الباعة الجائلون ظاهرة لا يجدى معها «البتر» بعد أن نمت وتضخمت لتطوى 5ملايين مصري 30 % منهم من النساء اللاتى يعلن أسرهن 15 % منهم من الأطفال..ليس فقط ضخامة العدد، ولكن لأن هؤلاء لم تكن بأيديهم حيلة فقد حاصرهم الفقر والجهل والبطالة التى أضحت كالوحش الكاسر الذي يكسر الظهر ويقصف العمر ويحطم الآمال ويظهر الشيب قبل الأوان. هؤلاء قبل أن يكونوا سبب أزمات المرور وحوادث العنف وسرقات الكهرباء وسر أزمة المنتج المحلى ببضائعهم الرديئة الرخيصة المهربة أو المقلدة، هم ضحايا فساد حكومات جعلتهم دائما خارج حدود الصفحة على الهامش الذي تشعبطوا فيه بالعافية .. وجدوا فى الرصيف الستر من الجوع والبديل عن اللجوء إلى الحرام بأنواعه .. وجدوا فيه الملاذ من أحضان شواهد القبور التى يعيشون بجوارها أو برودة الصفيح الذي يتلفحون به أو شوك فى عشش لا تستر ولا تحمى من برد أو حر. هؤلاء يعيشون على الهامش ويموتون على الهامش ..تماما. بائع البطاطا الشهيد الذي قدمه الباعة الجائلون – دون قصد – شهيدا عنهم مشاركة منهم فى ثورة لم يفهموا منها سوى أن التجمعات فى ميدان التحرير ومختلف الميادين بيئة خصبة لعمل نصبة شاى أو سجائر أو أعلام مصر التى ظلت سنوات طويلة حبيسة الهيئات الحكومية وأحواش المدارس .. هكذا كانت لهم الثورة التى قامت من أجلهم، لكنهم دائما على ثقة أنهم ليسوا على بال أحد وأنه لا يوجد من يبال بهم. هؤلاء الباعة فى الأتوبيس والشارع ومترو الأنفاق فوق الأرض وتحت الأرض .. فى حرب دائمة من أجل لقمة العيش مع البلدية أم مفتشى مترو الأنفاق أو مع موظفين معدومى الضمير يفرضون عليهم «فردة» حتى يتركونهم بالبضاعة ليعاودا القبض عليهم من جديد وهلم جرة. ظاهرة الباعة الجائلين ليست فى مصر وحدها، بل بطول الكرة الأرضية وعرضها فى شوارع بومباى وتايلاند وروما .. وغيرها، وحدها فقط الدول الذكية هى من أدركت أنها أمام أمر واقع عليها تجميله وتقنينه ووحدها فقط الدول المتخلفة – زى حالاتنا – التى تتعامل مع هؤلاء الباعة كالمجرمين والمسجلين خطر، فتتعقبهم الشرطة فى مطاردات أمنية كثيرا ما شاهدناها فى مناطق شتى، خصوصا منطقة وسط البلد ولسان حالنا يقول: وماذا يفعل هؤلاء وهم أسرى أزمة اقتصادية طاحنة لا تبقى ولا تذر .. وبرغم أن المداهمات الأمنية وسباقات الماراثون بين الأمن والباعة التى غالبا ما تنتهى لصالح الباعة كلها فشلت فى التخلص من الظاهرة أو حتى تحجيمها، فإن حكومتنا الذكية ظلت على المنوال ذاته فى التعامل مع الباعة الجائلين. الهند مثلا أدركت أن الباعة يوفرون سلعا أرخص ثمنا للفئات الفقيرة ويحققون دخلا يقدر بنحو 60 مليار روبية سنويا فى بومباى وحدها، لذا أصدرت الهند قانونا لتنظيم الباعة الجائلين 1951، ليضع قواعد البيع بالشارع وأعطى هذا القانون الحق لرئيس البلدية سلطة الترخيص بالبيع لفترة سنة مقابل رسوم محددة على أن يقدم البائع وصفا للمواد التى يقوم ببيعها، ويتولى القاضى فرض غرامة على المخالفين. وفى عام 1989، أصدرت المحكمة العليا فى سودهان حكما ضد مدينة نيودلهى أكدت فيه أن البيع فىى الشارع حق للمواطنين وأنه يمكن للدولة وضع الضوابط له، وفى عام 1998، تأسست الرابطة الوطنية للباعة الجائلين وضمت 276 منظمة بها أكثر من 168 ألفاً من الباعة الجائلين بل إن الحكومة الهندية قامت بتنفيذ مشروع نموذجى بالتعاون مع معهد الصحة والنظافة ومنظمات الأممالمتحدة للصحة والغذاء لتدريب الباعة، كما وضعت القوانين فى الهند على أساس مراعاة تخصيص مساحات للباعة الجائلين فى تخطيط المدن، وفى 2004، عملت وزارة الشئون الحضرية فى الهند على وضع سياسة وطنية للباعة الجائلين من تنظيم أماكن تواجدهم ووضع قائمة بالأماكن الممنوعة عليهم ومنها مداخل السكك الحديدية والطرق المؤدية إليها، ووضع قواعد النظافة والصحة العامة فيما يتعلق بالأطعمة التى يبيعونها ومراعاة الشكل الجمالى للأكشاك فى الشوارع، هذه الهند التى نسخر من عقول أبنائها لعبادتهم البقر. وفى العالم كله بدأ الانتباه إلى مشكلة الباعة الجائلين فى مرحلة مبكرة وأقيمت المؤتمرات من أجل وضع تصور لحل مشاكل الباعة الجائلين كما حدث فى إعلان بيلاجيو 1995، أو التحالف الدولى للباعة الجائلين فى جنوب إفريقيا 2002، وفى جدة قامت الحكومة بتوفير محال مجهزة مجانية للباعة الجائلين حرصا على المظهر الحضارى للمدينة. فى مصر اقتصر الاهتمام بالباعة الجائلين على الدراسات التى طوتها الأدراج ومحاولات وتجارب فردية حاولت تقنين أوضاعها والتخلص من حرب الشوارع مع البلدية كما فعلها بائعو الطعمية فى المنيا. المحاولات الأخرى كانت استغلالاً لمشكلة الباعة الجائلين كما فعلها فى وكالة البلح أيمن طه، عضو مجلس الشعب عن الحزب الوطنى المنحل الذي شيد مولا معدنيا عجيبا بجوار مسجد السلطان أبوالعلا بزعم جمع الباعة الجائلين من أبناء المنطقة، لكن سعادة النائب استخدم واجهة المول فى الدعاية الانتخابية، ثم وضع صورته أثناء حديثه فى المجلس وفى الخلفية صورة الكتاتنى .. وبرغم صدور قرار بالإزالة لهذا البناء العشوائى المريب الذي أقيم على أنقاض مبنى تاريخى تم هدمه بشكل مريب بعد حريق أكثر ريبة دب فى أرجائه كما يري البعض بفعل فاعل لهدم البناء المسجل كمبنى تاريخى، ما زال المبنى الزجاجى أو المعدنى يبدو فى وكالة البلح كائنا فى مكانه. وأخيرا إن لدى مصر ميزة قد تجعل هؤلاء الباعة جزءا من الخريطة السياحية، فمصر التى ورثت نظام الأسواق المتخصصة الذي عرفته منذ قرون طويلة عندما كان للسلاح سوق وللذهب سوق وللنحاسين سوق، فما زال لدينا سوق السبت فى المنيل، وسوق الجمعة المتخصص فى الأنتيكات، المسألة فقط تحتاج إلى عملية تنظيم. لقد أدرك الباعة الجائلون فى مصر أخيرا أن عليهم فعل شىء وأعلنوا عن تأسيس نقابتهم من منطلق أنه لن يمسح دموعهم سوى أيديهم فأسسوا نقابتهم التى لم ينضم إليها بائعو مترو الأنفاق لرفضهم العمل فوق الأرض وتمسكهم بالعمل داخل محطات المترو، يبقى أن نقول إن دراسة اتحاد جمعيات التنمية الاقتصادية وتنمية الدخل فى دراستها عن الباعة الجائلين أثبتت من خلال دراسة ميدانية عام 2009، أن 30 % من الباعة يحملون شهادات متوسطة و3 % ممن حصلوا على شهادات جامعية و67 % يعولون أربعة أفراد، فهل من يدرك ويعقل؟