حوار – محمد عيسى من أربعينيات القرن الماضى إلى الألفية الجديدة يدور تاريخ "بعد القهوة".. ومن أعماق الريف المصرى إلى عواصم أوروبا تسافر أحداث الرواية، التى يتناول فيها مؤلفها، عبد الرشيد محمودى، النسيج الاجتماعى والطبيعة الطبوغرافية والملامح الأنثروبولوجية للقرية المصرية فى الأربعينيات من القرن الماضى. وبأسلوب المزج بين الفصحى والحوار البسيط واللهجة الريفية، يسرد الكاتب الأحداث، بأسلوب المغامر على حد تعبيره – وتتجلى مهارة السرد، فى سلاسة الانتقال ودقة تجسيد الشخصيات والوصف الدقيق للعالم الروائى. "بعد القهوة" الرواية التى فازت بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب، من بين 344 عملاً روائياً آخر.. وهناك فى العاصمة الإماراتية أبوظبى وعلى هامش حفل تكريم الفائزين بالجائزة، التقت "الأهرام العربى" صاحب الجائزة ودار معه الحوار التالى: بداية، لماذا اخترت اسم "بعد القهوة" ليكون عنوانًا لروايتك الفائزة؟ فى الحقيقة عنوان الراوية مفتوح على آفاق متعددة، وفى الراوية يأتى توظيف الاسم واضحًا فى المشهد الأخير، وهو وقت تجلى الحقيقة، حيث لحظة المواجهة بين بطل الراوية "مدحت"، وبين الفتاة التى تحاول أن تغويه، وهى لحظة حاسمة يتقرر فيها مصير البطل.. هل يُغلّب شهواته، أم يُغلّب رغبته بأن يكون ولأول مرة وفيًا ونقيًا، ويتعلق بالمثل العليا؟.. وكان ذلك المشهد بعد إعداده القهوة وتقديمها للفتاة. ما نوع الإغواء الذى كان يتعرض له بطل الراوية؟ هناك فى فيينا، حيث إنه أثناء زيارته الأخيرة للعاصمة النمساوية، تظهر فتاة وتختفى ثلاث مرات فى فترة زمنية قصيرة، وفى المرة الثالثة يلتقيها مع أختها وأبيها ويفتن بالأختين معًا، فيقع فى حب الصغرى التى تدعوه إلى العشاء مع الأسرة، ثم تختفتى كعادتها، ويشتهى الكبرى لأنها كانت مغرية وتدعوه.. فكيف يخرج من هذا المأزق أو هذه المحنة؟ من أين تبدأ وتنتهى أحداث "بعد القهوة"؟ تدور أحداث الجزء الأول فى قرية "القواسمة" التابعة لمركز أبوكبير بمحافظة الشرقية، أما الجزء الثانى، فتدور أحداثه فى مدينتى الإسماعيلية والقاهرة، فيما تدور أحداث الجزء الثالث فى العاصمة النمساوية فيينا. ويربط بين هذه الأماكن المسيرة الطويلة التى يقطعها بطل الرواية من طفولته بقرية القواسمة، ثم صباه بالإسماعيلية والقاهرة، حتى سفره إلى فيينا وإقامته بها مرتين، الأولى بعد التحاقه بالسلك الدبلوماسى، والمرة الثانية بعد عقدين من الزمان. ألم يجعل هذا التنقل بين الأماكن روايتك أشبه بروايات "ليالى الأنس"؟ بالفعل، واخترت فى البداية عنوان "ليالى الأنس" ليكون عنوانًا لها بدلا من "بعد القهوة"، وكنت أفضله عنوانًا، برغم اختلاف الأنس، لكنى اكتشفت أن هناك رواية عراقية تحمل هذا الاسم، ولهذا السبب غيرت اسم الراوية ل"بعد القهوة". فى الراوية تتداخل العامية مع الفصحى فى سرد الأحداث، وهو أسلوب صعب على القارئ أو المتلقى.. لماذا لجأت إلى هذا الأسلوب؟ أسلوب العامية الموجود فى الراوية، هو لهجة أهل "القواسمة"، وأردت فى الرواية أن أنقل الأحداث الخاصة بهم بلهجتهم حتى أصل إلى أقصى درجات الخصوصية لديهم، وكنت أعرف أن القارئ سيواجه صعوبة.. وفى الحقيقة كنت أترفع عن الكتابة بالعامية.. ولكنى قلت لنفسى: إذا كان الطيب الصالح يكتب الحوار باللهجة السودانية العامية، برغم عدم قدرة الكثيرين على فهمها.. فلماذا نحن المصريون نستصعب أن نكتب بالعامية؟ ومن هنا قررت أن أمارس حقى وحريتى فى "بعد القهوة" وأدخل لهجة وعامية أهل القواسمة فى الرواية، وهو إدخال له مبرراته، حيث رأيت أن أنزل إلى مستواهم فى الخطاب، دون ترفع وأعبر عما يشعرون به ويعيشونه بلغتهم وأضعه أمام القارئ كما ينطقون به. ألم يكن ذلك مغامرة منك؟ بالفعل، مغامرة متعددة الجوانب، ولكنى قررت أن أخوضها بكل صعوباتها.. ولم أتوقع لها النجاح، وبرغم ذلك حصلت الراوية على الجائزة، وهو ما يشير إلى أننا كنت أسير على الدرب الصحيح فى تناول الأحداث من العامية المطلقة إلى العربية الفصحى، ويجعلنى أفكر فى تكرار التجربة بنفس الأسلوب فى روايات أخرى. حضور المرأة اليونانية فى الروايات الإسكندرانية أمر مقبول.. لكن حضورها فى روايتك لتربى طفل القواسمة اليتيم بطل الراوية "مدحت" فى محافظة الشرقية أمر بعيد بعض الشىء؟ لا، وجودها مقبولا ومنطقيًا أيضًا، لأن هناك شخصيات يونانية كثيرة تسللت إلى الريف المصرى، واليونانيون كانوا موجودين فى كل أنحاء القطر المصرى، وكانوا أقرب الأجانب إلى المصريين، وفى مركز أبوكبير حيث القواسمة كان يوجد يونانيون، وكانوا أكثر اندماجًا من غيرهم مع أهل المكان، برغم تجارتهم فى الخمور، كما كانوا أكثر التحامًا من الطليان والفرنسيين والإنجليز بالشعب المصرى. والأهم من كل ذلك فى نظرى أن يكون وجود هذه الشخصية له فاعلية وينجح فى سياق الراوية. وكيف كان وجودها متسقًا؟ كانت المرأة اليونانية واسمها "ماريكا" تعيش فى قرية "أولاد قاسم" وأخذت مدحت اليتيم إلى الإسماعيلية، وعلمته اليونانية والفرنسية، وبفضلها سلك طريقه إلى المدرسة، ومن خلالها تعرف على أوروبا لأول مرة من خلال ما كان يسمى وقتها ب"حى الإفرنج" فى الإسماعيلية، ثم يسافر إلى أوروبا فى نهاية المطاف. هل أثر وجود هذه المرأة اليونانية على التكوين الثقافى لبطل الراوية "مدحت"؟ بالطبع، فهل الطفل المسلم، الذى نشأ يتيمًا فى قرية نائية، قرأ الإلياذة والعهدين القديم والجديد، وأرقته مسألة صلب المسيح، ورؤية حنا، هذا بخلاف تعلمه اللغات الأجنبية، وهذا التكوين لم يكن موجودًا لولا وجود هذه المرأة اليونانية فى حياته، حيث جعلته بعيدًا وغريبًا عن البيئة التى نشأ فيها، حيث إنه برغم قراءته واطلاعه الواسع لم يلتفت إلى أى من الأعمال الإبداعية المصرية طيلة غربته، إلا بعد أن عاد إلى بلدته فى نهاية المطاف. وكيف ترى بطل روايتك بعد هذه التربية الذى نشأ عليه على يد ماريكا؟ مدحت من البداية إلى النهاية إنسان مغترب أينما كان، لكنه يجد فى كل بلد مجالاً يتحرك فيه على غير هدى، وبلا هدف سوى أنه يعشق الأماكن، ويبحث عن الاستقرار فى كل مكان يعيش فيه، ولكنه يجد نفسه فى كل مرة مضطرا لسبب أو لآخر إلى الرحيل عن المكان. كما أنها شخصية مركبة تجمع بين الحسيّة الخالصة والفكرية المتعالية. لكنها شخصية فى نظر البعض يصعب تقبلها؟ ولماذا يجد البعض هذه الصعوبة فى تقبلها؟ إذا كان الواقع مليئا بالكثير منها، فما بالنا بوجودها فى عالم الرواية والقصص، الذى يعتمد على الخيال. والحقيقة أننى فى الرواية قررت ألا أحترم هذه النزعة (عدم تقبل البعض لشخصية البطل) وقررت أن أعبث بها وليكن ما يكون. لماذ أدخلت الإسلام السياسى فى الرواية.. وكيف استحضرته كجزء من بينة العمل؟ كان من الطبيعى أن يأتى ذكر جماعة الإخوان فى الرواية، لأن جزءًاً من حياة البطل تشكل فى الإسماعلية، حيث تشكلت جماعة الإخوان، وهناك شاهد بطل الرواية مدارس الإخوان والتحق بها لفترة قصيرة، وشاهد أيضًا بداية تطورها نحو التسليح والعنف. كما أن سالم الرجل (الذى كان يربى مدحت بطل الرواية فى القرية) كان تابعًا لحزب الوفد، الذى كان يمثل الفلاحين والعمال ويدافع عن حقوقهم، ولهذا نعرف سبب النزاع الذى كان يدور بين سالم وبطل الرواية.. وكل هذا يعكس ما كان يدور على أرض الواقع وقتها بين جماعة الإخوان وحزب الوفد. كيف ترى الراوية - التى لم تتوقع لها النجاح - بعد فوزها بالجائزة؟ أشعر بالسعادة كحال صاحب أى رواية يتم تتويجها، وأتمنى أن يكون إنتاجى الشعرى على نفس مستواى القصصى. وأخيرًا أحدث الأعمال التى ستصدر لك قريبًا؟ توجد روايات أخرى لى حبيسة الأدراج أتمنى أن تصدر، وهناك رواية يجرى طبعها الآن، ومجموعة قصصية جاهزة للنشر، ودراسة فلسفية قيد الإعداد.. والبقية تأتى لكنى أشعر دائمًا بالقلق مما سيأتى.