فترة جديدة إلى دفع كلينتون باتجاه تأييد التغيير السياسي في مصر. بحكم منصبها، عاصرت كلينتون التغييرات المتلاحقة ومن ثم صناعة القرار الأمريكي كرد فعل. في حالة مصر. وكما هو واضح، فإن هيلاري، وكما تم التأكيد عليه أيضًا في هذا الكتاب، كانت مترددة ومتحفظة بشأن الإطاحة بالرئيس حسني مبارك في فبراير 2011. وكانت ترى أنه لا داعي للاندفاع من جانب الرئيس باراك أوباما، استجابة لنصيحة فريق العمل معه من الشباب نسبيًا. يصف الكتاب الجديد أجواء تلك اللحظات الحاسمة في الأيام العشرة الأخيرة من حكم مبارك، بالقول: «الذهاب إلى ما بعد مبارك كان يعني الدخول في المجهول. كل الناس يعرفون مبارك. ولا أحد يعرف ما قد يأتي بعد مبارك. وعندما لا تعرف، ماذا سيأتي فيما بعد. فمن الصعب أن تطالب أي شخص بأن يذهب». عبارات قالها أحد مساعدي أوباما كان موجودًا في غرفة صناعة القرار. وذكر أيضًا «أما وجهة نظر الرئيس فكانت، إذا لم نطلب منه أن يذهب، هل سيكون في إمكانه البقاء في السلطة.. على أساس «أنه كان قد فقد سيطرته على البلد. وأن ما يحاول أن يفعله لكي يبقى في السلطة لن يجدي، وبالتالي نحن في حاجة إلى أن نصل إلى ذاك الواقع بسرعة». ويذكر الكتاب أن هيلاري في هذا الموقف كانت تعكس حذرها، وأيضًا إدراكها لخصوصية كل حالة، وأن التحمس أو التهليل بالديمقراطية فقط لا يكفي. والأمر الأهم حسب ما يشير إليه الكتاب أن هيلاري كانت تعرف مبارك جيدًا وكانت تعرف بعض الشخصيات المعارضة وتعرف قيادات في الجيش، وكانت قلقة تجاه ما قد تصل إليه الأمور. وكان يقلقها «تبديل ديكتاتور معتدل ليحل محله رئيس إخواني منتخب ديمقراطيًا ولم يتم اختباره». وكان يوجد عامل شخصي أيضًا في حذرها وتحفظها وهو أن ثنائي كلينتون (بيل الرئيس الأسبق وزوجته هيلاري) كانت لهما علاقة مع ثنائي مبارك (الرئيس حسني وزوجته سوزان) ترجع إلى أبريل 1993، عندما استقبل بيل الرئيس المصري في البيت الأبيض. وحسب الكتاب فإن هيلاري قالت في مارس 2009: «أنا بالفعل أعتبر الرئيس وزوجته صديقين لعائلتي». تحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، في كتابها الجديد «خيارات صعبة»، عن الانقسام الذي وقع داخل الإدارة الأمريكية خلال ثورة يناير 2011، التي أطاحت مبارك، الحليف الأقدم والأقوى للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. تسعى كلينتون إلى النأي عن تعامل إدارة الرئيس باراك أوباما مع أحداث «الربيع العربي»، قائلة إنها دفعت باتجاه بدء مبارك في عملية انتقال «منظم» للسلطة، يكون فيه دور ما لمدير المخابرات عمر سليمان، لكن أوباما لحقها بدعوته العلنية للرئيس المصري بالرحيل فورًا عن السلطة. ووصفت الوزيرة السابقة نفسها ضمن الحرس القديم الذين كانوا حذرين حيال الرحيل الفوري لمبارك، ومن بينهم جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، ومستشار الأمن القومي توم دونيلون، ووزير الدفاع روبرت جيتس، الذين كانوا على خلاف مع جيل الشباب من مساعدي البيت الأبيض. ولعل ما أوردته كلينتون يتفق مع ما أورده وزير الدفاع الأمريكي في فترة أوباما الأولى، روبرت جيتس. بشأن ارتباك أمريكي لدرجة الانقسام بشأن أسلوب التعامل مع الثورة في مصر؛ إذ يروي جيتس في مذكراته، تفاصيل حالة الانقسام داخل الإدارة الأمريكية حول ثورة 25 يناير، ويؤكد أنه كان من الرافضين للتخلي عن الحليف الإستراتيجي حسني مبارك، ومعه في هذا الموقف وزيرة الخارجية آنذاك، هيلاري كلينتون، ونائب الرئيس جوزيف بايدن. وتوضح كلينتون أنها كانت قلقة بشأن شركاء الولاياتالمتحدة في المنطقة مثل مصر وإسرائيل والأردن، وتخشى من مغادرة الشرق الأوسط وسط مستقبل خطير حيال تلك الدول، وتشير إلى أن العلاقات الأمريكية القوية مع الرئيس الأسبق حسني مبارك كانت تهدف إلى عزل إيران، والحفاظ على الطريق التجاري مفتوحًا في قناة السويس، وحماية إسرائيل من الإرهاب، حيث إن تنظيم القاعدة كان يخطط لشن هجمات جديدة. في كتابها، تسلط كلينتون الضوء على خلافاتها السياسية مع أوباما، والتي قد يكون أحد أسبابها نيتها الترشح في الانتخابات الرئاسية 2016، كما أن مصر هي أحد الأمثلة للخلاف بين الطرفين، منذ تنحي مبارك ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم والاحتجاجات العنيفة التي ملأت الشوارع على مدى السنوات الثلاث الماضية، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة والانتقادات الدولية الخاصة بها. وتقول كلينتون إنها نصحت أوباما بالتزام الحذر، لكنه كان غير مرتاح لمستوى العنف في الشارع المصري، وأعرب بعض مستشاريه عن استيائهم عندما تحدثت وزيرة الخارجية السابقة عن الحاجة إلى «انتقال منظم» للسلطة، بدلاً من الرحيل فورًا. وتذكر أنه عندما عرض مبارك، مدفوعًا من فرانك ويزنر الوسيط والدبلوماسي السابق الذي أوفدته كلينتون للقاهرة، بعض التنازلات للمحتجين، فإن أوباما قال لمستشاريه: «هذا لن يوقف الاحتجاجات». وفي حقيقة الأمر، فإن ويزنر، المتعاطف مع مبارك بحكم علاقة الصداقة بينهما، هو الذي حثه على تقديم تنازلات للمتظاهرين، وحاول دفعه إلى قبول فكرة تدريجي للسلطة. وعندما حضر ويزنر مؤتمر الأمن في أوروبا، وتحدث عن أن مبارك يمكن أن يلعب دورًا إيجابيًا في مستقبل مصر، أبدى أوباما اعتراضه بأن تحدث مع كلينتون وأعرب عن عدم رضاه عن هذه الرسائل التي تدعو إلى الارتباك. سطور كتاب هيلاري كلينتون، تبدو في مرحلة ما متناقضةً مع تصريحات أخرى لها. ففي خضم الانتفاضات والثورات العربية، ألقت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة خطابًا حول «الربيع العربي» أمام «المعهد الوطني الديمقراطي»، في واشنطن، في نوفمبر من العام 2011. تهمنا منه عبارة مهمة مرتبطة بموضوعنا، تكشف مدى فهم الأنظمة العربية التقليدية أهمية جدليتيّ الد كتاتورية والاستقرار في الوعي العربي، ومراهنتها على هذه الجدلية عقودًا طويلة. حينها قالت كلينتون: «نقطة البدء أننا نرفض الخيار الموهوم بين التقدم والاستقرار. لسنوات طويلة، قال الديكتاتوريون لشعوبهم إن عليهم أن يقبلوا بالمستبدين الذين يعرفونهم، لتجنب المتطرفين الذين يخشونهم. وكثيراً ما قبلنا نحن أيضا تلك الرواية.. واليوم، نعلم أن الخيار الحقيقي هو ما بين الإصلاح والفوضى». وذهبت كلينتون إلى أبعد من ذلك، لتؤكد أن «أكبر مصدر لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط اليوم لا يتمثل في المطالبة بالتغيير، بل في رفضه». وفي تقدير البعض، أن كلينتون كانت شريكًا للرئيس أوباما في تذبذب الموقف الأمريكي خلال هذه الفترة الصعبة في الملف المصري وملف الحراك العربي ككل، فقد قررا منذ البداية أن هذا الحراك ربما سيضر بمصالح الولاياتالمتحدة، ومن هنا كان التردد الذي شاهدناه في مرحلة البدايات. هكذا شاهدنا هذه الإدارة ومنها طبعًا وزيرة الخارجية تتخذ مواقف وسياسات تدخل في نطاق رد الفعل، أو إدارة الأزمة للحفاظ على مصالح الولاياتالمتحدة لا أكثر ولا أقل. وإذا كان الكتاب قد أسهب في ذكر تفاصيل مواقف هيلاري وقلقها وتحفظها في الأيام العشرة الأخيرة من رئاسة مبارك، فإنه لا يتطرق إلى مرحلة مصر ما بعد مبارك وقدوم الإخوان المسلمين وسيطرتهم على الحياة السياسية في مصر، ولا لكيفية تعاملها وتعامل الإدارة الأمريكية مع كل ما حدث في مصر. وليس خافيًا أن هيلاري كلينتون على الأقل بعد ثورة 25 يناير كان لها وزن وثقل في عملية التعامل مع الإخوان المسلمين؛ إذ بدت ميالة إلى التعامل مع هذه القوى الصاعدة إلى السلطة بدعوى أن جماعة الإخوان ذات مواقف عملية، وأنها تنظر إلى المستقبل وستلتزم بالاتفاقيات الكاملة بين إسرائيل ومصر على سبيل المثال. في الكتاب سنقرأ على لسان كلينتون إن «تدخلها الدبلوماسي (عقب سقوط نظام مبارك) كان الشيء الوحيد الذي يحول دون وقوع مواجهة متفجرة» في مصر. وسنطالع كيف أنها حذرت قادة الشرق الأوسط قبل «الربيع العربي» من أنهم «في حال عدم تبنيهم مطالب الإصلاح فإن منطقتهم ستغرق في الرمال». وعقب إزاحة مبارك عن الحُكم، تقول إنها «خرجت وكلها قلق من أن ينتهي الأمر بتسليم البلد تلقائيًا إلى الإخوان المسلمين أو الجيش، وهو الأمر الذي حدث بالضبط. وتؤكد أن قادة العالم وافقوا على تقويمها للوضع في مصر والمنطقة، وبدأوا في استخدام لغتها بشأنها. خلال مرحلة ما بعد مبارك، صرحت هيلاري كلينتون في حوار تليفزيوني قائلة: «لديّ الكثير من التعاطف مع ما حدث في مصر، لكن أيضًا لدي إحساس بالواقعية لما يتطلبه الأمر من أجل المضي قدمًا، حتى الآن فإن ما أعلنه المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتماشى مع ما وعد به ومع رغبات الشعب المصري ومطالبه، لكن يجب أن ندرك أن عملية الانتقال تتطلب الكثير إعادة صياغة الدستور ووضع قوانين جديدة والمساعدة في تشكيل الأحزاب السياسية، اللائحة طويلة ويجب على الجميع أن يركز على المهمة التي بين يديه هذا سيتطلب الكثير من الجهد من قبل الجميع». وردًا على من يقولون إنها حاولت أن تمسك العصا من الوسط بين الرئيس مبارك والمتظاهرين في السابق، ثم حاولت أن تمسك لاحقًا العصا لكن بين الجيش والمتظاهرين هذه المرة، قالت هيلاري كلينتون في 14 فبراير 2011: «عليّ أن أعترض على هذا التوصيف، فلقد كنا ثابتين وواضحين ضد العنف، هذا ما أوصلناه مرات عدة إلى الحكومة المصرية على جميع المستويات وبخاصة الجيش. وقفنا إلى جانب الحقوق الإنسانية للشعب المصري، وطالما دفعنا الحكومة إلى سن إصلاحات بهذا الاتجاه، ووقفنا أيضًا إلى جانب التغيير السياسي، لكن أعتقد أنه من غير الملائم بالنسبة لنا أن نقوم بأكثر مما كنا نقوله على الدوام وهو أن قوانين الطوارئ بحاجة إلى أن تُرفع، لكن الآن ما نشهده عملية يسيرها المصريون، فحقبة مبارك ولت وهناك جهد بدأ يتشكل للتو، وأعتقد أنه من الأهمية بمكان أن تظهر الولاياتالمتحدة كجهة تساند الديمقراطية، وهذا هو موقفنا الآن، نحن نؤيد الديمقراطية ونريد أن نراها تتحقق بأسرع وقت، لكن نحن نعي أيضًا بأن هناك حركات تغيير كثيرة كان يمكن اختطافها من قبل قوى خارجية وداخلية من دون أن تلبي الوعود التي قطعت وما يلبي طموح الشعب المصري، فهدفنا التركيز على النتيجة وهي الوصول إلى ديمقراطية تلبي احتياجات المصريين وتمنح مصر فرصة لتكون مثلاً يُحتذى في منطقة تحتاج لذلك». الرئيس المعزول محمد مرسي لا يأتي ذكره إلا في إطار ما حدث من أزمة غزة واحتمال حدوث مواجهة بين حماس وإسرائيل في خريف 2012. ومن ثم كانت زيارة هيلاري كلينتون الشهيرة لمصر ولقاؤها مع مرسي والإعلان عن اتفاق لوقف إطلاق النار من القاهرة. يسرد الكتاب ما حدث في بداية الأزمة، وكيف أنه في تلك الليلة انسحب أوباما من حفل عشاء كان يحضره في بنوم بنه عاصمة كمبوديا ليتصل بالرئيس محمد مرسي ليطالبه بالتدخل لدى قيادات حماس، وأنه قال له «يمكن أن تتصل بي مهما كان الوقت متأخرًا إذا أعتقدت بأن لديك معلومات تريد أن تبلغها لي». وحسب الكتاب، فإن مرسي اتصل هاتفيًا بأوباما في الساعة الواحدة فجرًا، فأيقظ أحد مساعديه، وهو بن رودس، الرئيس الأمريكي ليتحدث مع مرسي. تكررت الاتصالات، ومعها أبلغ أوباما مرسي بأنه يعتزم إيفاد هيلاري كلينتون إلى الشرق الأوسط؛ لأنه يعتقد أنها تستطيع المساعدة في التوصل مع إسرائيل إلى وقف لإطلاق النار. إلا أنه قال أيضًا إنه يعتزم فعل ذلك فقط إذا تعهد مرسي بمقابلة هيلاري شخصيًا، وإنه لا يستطيع أن يوفد هيلاري دون أن يتم التعامل معها بالاهتمام اللائق. كانت مع هيلاري بنود مشروع اتفاق بين الجانبين وكانت تتحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من جانب، وتطلب من مرسي ومعه مستشاره عصام الحداد ووزير الخارجية محمد كامل عمرو التفاوض مع قيادات حماس؛ لأن الولاياتالمتحدة لم تكن تتفاوض بشكل مباشر مع حماس باعتبارها منظمة إرهابية، حسب واشنطن. يسرد الكتاب مسار الأحداث، لكنه يتفادى الحديث عن تفاصيل الصفقة وما تم من خلالها من تقارب بين مرسي من جهة وأوباما وهيلاري من جهة أخرى. وطالما نذكر أزمة غزة يجب الإشارة بأنه خلال الأزمة قالت هيلاري كلينتون لأعضاء فريقها»علينا أن نقوم بدعم إسرائيل مئة وعشرة في المئة». هذا كان حينئذ، غير أن الوضع تغير لاحقًا. فالسياسة الأمريكية عادت عمليًا إلى تبني منطق أن الإصلاح في المنطقة العربية يأتي بالفوضى، فلم تعد تطالب بالتغيير والإصلاح. وفي مرحلة من المراحل، كان رهانها واضحًا على صعود قوى إسلامية إلى الحُكم، كما جرى في مصر، في ظل تعاون وثيق مع تلك القوى بما يضمن المصالح الأمريكية والإسرائيلية على حدٍ سواء.