هل كان منطقيا أن تصبح صورته القاسم المشترك فى كل الميادين ، ومن كل الثائرين الذين قفزوا على كل من سبقه واختزلوا كل من بعده من رموز الوطنية فى هذه الصورة ! هل كان معقولا،وهو الذى رحل قبل أكثر من أربعة عقود أن يكون الحاضرالأهم فى مشهد من الغائبين، الى حد أن الرئيس "المخلوع "كان يتمسح به فى خطاباته بحثا عن "شرعية "، وأن يتناسى سلفه " المعزول "هو وجماعته عداوتهم التاريخية له، فيشيد به "علنا" بحثا عن "شعبيه ".. ربما ..لكن المؤكد أن اسمه كان، ولايزال ، أكثر الأسماء ترددا فى بيتنا وملايين البيوت المصرية والعربية بل والأفريقية،أذكر أننى حينما خطوت نحو الخامسة, كنت مع أطفال الدار نتحلق حول جدتى فى ليالي رمضان الصيفية الشهية, يقتات فيها خيالنا على أسطورته الخاصة حيث نستعيد حكاياته فى حرب فلسطين وطرد الانجليزوالسد العالى ، ويرافقنا طيف"الزعيم الخالد " بقامته المهيبة حين تأخذنا نحن الصغار حمى الانطلاق من قيود الدارالى رفاق المرح ، بينما كان اسمه فى المدرسة طقسا مقدسا نردده فى طابور الصباح , وأناشيد المحفوظات , وتدريبات حصة الموسيقا . ولايزال السؤال : ترى لماذا نكن له كل هذا الحب حتى بعد سنوات طويلة من رحيله , وتراجع مبادئه , وشعاراته على أيدى مروجى الخصخصة ،والرأسمالية المتوحشة حيث كل شيء يخضع للعرض والطلب , وقابل للبيع , باستثناءات قليلة جدا لأشياء وقيم وربما أشخاص لايزالون يستعصون على البيع ..،ولماذالا نحبه وهو الذى انحاز الى الأغلبية الكاسحة من فقراء وشرفاء ابناء وطنه ، والى رفعة وكرامة هذا الوطن ، وحتى حينما أخطأ فى بعض القرارات الديكتاتورية التى اتخذها من سقفه هو لامن سقف مصر ،وأخطرها اعلان الحرب على اسرائيل وفق حسابات خاطئة ،وكانت كارثة يونيو ، تراجع واعترف وتحمل المسئولية منفردا كما يفعل الرجال"دون أن يتمترس خلف دروع بشرية من آلاف الشباب المضلل، أو يقايض على دماء شعبه وسلامة وطنه من أجل كرسى زائل أو منصب رخيص",أخطأ حين فرط فى فرصة الديمقراطية،وكمم أفواه معارضيه بحجة حماية الثورة الوليدة من أعدائها ، وحين فرط فى شطر وادى النيل السودان الشقيق ،وكات خطأه الأكبر حين اعتمد فى حاشيته على "أهل الثقة "عوضا عن أهل "الخبرة "فدفعت مصر- ولاتزال- ثمنا فادحا لسيادة "دولةالمكافآت " لا دولة الكفاءات"..لكنها كلها اخطاء رئيس بشر ،يخطئ ويصيب ،هى نتاج الاجتهاد الخاطئ ،لاأخطاء الخيانة أو العمالة أو المتاجرة بمقدرات الوطن ،وأمنه ،ومصالحه العليا، وقد اجتهد حتى اللحظات الأخيرة قبل رحيله فى تصويبها ، ويكفيه شرف حمايته للفقراء وتكافؤ الفرص أمام المجتهدين من البسطاء ،ومشروعات النهضة الزراعية والصناعية العملاقة ،وحماية مصر من خطر الموت غرقا أو عطشا بالسد العالى ،وحفاظه على عمقها الافريقى ومحيطها العربى ،ومكانتها الاقليمية والدولية ، واستعادة قناة السويس ،ورفضه للمعونة الأمريكية المغموسة بطعم الذل والهيمنة،الى جانب شرف المقصد و طهارة اليد واسألوا "برج القاهرة "،فلو لم يكن جمال عبد الناصر قد قام بثورة يوليو قبل مولدى بعقد ونصف العقد , هل كنت و الملايين غيري من المصريين سيولودون أحرارا , غير خائفين من كرباج الباشا الشهير , مالك الأرض وما عليها ومن عليها، مرعوبين من ذل السخرة وظلال الفقر والجهل والمرض التى كانت قوانين عصر ما قبل ثورة يوليو . ترى لو لم تكن فى حياتنا ليلة مثل 23يوليو هل كنت سأصبح التلميذ المجتهد الذى يحصل على الدرجات النهائية فى مدرسة العمرى الابتدائية بأخميم ، من أجل أن يفوز بهدايا الأبلة فوز والأساتذة : فتحى جاد ومصطفى عبد الشافى وعشرى حميرة , والأهم أن أحظى بتصفيق حبيبتى الصغيرةحينما ألقى فى الاذاعة الصباحية بحماسة طفل صغير أبياتا من محاولاتى الأولى فى تأليف الأناشيد الوطنية الملتهبة, لتشتعل أصابع حبيبتي بحرارة التصفيق وبراءة الانفعال ,فتشاركني حبات الترمس و الجزر الأحمرالشهى فى الفسحة . وكثيرا ما أود التسأول بيني و بين نفسي , هل ثورة يوليو التى أتاحت لى مقعدا فى قاعة الدرس , ونافذة ينفتح من خلالها القلب على قضايا الوطن , والعقل على نور المعرفة ،هل هذه اللحظة التاريخية الفارقة هى التى جعلتنى كاتبا يقبض على جمرة الأمل, ولايقبل الا بانتصار الحرف على الصمت . ترى لو لم تكن تلك "الثورة الأم" قد حدثت فى توقيتها , أو تأخرت عقدين فقط هل كنت سأنجو من أن أصبح واحدا من الأغلبية الكاسحة المهدرة , والتى لاهم لها سوى ارضاء السادة الذين لا يزيدون على %1من السكان . وهل كنت أملك الا أن ألملم أشلاء موهبتى الشعرية , ضمن المواهب التى لا يسمح لها هؤلاء السادة بالصعود الى حيز المعلوم , ليصبح كل جديد وشاحا لحزن جديد ، ينكأ مساحات جديدة.. لجراح جديدة أبدا لا تلتئم . وهل كان للشعر معنى أو للشاعر وجود لو لم تكن هناك ليلة فارقة , حدثت فى مثل هذا الشهر قبل واحد وستين عاما كاملة .. ليلة تركت لنا أسئلة ربما لم تعد موجعة الآن ! لكنها تؤكد حقيقة لا تقبل القسمة على اثنين هى أننا، فى معظمنا على الأقل , توحدنا مع تلك اللحظة التاريخية الفارقة" ثورة يوليو" رغم الفارق الزمنى و المكانى ولولاهذا التوحد ما استطعت تحقيق انسانيتى الحرة.. فأنا اعترف بأننى لا أملك جنون جدى الأكبر" محمد بن برى" الذى باع أرضه قطعة قطعة , ليعلم نفسه ويمارس عشقه لتحقيق التراث والمخطوطات، فى وقت كان التعليم محرما على ملح الأرض من الفلاحين البسطاء وابنائهم ، الذين لايحق لهم رفع رؤوسهم من فوق فؤوسهم ،ولست فى عبقرية أوحتى عناد العقاد الذى عاركت خطواته كل العقبات ، وشق لنفسه طريق المجد وسط جرانيت أسوان فى استثناء عارض ،لاتسمح عهود الجهل والقهر والفقر بتكراره من الأساس. ان مجرد التفكيرفى غياب حدث مفصلى عن حياتى / حياتنا " ثورة يوليو "، وضياع حقيقة من الأعمدة التى ترتكز عليها حركتنا فى الحياة مثل مجانية التعليم ،يصيبنى بالارتباك ويضعنى فى حيرة تقارب حد العجز عن فهم المسارات وإدراك الدوافع، ذلك العجز الذى يزداد اتساعا مع زيادة رقعة المدارس الخاصة باهظة التكاليف وتشحذ أسنانه نصالها مع الارتفاع الشاهق لحوائط الجامعات الخاصة شديدة الفخامة التى تقبل أنصاف المتعلمين وكل الفاشلين من السادة الجدد ما داموا قادرين على الدفع، وأخشى من يوم تنهار فيه كل الصروح التى شيدنا على أسسها كرامتنا وفجرنا بين طياتها نهر إنسانيتنا وحضارتنا ذلك النهر الذى مهما كان عظيما وقويا لا يحيا ولا يستمر إلابتدفق نبع الوحدة و الحرية والمعرفة معا، وإرادة تجاوز المحدود والعبثى إلى المطلق والجاد ، اخشى من اليوم الى ينتزع فيه من الضمير الإنسانى هالتنا الحضارية المقدسة وأساطيرنا الفكرية التى شيدناها على قاعدة مجانية التعليم ،فمنحتنا خصوبة المعرفة وروافد الخلق والإبداع، وشرعية الحلم ، والأهم الوعى بتجاوز" الضرورة العمياء" التى وضع قوانينها السادة وأقنعوا الباقين زورا ولعقود طويلة بحتميتها المزعومة، فسلموا على نصال الجهل والقهر بالبقاء تحت سلطة تلك الضرورة . أيها القطط السمان، اخبروا بطونكم بانه لم يعد فى هذا الوطن أشلاء لكى تشبع، أيها الدخلاء أعداء أنفسكم والوطن لكم عيونكم الرمداء التى لا ترى إلافى مرآة مصالحها الصدئة، فقط أتركوا لأولادنا مقاعد الدرس ، واحتفظوا بخوائكم، لكم أسواقكم ورماد الموقد، ولنا لهيب الحرية والكرامة الانسانية وخصوبة الانتماء لهذاالوطن، ولناصورة فى بيتنا لقائد رحل، لكنه أكثر حضورا بيننا الآن ..وهل يغيب من عاش الوطنية كأنها أبد .