دون مبالغةٍ نقول بأن هذه الفتنة الطائفية هي الأخطر في (تاريخ الإسلام)، لأنها لا تقول للناس قاتلوا هذا النظام أو ذاك لأنه قمعيّ، لا يراعي حق البشر وكرامتهم، بل لأنها تقول، وبأعلى الصوت، قاتلوهم لأنهم من (الطائفة الفلانية). أضفْ لذلك أنها فتنة مزوّدة بأضخم الأرصدة المالية في العالم، وبأكبر وسائل الإعلام الحديثة، وفي خدمتها كتبة بلا ضمير، ولأنها تستثمر التخلّف الاجتماعي. لا أظن أن العالم العربي – الإسلامي شهد في تاريخه فتنة طائفية بهذا الحجم المهول وبهذه الإمكانات المادية والإعلامية. وعلى سبيل المثال يقدّم جمال خاشقجي، تحت عنوان "لم يعد هلالاً شيعياً" (الحياة، يوم االسبت 15 يونيو 2013) مثالاً لمنظري الفتن الطائفية الفاقعة، بخطاب لا يجرؤ علي أسلوبه الكثير من كتاب جريدة احترافية محترمة مثل الحياة. خلاصته بتعبير الكاتب نفسه:"ليكن الهدف إسقاط بشار وسريعاً، فهو هدف كفيل بجمع قوى متنوعة من عشائر الأنبار إلى «حماس» إلى «إخوان» مصر وتونس ودول الخليج". وفق خاشقجي فإن إسقاط بشار (الذي أدعو أنا له أيضاً)، يتم بأدوات مذهبية وليس سواها. مقالة خاشقجي تعني بأن الهدف المُضْمَر هو تحطيم إيران وتقليم أظافرها، لكن في البدء عبر تحطيم سوريا والعراق، بذرائع مطالب شعوبها للعدالة والحرية والكرامة، وضمن مشروع طائفيّ يأكل الأخضر واليابس. قتل العراقيين والسوريين اليومي لا يبدو شأنا مهمّاً، وفي ذلك شيء غير مقبول. كان من الأجدى الابتعاد عن هذا التحشيد والقتل الطائفي في البلدين، والذهاب، وفق الرغبات المستترة للمقالة المذكورة، لمحاربة إيران مباشرة بكل قوة، ورؤية كم من العرب، من جميع الطوائف، سيقف مع المشروع، وكم سيقف ضده. هذه وجهة واحدة من المشكلة التي على المثقف الحر القتال ضدها، فالمثقف مثل شوكة الطعام "يحارب" على أكثر من جهة في الوقت نفسه، يمشي في حقل ألغام، وعليه ألا يفقد البوصلة، ويتأكد بين فينة وأخرى من نسبة الأدرينالين في دمه. في المسألة الطائفية على الشوكة هذه أن تبقى حذرة للجهات الأربع..العنصر الجوهري الآخر في المشكلة هو أن الطائفية في الحقيقة ليست سوى أهداف سياسية وإستراتيجية عابرة للطوائف. بدهاء، كتبت لنا من السعودية وصال الحسن (اسم مستعار لرجل) وتحت لغة تصطنع البراءة:"تشغلك الطائفية؟ لا تتحدث عنها"، وكانت تعرف تماماً أن الطائفية محض قناع لصراع سياسيّ. لم تكن تودّ أن نخوض في طبيعته لسبب لا يجهله العاقل. بعد حين، بعد أن تستنفد الطائفية جميع ألاعيبها وضحكها على العقول، سيُعْلِن المتقنعون بالطائفية حقيقة أهدافهم السياسية والإستراتيجية عابرة الطوائف. عندما نلحّ ونشدّد على خطورة تحويل الصراع السياسيّ إلى صراع مذهبيّ، فلأن الطائفية هي في الحقيقة قناع للصراع السياسيّ لا غير. ما يجعل الطائفية بالغة الخطورة هو أنها تتقنّع بالمذهبية وتكفير المذاهب وتغطس في السجال الدينيّ، وتقود إلى القتل على الهوية المذهبية. هذا هو السبب في أن البعض لا يتمنى علينا رؤية البعد السياسيّ، ليحوّلَ وجهتنا نحو المذهبيّ بكل الحيل والأساليب التي يجدها مناسِبة. هذا سهل بل ساذج. وللتدليل على أن الطائفية هي محض أهداف سياسية وإستراتيجية عابرة للطوائف، هاكم هذه الفرضية القابلة للتحقق والتصديق: لو انتصر مشروع القرضاوي نجاحاً كاسحاً، حينها سيقول بأنه وأتباعه لم يكونوا يستهدفون الشيعة ولا العلويين، وإن هؤلاء الأخيرين هم جزء من النسيج الاجتماعي والتاريخي للعراق وسوريا، وإنهم كانوا يستهدفون، مثلاً، المشروع السياسي الإيرانيّ في المنطقة، وغير ذلك من الأهداف السياسية الأخرى التي سنسمعها في حينها (القرضاوي لا يعي ذلك ولا يقوله لأنه طائفي خالص في تقديري). ومثل ذلك يمكننا أن نفترض عن أحزاب طائفية شيعية. في العراق حيث الدم يجري في الشوارع، حاول البعض عبثاً، في مدينة الأنبار غرب البلاد، تحويل الصراع السياسي إلى مذهبيّ (وهذا التحويل هو الطائفية بعينها)، لكن لنلاحظ التالي: في المطالب التي قدَّمها سكان الأنبار للحكومة المركزية لا يوجد البتة أي شيء يتعلق بالسجال الفقهيّ ولا بمذهب السنة والجماعة، كل شيء في تلك المطالب كان سياسياً صرفاً. وننصح بإعادة قراءة مطالبهم بدقةٍ. خذ المثال الثالث: البعثيون العراقيون، ومن بقي منهم، حاولوا هم أيضا ويحاولون استخدام الطائفية والإفادة من المذهبية لأغراضهم السياسية الإستراتيجية. لقد ذهبوا، بدهائهم وحيلهم التي يعرفها العراقيون إلى استثمار (الصوفية) نفسها لهذا الغرض، فإن (نقشبندية) عزة الدوري هي محض قناع مذهبيّ صوفيّ لحزب البعث وسياسته الدمويّة التي خبرها العرب..على شوكة الثقافة هذه أن ترى حدود المال الطائفي أخيراً. إذ يستند غلاة الطائفية، بعنجهيةٍ لا مثيل لها، إلى الرصيد الماليّ الضخم الذي بحوزتهم. وهم يظنون أن بإمكانهم تمرير هذه الدعابة الدموية على جميع أبناء العالم العربي، عبر شراء ذمم المثقفين والصحفيين والكتّاب وثوريي المكاتب والصفقات، وإسكاتهم في النهاية. لقد أتتْ هذه السياسة أكلها غالبا وبشكل قويّ زاد من عنجهية غلاة الطائفية العرب وغير العرب، فأفرطوا في تعاليهم على الثقافة كلها. لكن للمال الطائفي حدوداً لا يتخطاها، لأن ضمائر الشعوب العربية ليس جميعها صالحة للبيع.