بعد طول حديث وجدل وأحداث كثيرة فى الفترة الماضية، قد يظن البعض أن التمويل الأجنبي مًجرَم في حد ذاته، ولكننا نؤكد أنه على العكس، فالتمويل يعد أمراً مطلوباً لنهضة المجتمعات وتقدمها، ولكن يفصل بين «التجريم» و«التمويل» خيطُ رفيع يتمثل في عدم إفصاح المنظمات المدنية عن الجهات المانحة للتمويلات، وقيمة تلك المِنح وأوجه صرفها فضلاً عن دخول العديد من الأشخاص هذا المضمار بهدف تحقيق مكاسب شخصية من خلال إنشاء شركات مدنية ومراكز أبحاث غير مُسجلة بوزارة الشئون الاجتماعية وتلقيهم من خلالها مبالغ مالية بالملايين لم تعرف الدولة عنها شيئاً. بل إنه وفي قضية التمويلات الأجنبية المثارة حالياً، والمنظورة أمام القضاء ظهرت على السطح مشكلة أخرى، وهي فروع المنظمات الدولية الشهيرة مثل: «بيت الحرية» و»المعهد الديمقراطي الوطني» و»المعهد الجمهوري الدولي» و»مؤسسة كونراد أديناور» وجميعها كانت تعمل في مصر منذ عدة سنوات بعِلمٍ من وزارة الخارجية المصرية، ومع ذلك فقد رفضت الخارجية ترخيصها وظلت حتى يومنا هذا تعمل بصورة غير مشروعة. بعد ثورة يناير كثفت تلك المنظمات من عملها في مصر، وبلغ حجم الأموال التي أُنفِقت في مجال تدريب الأحزاب السياسية أكثر من 550 مليون دولار، وبلغت المنح المُقدمة لبعض منظمات المجتمع المدني والتي لم يتجاوز عددها ثلاثين منظمة بما يشكل نصفاً في المائة من إجمالي الجمعيات في مصر قد تعدى حجم التمويلات الأجنبية لها مبلغ المليار جنيه في ستة أشهر فقط من عام 2011، وهو أمر لافت للانتباه، بل ويمكن القول إنه يثير الاشتباه وهو ما كان سبباً في تحرُك الوزيرة فايزة أبو النجا، وزيرة التعاون الدولي وتقديمها بلاغاً ضد هذه المنظمات، وبناء عليه تم تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بوزارة العدل وبعدها تم انتداب قضاة تحقيق يتولون هذا الموضوع. ولدينا هنا لمحات من قضية التمويل كان أهمها أن المنظمات الأمريكية الأربع والمنظمة الألمانية، المتهمة فى هذه القضية لم تُمارس أىٌ منها نشاطات حقوق إنسان أو تنمية مجتمع مدنى على وجه الإطلاق، وإنما النشاط الوحيد لها كان فى مجال التدريب السياسي للأحزاب المتنافسة على الحكم فى إطار برنامج الحُكم الرشيد الذى نفذته أمريكا فى باكستان وأفغانستان والسودان حتى تم تقسيمها، والعراق حاليا وبعض دول أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية. كما أنه من الأمور المثيرة للدهشة وتدور حولها استفهامات كثيرة هى أن هذه المنظمات لم تعمل يوماً بترخيصٍ من الحكومة المصرية سواء فى عصر مبارك أم بعد الثورة فى عهد المجلس العسكرى أم حتى الآن فى عهد الرئيس محمد مرسي. ولكن إذا ما كانت الحُجة الوحيدة هى أن مبارك قد رفض ترخيصها، فإن الوزير نبيل العربي، وزير خارجية مصر بعد الثورة، رفض الترخيص لها ومن بعده الوزير محمد العرابي، والسبب الوحيد لذلك، أنه لا تجوز ممارسة نشاط سياسى من منظمات أجنبية على أرض مصر، لإخلال ذلك بمبدأ السيادة وهو المبدأ المتعارف عليه والمُستقر فى القانون الدولى ويُعاقب عليه فى كل دول العالم ومن بينها الولاياتالمتحدة نفسها .. والعقوبة فى القانون الأمريكي 5 سنوات سجناً وعشرة آلاف دولار غرامة لكل منظمة أجنبية تقوم بتدريب أحزاب سياسية. كما أنه فى الولاياتالمتحدةالأمريكية لا يستخدمون فى الأصل عبارة بغير ترخيص لأن النشاط غير ُمرخص به من الأساس!! الأمر المدهش الثانى، أنه وفقا لأقوال المتهمين بالتحقيقات خصوصاً المتهم الأول سام لحود، نجل وزير النقل الأمريكي الحالى فإن أمريكا وبشكل أكثر تحديدا إدارة أوباما فى واشنطن قامت بقطع 185 مليون دولار من ميزانية المعونة الأمريكية المخصصة لمصر للمشروعات القومية والاقتصادية ومنحتها لتلك المنظمات المتهمة لتدريب الأحزاب السياسية الوليدة بعد الثورة فى مصر، ومن بينها «الحرية والعدالة» و»الأصالة» و»النور» و»الفضيلة»!! وهم الأكثر تدريباً فى حملة سميت بحملة «طرق الأبواب» فى المناطق الشعبية لتحسين صورة التيار الدينى!! ليكسب ويحقق الأغلبية فى مقاعد البرلمان. كما أن قضاة التحقيق فى القضية، والذين انتدبهم وزير العدل السابق المستشار محمد عبد العزيز الجندى، أثبتوا بالمستندات أن التدريب كله وبأكمله كان سياسياً. ولم تكن له أى علاقة بالأنشطة الحقوقية وحقوق الإنسان، بل إن هؤلاء المحققين قد استبعدوا من الاتهام منظمات حقوق الإنسان كلها بما فيها المنظمات المصرية والأجنبية وأيضاً قدموا للمحكمة حوالات الصرف والتحويل من الخارج للأموال التى تم صرفها نقدا لأشخاص مجهولين فى مصر قبل الانتخابات، وقدرت تلك المبالغ بنحو 500 مليون جنيه مصرى تم صرفها فى الفترة من يونيو إلى نوفمبر 2011. كما أفاد قضاة التحقيق بقضية التمويلات الأجنبية قد أثبتوا أن هناك تحويلات من دولة قطر قيمتها نصف مليار جنيه للتيار السلفى فى مصر تمت من خلال جمعية من جمعيات المجتمع المدنى، وتم التحويل على مصرف شهير بالمعاملات الإسلامية تم صرفها كلها خلال يومين فى شهر فبراير 2011، بموافقة من الوزير الأسبق على المصيلحى، برغم اعتراض المخابرات العامة والرقابة الإدارية .. كما أن قاضى التحقيق المستشار أشرف العشماوى، قد أحال هذا الملف إلى النائب العام لتقديم المتهمين للمحاكمة ولم نسمع شيئا عن اتخاذ أى إجراء فى هذا الملف حتى الآن منذ عام تقريبا. إضافة إلى أن نشاط الجمعيات التى تتلقى تمويلا من دولة قطر مبنى على تحفيظ قرآن وشراء مصاحف وسجاد للمساجد .. فهل يُعقل أن يتم منح تمويل بمبلغ 500 مليون جنيه لهذا النشاط البسيط؟ علما بأن بعض هذه الجمعيات المصرية هى جمعيات ذات نفع عام وأموالها تعتبر أموالاً عامة، أى أن الموضوع جناية! وتفيد المعلومات التى حصلنا عليها أن جميع المتهمين الأمريكيين وأيضا الأجانب من صربيا وأوكرانيا وألمانيا قد اعترفوا فى التحقيقات بأنهم دخلوا البلاد بتأشيرات سياحية لممارسة نشاط سياسي لتدريب الأحزاب الدينية فى مصر، وكان ذلك بتعليمات من حكوماتهم وربما هذا ما يفسر لماذا سمح المجلس العسكرى بهبوط طائرة حربية أقلتهم جميعاً بعد الإفراج عنهم من الدائرة الخاصة التى شكلها رئيس محكمة اسئناف القاهرة الأسبق?، بعد تنحى الدائرة الأصلية برئاسة «المستشار محمد شكرى» والتى كانت تنظر القضية حيث أعقب هروبهم تنحى قاضى التحقيق «أشرف العشماوى» اعتراضاً على تدخل السياسة فى أعمال القضاء. وقد نوقِش هذا التدخل فى واقعة سابقة أثناء التحقيقات بالبرلمان الذى فاز فيه الإخوان بالأغلبية. ووقتها طلب «سعد الكتاتنى» رئيس المجلس وزير العدل السابق للإدلاء بشهادته بسبب خطاب أرسلته السفيرة الأمريكية «آن باترسون» لقاضيي التحقيق «أشرف العشماوى» و»سامح أبوزيد» تطلب منهما الإفراج فورا عن المتهمين الأمريكيين والسماح لهم بالسفر، وهو ما اعتبره القضاء مخالفة قانونية صريحة لاتفاقية فيينا الدولية التى تحكم العلاقات الدبلوماسية. وعلى إثر ذلك قاما بإرسال خطاب شديد اللهجة لوزير الخارجية المصرى «محمد كامل عمرو» بعد أن طردا مندوب السفارة الذى سلمهما الخطاب وطلبا من الخارجية المصرية اتخاذ موقف على ضوء الخطاب لمنع التدخل الأجنبي فى أعمال القضاء، وللأسف لم تحرك الخارجية ساكناً. أما من يدعون بأن المجلس العسكرى والحكومة المصرية تفاجأ بالقضية التى يُحقق فيها قضاة التحقيق، فقد تم التبيُن بأن هذا الأمر لا أساس له من الصحة على الإطلاق، فهذه القضية بدأت من يونيو 2011، عندما طلب عصام شرف، رئيس الوزراء تشكيل لجنة تقصى حقائق بناء على طلب من الوزيرة فايزة أبوالنجا، فى مخالفات هذه المنظمات الأجنبية بعد موافقة المجلس العسكرى نفسه. وقد شكلت اللجنة من «المستشار عمر الشريف» مساعد وزير العدل للتشريع، الذى لايزال يحتفظ بنفس منصبه حتى الآن وانتهت اللجنة الى إدانة الأمريكان والتيار الدينى والسلفى، على حد تعبير رئيس اللجنة، شخصياً فى تقريره المنظور أمام محكمة الجنايات حالياً، وعندما تم عرض التقرير على كلٍ من رئيس الوزراء وعلى المشير طنطاوى طلبا من وزير العدل انتداب قضاة تحقيق، وكان ذلك فى أكتوبر 2011، أى أن الموضوع كان بعلم وطلب من الحكومة والمجلس العسكرى وليس مفاجأة لأى شخص. وأخيراً فإن أوراق القضية المنظورة الآن تضُم شهادات لمسئولين كبار فى الدولة، وإفادات رسمية فى منتهى الخطورة، ومُستندات مضبوطة بمعرفة النيابة العامة التى فتشت المقرات وكلها تدور حول محور واحد، وهو أن نشاط هذه المنظمات كان جمع معلومات عن المصريين بعد الثورة، وتدريب التيارات ذات المرجعية الدينية على أداء دور سياسي فى المجتمع المصرى من خلال مساعدتهم للنجاح بالبرلمان، ولولا أن القضية لاتزال منظورة، لكنا نشرنا هذه المستندات ونسخاً ضوئية عنها ليتأكد الجميع أن الأمر جلل ومؤسف ومُحزن للغاية!