حين قرر محمد التابعى كتابة قصة حبيبته أسمهان والذى تؤكد كريمته السيدة شريفة والصور التى لديها والمنشورة فى مجلة آخر ساعة عام 1949 أنه كان زوجها حتى هدده ثرى من أعيان الصعيد بأنه سوف يحضر إلى القاهرة ليضربه بالرصاص، لأنه نكأ جراحه القديمة .. جراح إعجابه وولهه بأسمهان وهكذا ينقسم معجبو أسمهان بين متشددين إلى حد الضرب بالرصاص لمن يهينها حتى زوجها المخرج أحمد سالم حاول قتلها بالرصاص أيضا، لكن لا أحد أنكر موهبتها وصوتها النادر وروعة أدائها وتميزها فى اختيار كلمات أغانيها وألحانها. على الرغم من كل هذه الموهبة فإن آمال الأطرش الشهيرة بأسمهان عاشت حياتها فى غموض وماتت فى ظروف أكثر غموضا ً، لذا بحثت فى مصادر عدة حين قررت الكتابة عن أسمهان أكثرها، أوراق الكاتب الرائد الأستاذ محمد التابعى، والذى ساعدتنى كريمته السيدة شريفة كثيرا فى هذا الأمر، ومنحتنى العديد من هذه الأوراق، إضافة إلى أوراق ووثائق نخجل من نشرها، وترفض ابنة التابعى التصريح بها، بل وكشفت لى دون خجل أن أسمهان كانت متزوجة فى السر من محمد التابعى بدليل الصور والأوراق وإقامتها فى بيته وخناقاتهم معا ً وضربها له بالقلم وهى فى بيته ثم طرده لها من بيته، وقيام شقيقها فريد الأطرش بإعادتها فى يده إلى بيت التابعى، وقيامه بمصالحتهما، وكذلك اعتمدت على كتاب التابعى «أسمهان تروى قصتها» وكتاب شريفة زهور «أسرار أسمهان» الذى ترجمه عارف حديفة ونشرته دار «المدى». تعرف التابعى على أسمهان فى الوقت الذى كانت علاقاته النسائية تتجاوز ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، لذا لم تلفت نظره أسمهان فى البداية، وكان قد شاهدها تغنى عام 1931 فى صالة بشارع عماد الدين تمتلكها مارى منصور إحدى ممثلات مسرح رمسيس التى اعتزلت التمثيل وافتتحت هذه الصالة .. والتقى هناك بأحمد حسن المحرر بجريدة البلاغ ومعه أسمهان تتأبط ذراعه الذى هاتف التابعى فى اليوم التالى لأن أسمهان تريد التعرف إليه، ولم يتم شىء فى هذا التعارف وتوقع التابعى أنها تريد التعرف إليه لأنه صحفى وصاحب مجلة – آخر ساعة – ليشيد بجمال صوتها ويقوم بالدعاية لها على صفحات المجلة آخر ساعة .. فحين رآها التابعى قبل ذلك مع عبد الوهاب وفريد فى عيد ميلاد التابعى، ومرة تعشت فى بيته هى وفريد وعبد الوهاب، لذا لم يندهش حين هاتفه عبد الوهاب يطلب منه المجيئ بسرعة وإلا سيفوته نصف عمره، كان مكتب الموسيقار فى ذلك الوقت فى عمارة آل راتب فى شارع الساحة . ودخلت عليه فوجدته جالسا وقد أمسك بعوده .. وأمامه أسمهان . وكان الاثنان يراجعان معا أغنية – أو أوبرت كما يسمونها – قيس وليلى .. وكانت أسمهان تغنى لحظة دخلت .. «ما فؤادى حديد ولا حجر .. لك قلب فسله يا قيس ينبئك بالخبر» وتسللت داخلا على أطراف أصابعى . وجلست فى المقعد الخالى الوحيد وكان بجوار أسمهان . وكان عبد الوهاب – بين وقت وآخر – يراجعها فى بعض النغمات ويصححها لها ويطلب منها أن تغنيها من جديد . ووجدتنى – وأسمهان مشغولة عنى بالغناء – وجدتنى أنظر إليها طويلا وأتأمل وجهها . هذا وأنا مأخوذ بحلاوة صوتها الحزين الذى فيه شيئا ما . شىء يستعصى على الوصف وإن تكن الإذن تستريح إليه . أما وجهها ! الحقيقة أن أسمهان كانت جذابة وكانت فيها أنوثة ولكنها لم تكن جميلة فى حكم مقاييس الجمال .. وجهها المستطيل . وأنفها الذى كان مرهفا أكثر بقليل مما يجب! وطويلا أكثر بقليل مما يجب! وفمها الذى كان أوسع بقليل مما يجب! وذقنها الثائر أو البارز إلى الأمام أكثر بقليل مما يجب .. ولكن عينيها! .. عيناها كانت كل شىء .. فى عينيها كان السر والسحر والعجب .. لونهما أخضر داكن مشوب بزرقة وتحميها أهداب طويلة تكاد من فرط طولها تشتبك! وكانت أسمهان رحمها الله تعرف كيف تستعمل سحر عينيها عند اللزوم ! وانتهت «البروفة» – بروفة الأغنية – وقدمنى عبد الوهاب لأسمهان ومدت هى يدا متثاقلة وقالت بتكلف ساذج وظاهر. «تشرفنا» ! وفى لحظة واحدة انقلبت أسمهان من المطربة التى كانت تغنى من روحها وتذيب قلبها فى الغناء .. إلى سيدة صالون .. أو إلى ما ظنت هى أنه السلوك الذى يجب أن تأخذ به سيدة الصالون . ومدت يدها تصلح من وضع الفراء الرخيص الذى كان يحيط بعنقها؟ وبرق فى أحد أصابع يدها خاتم فيه فص زجاجى كبير .. ولكن مفروض أنه من ألماس .. وحارت ساقاها .. أيهما تضعها على الأخرى .. وفى كلمة واحدة كانت حركاتها وإشارات يديها ولفتات رأسها كلها متكلفة وغير طبيعية .. وأدركت أنها تريد أن تحدث أثرا طيبا فى نفسى! وأن هذه هى طريقتها! مرة أخرى أحسست أن أمامى «شيئا» صغيرا مسكينا يبعث الرحمة فى الصدور ! وكان هذا دائما هو أبرز أثر تركته أسمهان فى نفسى طول معرفتى بها .. وهى أنها شئ صغير مسكين يبعث الرحمة فى الصدور ويستحق العطف والرثاء. الفريسة بين عبد الوهاب والتابعى : فالتابعى يعرف أن عبد الوهاب يتقن فن الدعاية كما يتقن فن الغناء، وقد يكون عرفه على أسمهان لأجل أن يقيم معها صداقة، والصداقة تفرض على الصديق الاهتمام بصديقه ومن ثم متابعة أخباره، وهذا سوف يعود على عبد الوهاب لأن أسمهان ستغنى أغانى فيلم « يوم سعيد « .. بل وسأل التابعى عبد الوهاب : لماذا أصريت على أن تعرفنى على أسمهان ؟ فأجابه ضاحكا : لأن أسمهان هى اللى راح « تجيب داغك « .. ولم يتوصل التابعى لشئ لمدة عام إلى أن كان ذات مساء فى صيف 1940 فى رأس البر حيث جلس التابعى وأسمهان على شرفة العشة يتجاذبان أطراف الحديث عن مقابلتهما الأولى .. يكمل التابعى : « وضحكت هى أثناء الحديث وقالت : - هل تعرف لماذا عرفنى بك عبد الوهاب؟ قلت: علشان دعاية لك وللفيلم . قالت: كلا .. غلطان . السبب الحقيقى هو أنه كان يريد أن يشمت فيك ! سألتها: كيف ؟ وراحت هى تقص على كيف كانت أثناء زواجها وإقامتها فى جبل الدروز تزور القاهرة من عام لعام .. وكيف أنها بدافع حبها للموسيقى وللغناء كانت تغشى أوساط الموسيقيين وكيف تعرفت بعبد الوهاب وكانت شديدة الإعجاب به وبفنه .. وأنها كانت تزوره أحيانا فى داره . وأنه غازلها وأنها بادلته غزلا بغزل .. ولكن الغزل أو المغازلة وقفت بهما فى أول الطريق . وهنا سألتها – وكنت قد عرفت خلال هذا العام الذى انقضى على معرفتى بها – أن « الشقاوة» فى دمها وأن المغازلة طبيعة فيها .. سألتها: ولماذا وقفتما فى أول الطريق ؟ قالت: لأنه لم يعجبنى .. وعبد الوهاب فى مجلس الغناء شىء يعجب ولا يفتن .. ضحكت أنا وقلت : هذا رأى لن تجدى سيدة أخرى تقرك عليه ! قالت: ربما .. فهناك نساء وفتيات يعجبن بهذا النوع من الرجال . قلت: أى نوع ؟ قالت: الرجل المغرور! .. إن عبد الوهاب يريد دائما من المرأة التى يحبها أن توفر عليه كل عناء الحب! عليها هى أن تكون لها جرأة الرجل، وإقدام الرجل .. وأن تترك له هو – عبد الوهاب – حشمة المرأة وحياءها وخفرها!.. أى أن الأوضاع تنقلب! هو يجلس مطرقا برأسه .. وعلى المرأة أن تزحف إليه على ركبتها . وليس عليه إلا أن يتفضل ويتقبل منها حبها وقبلاتها وخضوعها تحت قدميه! .. هذا هو حب عبد الوهاب (ثم هزت رأسها بشدة وهى تقول): لم يعجبنى .. أبدا لم يعجبنى ! ثم مضت تقول إن عبد الوهاب حاول بطريقته الخاصة أن يخضعها لحبه هذا أو لما يظن أنه الحب فلم يفلح . وأنه عاود المسعى بعد عودتها إلى مصر وطلاقها فلم يوفق .. وأخيرا قال لها – وكان ذلك يوم عرفنى بها – قال: (سأعرفك اليوم بالرجل اللى راح يجيب داغك) . وضحكت أنا طويلا وسألتها : هل قال لك ذلك حقا ؟ قلت : ولكنه قال لى نفس العبارة فى نفس اليوم .. قال لى بعد أن انصرفت ( إن أسمهان هى اللى راح تجيب داغك ) . وضحكنا طويلا . وأخيرا قلت: إذن فقد كان مراده أن يجيب أحدنا داغ الآخر .. ويقف هو يضحك من المغلوب ! قالت: تماما .. قلت: ولكن .. أفهم أنه كان يريد أن أجيب أنا داغك لكى يشمت فيك وينتقم منك على أعراضك عنه . ولكن لماذا كان يريد أن تجيبى داغى وأنا لم أسئ إليه فى شىء ؟ ضحكت رحمها الله وقالت : هل سمعت الحكاية « اشمعنى بنتنا إحنا التى فقدت عفتها .. وبنت الجيران لأ ؟». وهى حكاية لا تنشر! ثم مضت تقول: - لعله كان يعزيه ويعزى كرامته المجروحة أن يراك قد فشلت كما فشل هو، وأن يراك صريع الهوى طريحا تحت قدمى ! ثم ابتسمت وقالت : على فكرة مين فينا اللى جاب داغ التانى .. أنا ولا أنت ؟ وابتسمت بدورى وقلت : إيه رأيك ؟ ومالت هى برأسها قليلا إلى جانب وتظاهرت بأنها تفكر طويلا ثم قالت : - أظن أننا، إحنا الاتنين جبنا داغ بعض! قلت : يعنى نبقى خالصين ؟ قالت : أليس كذلك ؟ قلت : وهو كذلك ! هذا ما قالته أسمهان ذات مساء فى صيف 1940 عن صديقى عبد الوهاب، ولماذا حرص على أن يعرفنى بها» . تؤكد شريفة التابعى أن والدها تزوج من أسمهان، وكانت بينهما قصة حب كبيرة وخطبا بعضهما ونشرت صورة الخطوبة فى آخر ساعة، وقد عاش معها فترة سعيدة، ثم دبت خلافات طويلة بينهما أدت إلى الطلاق . ثم لا يعقل أن يسحب فريد الأطرش أخته من يدها ويعيدها إلى بيت التابعى دون أن تكون زوجته طبعا .