يشبه قانون التصالح في مخالفات البناء.. برلماني يقدم مقترحًا لحل أزمة الإيجار القديم    في ضربة انتقامية.. باكستان تُدمر مقر لواء بالجيش الهندي    ردود الفعل العالمية على اندلاع الحرب بين الهند وباكستان    22 شهيدا و52 مصابًا جراء مجزرة الاحتلال الإسرائيلي في مدرسة أبو هميسة بمخيم البريج وسط غزة    رئيس الخلود السعودي: سنرسل ديانج في طائرة خاصة إذا طلبه الأهلي    تحرير 30 محضرًا في حملة تموينية على محطات الوقود ومستودعات الغاز بدمياط    كندة علوش تروي تجربتها مع السرطان وتوجه نصائح مؤثرة للسيدات    تحرير 71 محضرا للمتقاعسين عن سداد واستكمال إجراءات التقنين بالوادي الجديد    طارق يحيى ينتقد تصرفات زيزو ويصفها ب "السقطة الكبرى".. ويهاجم اتحاد الكرة بسبب التخبط في إدارة المباريات    إريك جارسيا يلمح لتكرار "الجدل التحكيمي" في مواجهة إنتر: نعرف ما حدث مع هذا الحكم من قبل    الدولار ب50.6 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الأربعاء 7-5-2025    فيديو خطف طفل داخل «توك توك» يشعل السوشيال ميديا    أول زيارة له.. الرئيس السوري يلتقي ماكرون اليوم في باريس    موعد إجازة مولد النبوي الشريف 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    «كل يوم مادة لمدة أسبوع».. جدول امتحانات الصف الأول الثانوي 2025 بمحافظة الجيزة    المؤتمر العاشر ل"المرأة العربية" يختتم أعماله بإعلان رؤية موحدة لحماية النساء من العنف السيبراني    متحدث الأوقاف": لا خلاف مع الأزهر بشأن قانون تنظيم الفتوى    التلفزيون الباكستاني: القوات الجوية أسقطت مقاتلتين هنديتين    وزير الدفاع الباكستاني: الهند استهدفت مواقع مدنية وليست معسكرات للمسلحين    الهند: شن هجمات جوية ضد مسلحين داخل باكستان    مسيرات أوكرانية تعطل حركة الملاحة الجوية في موسكو    الذكرى ال 80 ليوم النصر في ندوة لمركز الحوار.. صور    شريف عامر: الإفراج عن طلاب مصريين محتجزين بقرغيزستان    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بعد آخر ارتفاع ببداية تعاملات الأربعاء 7 مايو 2025    «تحديد المصير».. مواجهات نارية للباحثين عن النجاة في دوري المحترفين    موعد مباريات اليوم الأربعاء 7 مايو 2025.. إنفوجراف    سيد عبد الحفيظ يتوقع قرار لجنة التظلمات بشأن مباراة القمة.. ورد مثير من أحمد سليمان    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    "اصطفاف معدات مياه الفيوم" ضمن التدريب العملي «صقر 149» لمجابهة الأزمات.. صور    حبس المتهمين بخطف شخص بالزاوية الحمراء    السيطرة على حريق توك توك أعلى محور عمرو بن العاص بالجيزة    قرار هام في واقعة التعدي على نجل حسام عاشور    ضبط المتهمين بالنصب على ذو الهمم منتحلين صفة خدمة العملاء    ارتفاع مستمر في الحرارة.. حالة الطقس المتوقعة بالمحافظات من الأربعاء إلى الاثنين    موعد إجازة نصف العام الدراسي القادم 24 يناير 2026 ومدتها أسبوعان.. تفاصيل خطة التعليم الجديدة    د.حماد عبدالله يكتب: أهمية الطرق الموازية وخطورتها أيضًا!!    "ماما إزاي".. والدة رنا رئيس تثير الجدل بسبب جمالها    مهرجان المركز الكاثوليكي.. الواقع حاضر وكذلك السينما    مُعلق على مشنقة.. العثور على جثة شاب بمساكن اللاسلكي في بورسعيد    ألم الفك عند الاستيقاظ.. قد يكوت مؤشر على هذه الحالة    استشاري يكشف أفضل نوع أوانٍ للمقبلين على الزواج ويعدد مخاطر الألومنيوم    مكسب مالي غير متوقع لكن احترس.. حظ برج الدلو اليوم 7 مايو    3 أبراج «أعصابهم حديد».. هادئون جدًا يتصرفون كالقادة ويتحملون الضغوط كالجبال    بدون مكياج.. هدى المفتي تتألق في أحدث ظهور (صور)    نشرة التوك شو| الرقابة المالية تحذر من "مستريح الذهب".. والحكومة تعد بمراعاة الجميع في قانون الإيجار القديم    كندة علوش: الأمومة جعلتني نسخة جديدة.. وتعلمت الصبر والنظر للحياة بعين مختلفة    معادلا رونالدو.. رافينيا يحقق رقما قياسيا تاريخيا في دوري أبطال أوروبا    من هو الدكتور ممدوح الدماطي المشرف على متحف قصر الزعفران؟    بعد نهاية الجولة الرابعة.. جدول ترتيب المجموعة الأولى بكأس أمم أفريقيا للشباب    أطباء مستشفى دسوق العام يجرون جراحة ناجحة لإنقاذ حداد من سيخ حديدي    طريقة عمل الرز بلبن، ألذ وأرخص تحلية    ارمِ.. اذبح.. احلق.. طف.. أفعال لا غنى عنها يوم النحر    أمين الفتوي يحرم الزواج للرجل أو المرأة في بعض الحالات .. تعرف عليها    نائب رئيس جامعة الأزهر: الشريعة الإسلامية لم تأتِ لتكليف الناس بما لا يطيقون    وزير الأوقاف: المسلمون والمسيحيون في مصر تجمعهم أواصر قوية على أساس من الوحدة الوطنية    «النهارده كام هجري؟».. تعرف على تاريخ اليوم في التقويم الهجري والميلادي    جدول امتحانات الصف الثاني الثانوي 2025 في محافظة البحيرة الترم الثاني 2025    وكيل الأزهر: على الشباب معرفة طبيعة العدو الصهيوني العدوانية والعنصرية والتوسعية والاستعمارية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأهرام العربى تفتح الملف.. العشوائيات وجع فى قلب مصر!
نشر في الأهرام العربي يوم 16 - 04 - 2013

عماد أنور - ليه ..؟ هكذا نبدأ سطور هذا الملف بكلمة من ثلاثة حروف «ليه» وباللغة العربية الفصحى «لماذا» والحق نعترف أن الثانية قد لا تسعفك أحيانا فى الكتابة والتعبير والوصف والرصد والنقل لما قد تراه عيناك التى لا تمتلك سوى أن تذرف دما وليس دموعا.
قد تضبط نفسك متلبسا وأنت تقولها عاليا صارخا متهدجا موجوعا ومتألما، فليسقط النحو ولتذهب البلاغة للجحيم، فالمرارة التى تذوب فى حلقك ذوبانا تمتد لتحاصرك وتحاصر معك الجميع..
«ليه».. يا مصرى دنياك لخابيط.. والُغُلب محيط.. والعنكبوت عشش على الحيط وسرح على الغيط.. يا مصرى قوم هش الوطاويط.. كفاياك تبليط.. يا مصرى ياللى الغَلا عاصرك.. والنهب فى عصرك حاصرك.. قوم للحياة واسبق عصرك..
ليه يا مصرى؟
«ليه« الناس فى بلدنا من هَول الحياة موتى على قيد الحياة..؟
أحياء بالاسم بس بالنَفس اللى خارج وماحدش عارف هيدخل تانى ولا لأ وحتى إن دخل يا هل ترى هيبقى معبى إيه غير الفقر والحرمان والمرض والهم والذل.
مساكين عايشين بنضحك من البلوة.. زى الديوك والروح حلوة فاكرين أن البحر بيضحك أتاريه غضبان مابيضحكش.. أصل الحكاية ماتضحكش.. أصل جرحه مابيدبلش وجرحنا إحنا ولا عمره ِدبل.
«ليه» الغربة اللى احنا حاسينها فى وطنا دى، ليه عايشين طول عمرنا فى تغريبة، لا لينا مهرب ولا المساجين فى تخشيبة.
«ليه» ده احنا اللى وقت الشدة حارسينها واحنا اللى وقت الفرح منسيين.. تغرق واحنا برضه اللى شايلينها وتقِب نبقى احنا اللى محنيين.. ما هو احنا ضحايا العشق والواجب ولا يوم يا مصر هتِعلَى العين على الحاجب.
«ملعون أبو الظلم».. ملعون كل من يتاجر بنا وبآلامنا وآهاتنا ويستغل فقرنا وحوجتنا ويتعامل معنا على أننا جهلاء وبياعين، نبيع كرامتنا اللى أهدروها حكام على حكام وملعون اللى يفتكرنا متسولين، ناخد كرتونة السكر وشوية الزيت وشنطة رمضان ونديله أصواتنا فى الانتخابات الجاية.. أيوه فقرانين.. أيوه محرومين.. لكن عمرنا ما كنا شحاتين!!
هم بيلبسوا آخر موضة واحنا بنسكن سبعة فى أودة.. هم بياكلوا حمام وفراخ واحنا الفول دوخنا وداخ.. هم بيمشوا بطيارات واحنا نموت فى الأوتوبيسات.. هم حياتهم بمبى جميلة.. هم فصيلة واحنا فصيلة..
أصلهم هم الأمراء والسلاطين المال والحكم معاهم عايشين فى القصور وبيمشوا فى مواكب والواحد منهم بس يتكلم عن آلامنا وهمومنا فى القنوات والتليفزيونات والمكاتب المكيفة لكننا احنا بقى الفقرا المحكومين.. بس حكامنا مش واخدين بالهم أننا احنا بس الُسنة واحنا الفرض لأننا ببساطة الناس بالطول والعرض من عافيتنا تقوم الأرض وعرقنا يخضر بساتين.
«ليه» هذا الكم من السواد والقهر والحرمان والذل اللى الناس عايشة فيه.. ومين يهمه لو أن دم عصفور صغير على الأرض سال لو أن وردة لسة بِنَداها دوسنا عليها والغصن مات.
«ليه « واحنا بنفتح الملف ده حسينا أن الوطن بيسَلم حروف اسمه وبيخلع آخر هِدمه من على جسمه.. ليه بلدنا مش قادرة تقف على حيلها ولا تتنفس طعم ولون العدل بعد سنين الظلم وليه بعد ما قامت ثورة لسه تانى محتاجة ثورة يابلادنا؟
هكذا نفتح هذا الملف.. هكذا نفتح هذا الجرح الغائر العميق الذى توقع الكثيرون أنه من أول اهتمامات النظام الحاكم الجديد الذى يتكلم باسم الدين ويلوح بورقة العدالة، لكن يبدو أن ناس هذا الملف وهم بالمناسبة أغلبية شعبنا المطحون ليسوا فى الحسبان أو الاهتمامات.
ملف شائك وساخن وخطير ومؤلم وموجع يصطبغ بالقهر والحرمان ويحمل معه هموماً وآلاماً بل ويدق نواقيس وأجراس ثورة مستمرة ومقبلة وقنبلة حارقة ليست من طراز المولوتوف اليدوى، بل إن انفجارها يعنى بالقطع إبادة كل أخضر ويابس فى طريقها.. ثورة بعيدة عن النخب والتنظير والتيارات السياسية المتناحرة ما بين الإنقاذ والخراب.. ثورة لن ترتدى ثوب الرقى والحضارة والسلمية التى تحتضر على أبواب الاتحادية والمقطم والكاتدرائية والأزهر.. بل إنها ثورة « الجياع «.
ثورة مقبلة من عنوان هذا الملف الذى ستطالعه عبر سطور وحلقات مقبلة
إنه ملف «العشوائيات».
أعد الملف: أمل سرور - عماد أنور
بداية دعونا نعترف بأنها ليست المرة الأولى ولن تكون أيضا الأخيرة التى يفتح فيها ملف «العشوائيات فى مصر».. والحق علينا أن نعترف بأنه ليس تكراراً وإن كان التكرار على رأى المثل «يعلم الشطار»، وإن كان هذا المثل لا ينطبق على المسئولين فى بلدنا، فلقد أثبتوا أنهم ليسوا شطارا على الإطلاق، بل قد يكونون فهلويين أو بيلعبوا بالبيضة والحجر.
بل إن المثل الذى يقول “ودن من طيب والتانية من عجين"، هو الأكثر مناسبة لهذا النوع من القضايا فى مصر.. لم يتغير شيئ منذ ثلاثين عاما، أى منذ تولى المخلوع مبارك السلطة، ومنذ أن تنحى عنها ومنذ أن أصبح هناك حاكم منتخب للبلاد بعد ثورة 25 يناير، بل إن الحال من سيئ إلى أسوأ.
وقبل أن نصحبك قارئنا فى جولة تدخل فيها معنا عالم العشوائيات، وقبل أن تفتح رئتيك معنا لرائحة الفقراء والهم والمرض، عليك أن تعرف أننا قد انتقينا بعضاً من المناطق التى وجدت بعض الحلول على يد منظمات المجتمع المدنى التى قامت بالعمل بالفعل على أرض الواقع وأسهمت فى تقديم خدمات أو حلول جذرية كان من المفترض أن تقوم بها الدولة التى رفعت أيديها وغمت أعينها، بل وسدت آذانها عن تلك المناطق.
وعلى رأى المثل «لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل».. هكذا تتعامل الدولة مع منظمات المجتمع المدنى التى كثيرا ما تعوق عملها بحزمة من القوانين العقيمة وعندما تفشل تحاول أن تلقى بالتهم الخرافية عليها من أمثلة “ بتوع أمريكا" و “فلوسهم مشبوهة"، على الرغم من أن وزارة التضامن الاجتماعى التابعة للدولة، هى من تعطى لهم الموافقة وتصريحات ممارسة عملهم.
المحزن والمضحك فى نفس الوقت، هو أن بعض هذه المنظمات لديها معلومات دقيقة عن تلك المناطق، وهو ما وجدوا صعوبة فى الحصول عليها، وهى المعلومات التى تتفاوت من جهة وأخرى.
الحياة فى أحضان الضغط العالى.. سرطان.. صرع ومياه محلاة ب "الدود".. مرحبا بك فى "عزبة الهجانة"
لم تكن الكتابة عن المناطق العشوائية بالنسبة لنا، رغبة فى نقل واقع مرير تعيشه فئة منعدمة من المصريين من ساكنى عزبة الهجانة.
عفوا.. فكلمة “تعيشه" لا مجال لها بين الكلمات التى تكتب عن هؤلاء، لأنهم باختصار شديد فئة “ميتة على قيد الحياة".
ولم تكن الكتابة، بغرض أن تصل أصوات أهالى الهجانة إلى المسئولين، أملا فى إيجاد حلول لمشكلاتهم، لأن ما سمعناه منهم أكد لنا أن حاسة السمع لدى المسئولين أصابها العطب.
أيضا ليست الكتابة بغرض عمل “خبطة" صحفية ننفرد بها على صفحات المجلة، لأن ما كتب عنهم “زاد وغطى"، إنما الدافع الوحيد من الكتابة، هو تلك الرسالة القصيرة التى حمّلونا إياها راغبين فى أن تصل إلى أى مسئول فى الدولة.
هى رسالة قصيرة، خالية من الاستعطاف أو التسول كما يعتقد البعض، وإنما تتلخص فى كلمة واحدة “الكراهية"، نعم الكراهية، تلك المشاعر التى بات ساكنو الهجانة يحملونها لأى مسئول فى مصر والمعارضين لهم أيضا، لأن الكل – على حد قولهم – «مش عايزين مصلحة حد، وكله عاوز السلطة».
«أسلاك الضغط العالى» هى “الجيرة الحلوة" التى يتمتع بها أهالى عزبة الهجانة عن غيرهم.. يقضون لياليهم الصيفية خلف “شبابيك" بيوتهم يرفعون أعينهم وأيديهم إلى السماء داعين ربهم أن يكتب لهم الخلاص من هذا الخطر، وتعترض نظراتهم تلك الأسلاك الممتدة بطول شوارع المنطقة، وكأنها تستعرض عضلاتها أمامهم.
الخوف يدفع أحد الساهرين أن يتوسل إلى هذه الأسلاك أو “الأشباح" فى محاولة يائسة لإقناعها بمغادرة المنطقة، بعد أن هيأ له خياله أن تصل كلماته إلى تلك “الضفائر المعدنية"، لأنه فقد الأمل فى التغيير.
يحاول الساهر الهروب من تفكيره والهروب أيضا من الحر.. حر الفقر والجوع، بسماع أغنية لأم كلثوم تؤنس ليلته، ويسرح فى كلماتها بعيدا عن “زن" أسلاك الضغط العالى، الذى يصل إلى أعلى درجاته فى ساعات الليل، لكنه يفشل فى الهروب من الحظ العاثر، حيث تداهمه “الست" بصوتها الشجى قائلة: “أروح لمين وأقول يامين ينصفنى منك"، ليحول الساهر نظره إلى أعلى، رغبة منه فى نقل هذه الكلمات إلى الأسلاك المعدنية، التى يعلو صوتها وكأنها ترد عليه وتهدده بالسكوت.
فى الشتاء، لا يحتاج أهالى الهجانة إلى مشاهدة أفلام الإثارة والمغامرة، لأن الرعب جليسهم الوحيد طوال ليالى الشتاء القارسة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت “زن" هذه الأسلاك المرعبة.
البيوت التى يعيشون بداخلها، عامل مساعد على إصابتهم بكل أمراض الشتاء، لأنها بيوت تأويهم، لكنها لا تحميهم.. الظلام الدامس والبرد القارس وقطرات مياه الأمطار التى تتسرب إليهم من فتحات الحوائط والشبابيك هى ضيفهم الدائم طوال أيام الشتاء.
ساهروا الشتاء، يفعلون ما يفعلونه ساهروا الصيف، لكن من تحت البطاطين، والجميع يشترك فى الخوف من المجهول، لكن فى الشتاء، لا مجال للتوسل إلى تلك الضفائر المعدنية المخيفة من خلف النوافذ، لأنها فى لحظة يمكن أن تتحول إلى وحش يلتهم من حوله.
وربما تكون تلك الأسلاك وسيلتهم فى التدفئة، فشدة الرياح تعمل على اهتزاز الأسلاك بشكل قوى، ومن الممكن أن تصطدم أثناء اهتزازها بأى حائط أو سور، لتشتعل النيران فى لمح البصر وتتذوق المنطقة طعم الدفء على جثث سكانها الذين يتحولون دون سابق إنذار إلى وقود لتلك النيران.
فى أثناء الرحلة إلى عزبة الهجانة، كانت دقائق قليلة كافية لتغيير الحياة فى أعيننا، فالطريق المؤدى إلى الهجانة (الطريق الدائرى)، تراصت على جانبيه المدارس الدولية التى تتزين أبوابها بلافتات كبيرة مكتوب عليها اسم المدرسة، وتحتها كلمات تعرض إمكانات المدرسة فى تقديم خدمات تعليمية فاخرة (تعليم – ترفيه – دبلومة أمريكية)، بعد دقائق قليلة استقبلتنا لافتة أخرى معلقة على أحد أعمدة الضغط العالى، مكتوب عليها (خطر الموت)، وتلك اللافتة لمن لا يعرف تعنى (مرحبا بك فى عزبة الهجانة).
الأسايطة
مؤسسة “الشهاب" للتدريب والتطوير، كانت المفتاح الذى فتح لنا أبواب عزبة الهجانة، وهى أهم منظمات المجتمع المدنى التى لها رصيد من العمل مع ناس الهجانة.
هناء سلامة ابنة العزبة التى تدربت ضمن العديد من الفتيات على يد مؤسسة الشهاب، وظهور هناء معنا بين أهالى العزبة، كان كفيلا بأن يفتح لنا الأهالى قلوبهم ليتحدثون معنا بصراحة وجرأة لا مثيل لها.
البداية كانت من شارع الأسايطة، مثله مثل أى شارع فى منطقة شعبية، يمتلئ بمحلات على الجانبين، وباعة يفرشون بضاعاتهم على مقربة من تلك المحلات، كما شاهدنا التوليفة الكلاسيكية التى لا يخلو منها أى شارع حيوى فى منطقة شعبية.
مخبز “العيش البلدى" ملاصق لمطعم “الفول والطعمية"، والحياة من حولهما تسير فى حركة ديناميكية تلقائية، فتاة فى الثانية عشرة من عمرها، تبحث عن مكان نظيف لتهوية الخبز الذى اشترته للتو، وما إن تنتهى تلملم الخبز وتنفض عنه “الردة" وأشياء أخرى، ثم تتوجه إلى المطعم لتذوب وسط الزحام فى محاولة للحصول على “قرطاس" طعمية، بعدها تنحنى قليلا إلى يسار المطعم، تقلب فى حزم الجرجير والبصل الأخضر، لتنتقى أجودها ثم تنظر إلى البائع وتسأله “معندكش صابح"، ويرد البائع: “مفيش نقاوة".
هذه الوجبة التى يحاول كل بيت من بيوت المنطقة الحصول عليها، تعد الوجبة الرئيسية، فالأسرة ربما لا تتناول غيرها طوال اليوم.
تغيرت الحال تماما بمجرد الدخول فى أحد الشوارع الجانبية، وسؤال واحد يجول فى خاطرنا “هو فيه ناس عايشين هنا؟".
بيوت يتكون أغلبها من طابقين، مبنية على الطريقة السويسى، بلا أعمدة خرسانية أو أساسات، ورائحة الفقر تخرج من كل شباك وروائح أخرى كانت فى استقبالنا بسبب الصرف الصحى وانعدام النظافة.
على يمين الشارع كانت تقف مجموعة من الشباب، نظروا إلينا متعجبين، لكن من الواضح أنهم اعتادوا تلك الزيارات، حيث علا صوت أحدهم قائلا: “دول شكلهم صحافة".. ورد عليه آخر: “شكلهم جايين علشان الضغط العالى".
الجحيم
عم زين، صاحب الملامح المصرية الأصيلة، حكى لنا: أنه جاء من عزبة الهجانة منذ أكثر من 30 عاما، حيث كان يعمل “قهوجى" فى قريته بالصعيد، وكان يعانى كثرة المخالفات التى يوقعها عليه مسئولو الحى هناك، والتى استنزفت منه أموالا كثيرة، فقرر أن يصطحب أولاده ويهجر قريته متوجها إلى الهجانة عاملا بنصيحة “ولاد الحلال"، ومنذ ذلك الحين عم زين خالى شغل.
كان علينا أن نتعرف على البيوت من الداخل، فداعبنا عم زين قائلين: “إنت مش هتعزمنا عندك واللا إيه، رحب بنا وسبقنا إلى الداخل، ثم أذن لنا بالدخول.
إن تدخل من أبواب هذه البيوت عليك أن تحنى رأسك قليلا، حتى لا تصطدم بالباب من أعلى، حيث مدخله منخفض، وما إن وطأت أقدامنا داخل البيت، حتى أصبنا جميعا بالذهول، فالجحيم يسكن بين هذه الجدران جنبا إلى جنب مع ساكنيها، ورائحة الهم تملأ الهواء، وحتى نكون أكثر دقة، فإن المكان ربما لايدخله حتى الهواء.
درجتان من السلم على أول “صالة" البيت التى هى عبارة عن «طرقة» صغيرة لا تتعدى مساحتها “مترين فى مترين"، بها على اليمين “كنبة" صغيرة تكفى أن يجلس عليها فردان نحيفان بالكاد، وأمامها على اليسار واحدة أخرى أكبر، ينام عليها طفل صغير، حملته والدته وأدخلته إحدى الغرف.
بطريقة أو بأخرى استوعبتنا هذه “الطرقة" الصغيرة، حيث كنا نحو 10 أفراد، واتخذت مكانى على درجات السلم بناء على رغبتى حتى أتمكن من مشاهدة المكان بشكل أفضل، وليتنى ما جلست، فقد كنت أشرد بين الحين والآخر متأملا تلك جدران البيت وأسأل نفسى مرات عديدة، “ هما عايشين هنا إزاى؟".
لم تقطع حالة الشرود إلا عندما يعلو صوت أحد الجالسين بعد أن تنتابه حالة من الحماسة فى الإجابة عن أحد الأسئلة التى وجهناها إليه.
وتعود الحالة مرة أخرى، حيث نجلس بين أربعة جدران يغطيها السواد، ويزين إحداها “بوستر" كبير لفتاة تستعرض أحد مستحضرات التجميل، هذا البوستر عفا عليه الزمان، وكان لصقه على الحائط محاولة يائسة من الصغيرة “زوبة" فى تزيين الحائط.
حان الوقت لطرح السؤال الذى يجول فى خاطرنا جميعا، كيف تعيشون فى هذه المنطقة؟
مياه بالدود
انتفض عم أحمد سعد من مكانه ورفع يده اليمنى إلى أعلى وأقسم بالله أنهم يشربون المياه الملوثة، ثم خطا خطوتين ثقيلتين، حتى توقف بجوار برميل زيت كبير، حيث يستخدمونه كخزان للمياه، وأزاح الغطاء من على البرميل، وقال: “تحبوا تشوفوا المية اللى بنشربها بدودها".
عاد عم أحمد إلى مكانه، لكنه لم يتوقف عن الحديث وقال: “إحنا عندنا كل الأمراض، ورفع سترته كاشفا عن عملية جراحية فى بطنه، وقال: “اللى زينا بيترموا فى الشوارع، ولا إسعاف ولا نجدة بتدخل عندنا".
“ألف سلامة عليك يا عم أحمد"، هكذا قال له أحد الجالسين فى محاولة لتهدئته، ثم علا صوته مرة أخرى قائلا: “أنا الضغط العالى جاب لى صرع، وبقيت أقع من طولى كل ساعة والتانية، ومش لاقى أتعالج، ثم نظر إلينا وقال: “شوفوا لنا حل فى الضغط العالى اللى كل يوم يموت واحد مننا".
( يعنى الثورة ما غيرتش حاجة ياعم أحمد)، طرحنا عليه هذا السؤال فأجاب: بأنه لا يوجد أى تغيير بل إن الأحوال تزداد سوءا يوما بعد يوم.
وأكد لنا، أن الدكتور محمد مرسى رئيس الجمهورية حضر إلى العزبة قبل الانتخابات، وصلى مع أهالى المنطقة فى المسجد ووعد فى حالة نجاحه بحل جميع مشكلات الأهالى، سواء مياه أم كهرباء أم صرف صحى، لكن بعد نجاح الدكتور مرسى بشهور قليلة، تيقن أهالى المنطقة أن الزيارة كانت مجرد دعاية انتخابية.
حكومة باطلة!
على الرغم من الحياة الصعبة التى يعيشونها فى هذه المنطقة المهمشة، فإن أغلب أهالى عزبة الهجانة على دراية بما يحدث حولهم من الأحداث السياسية، حيث أبدى الحاج محمود عبد العزيز رأيه فى الحكومة الحالية قائلا: “دي حكومة باطلة".
عم محمود ليس مشرعا ورأيه ليس من الضرورى أن يكون صحيحا، بل إن بطلان الحكومة من وجهة نظره يأتى من إهمال أعضائها لأمثاله من ساكنى هذه المناطق، كما أنه يحمل بداخله هموما وأحزانا لا يقدر غيره حملها.
حكايته كما رواها لنا: أنه يمتلك “فاترينة" لبيع الحلويات والسجائر، وعلى الرغم من تواضع بضاعته ومكسبها أيضا، فإن حكومة بلدنا غرمته 1900 جنيه محاضر من شركة الكهرباء، حيث إن أغلب بيوت المنطقة بلا عدادات كهرباء، مما يعد مخالفة للقوانين، لكن كيف يتحمل هؤلاء المطحونون بيروقراطية وتعسف القوانين العقيمة الظالمة، وهذا ما دعا عم محمود أن يختتم كلامه قائلا: “هو أنا بكسب كام يعنى علشان يدفعونى المبلغ ده فى أسبوع، مش حرام عليهم.
تحت الموت
فى أثناء حديثنا، دخلت علينا سيدة فى الخمسينيات من عمرها، ملامحها هى نفس ملامح أى أم ريفية، ترتدى الجلباب الفلاحى، وألقت السلام ثم جلست، وبعد أن جلست طلبنا التعرف عليها، فقالت: “ أنا اسمى الحاجة ليلة، وعايشه هنا بقالى حوالى 35 سنة".
الحاجة ليلى تتسم بالهدوء وتشعر من طريقتها فى الكلام، أن بداخلها صراعاً دائماً بين الرضا بالحال والتمرد على “العيشة واللى عايشينها"، ثم لخصت الحاجة ليلى حال أهل المنطقة فى جملة صغيرة تحمل معانى كبيرة حيث قالت: “إحنا تحت الموت"، فهذا هو شعورها الدائم وهى قابعة ليل ونهار تحت أسلاك الضغط العالى.
ثم أقسمت بالله أن أحد الجيران توفى منذ عدة أيام بسبب الضغط العالى، بعد أن أصيب بمرض فى المخ، وأجرى عملية جراحية، لكن لم يكتب له الشفاء ومات.
رفعت الحاجة ليلى يديها الاثنتين وحركتهما بطريقة مرتعشة وقالت: “ إحنا بنتكهرب لما نيجى ننشر الهدوم، وكمان بنخاف ننام لأن الأسلاك ممكن تنزل علينا وتموتنا فى أى وقت، إحنا عايشين مرضانين بسبب الضغط العالى وربنا يتولانا برحمته.
سألناها: ألم يعرض عليكم أحد الانتقال إلى منطقة أخرى؟
ضربت كفا بكف وقالت: “نروح فين، أنا عندى 5 عيال، ولو سكنونا فى شقة من الشقق بتاعتهم الأوضة وصالة مش هتكفينا، ثم حكت لنا: أنها تعمل فى رعى الأغنام، حيث تأخذ الأغنام من التاجر، وتسرح بها مقابل 20 جنيها للرأس الواحدة.
وعندما سألناها عن شعورها بالتغيير بعد الثورة، قالت: “أنا مش شايفة أى تغيير، كيلو اللحمة وصل 60 جنيها وميكفيش 4 عيال، حتى بجنيه فول ميكفيش عيل صغير، والحاجة كلها بقت أغلى من الأول الضعف.
ثم تنهدت تنهيدة طويلة وقالت: “هى الثورة عملت لنا إيه، إحنا حتى منزلناش أيام الثورة علشان عارفين إنه ملناش دية، وعارفين إنه مفيش أمل فى تعديل أحوالنا".
رئيس قوى
كان الوحيد الذى يجلس بيننا صامتا، على الرغم من المشادات التى حدثت والتى بسببها انقطع حديثنا أكثر من مرة، وكانت تبدو عليه علامات الهدوء، يجلس بيننا يضع وجهه فى الأرض، لدرجة أنه لفت انتباهنا فسألناه: إنت ساكت ليه؟
قال: عايزيننى أقول إيه؟
قلنا: إيه رأيك فى اللى بيحصل؟
اندهشنا من إجابة عم سيد عثمان المليئة بمعان كثيرة برغم قلة كلماتها، حيث قال: “مش كل واحد عارف ربنا يقدر يصرف شئون دولة".
واستكمل قائلا: فى الوقت الحالى مفيش أى إنسان يقدر يتولى مسئولية مصر، لأن مفيش خبرة، وأشار إلى الوحيد الذى يصلح للمرحلة الحالية هو الدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق، على أن يتولى رئاسة الوزراء مرة أخرى، ويقوم بتشكيل حكومة جديدة ويمنح كل الصلاحيات، لكنه رأى فى الوقت نفسه أنه إذا تولى الجنزورى المسئولية سوف يعمل تحت ضغط لأنه ممكن الإطاحة به فى أى وقت.
شن عم سيد هجوما حادا على ما يحدث الآن فى مصر قال: «المظاهرات اللى بتتعمل كل جمعة دى عاملة زى حادثة المنصة، ومنظمة ومدبرة لصالح أشخاص معينين، ومفيش حد منهم خايف على مصلحة البلد سواء من الحكومة أم من جبهة الإنقاذ، أم بتوع الأحزاب السياسية».
سألناه عن طبيعة فقال: “أنا شغال نجار مسلح، لكن حاليا مافيش شغل وحال البلد واقف، الناس كترت والشغل بقى قليل وأحيانا مش بلاقى حق الأكل".. ومن الآخر “البلد مش هينصلح حالها غير برئيس قوى وحكومة قوية وغير كده مينفعش".
ساد الصمت للحظات، كل منا يضع وجهه فى الأرض هربا من سؤال مفاجئ يداهمنا به مضيفونا باحثين من خلاله على حل لمشكلاتهم، ويكفى شعورنا بالذنب والمرارة تجاههم، لأنهما لايكفيان لأى حلول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.