لم تدم طويلا ردود الأفعال الصادرة بشأن استقالة رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، حيث استمرت لبضع ساعات فقط بدت خلالها قوى الموالاة والمعارضة في حالة ارتياح غير آسفة على رحيل الحكومة. ويبدو أن ميقاتي الذي جاء ليكون رئيس وزراء توافقياً، غرق ما بين المعارضة الداخلية و عُقد الأزمة السورية التي كلفت البلدين كثيرا من الاشتباكات الساخنة و أشدها حالات التوتر الأمني الموجودة، ليتحقق المثل القائل "إذا عطست سوريا أصيب لبنان بالزكام". و ربما لا يدري الكثيرون بحجم التأثيرات الكبرى التي تُحدثها استقالة ميقاتي في ذلك التوقيت حيث يدور الحديث عن مؤامرات تحاك من الخارج، ومخططات تُرسم بدقة وإتقان للإطاحة بهذا البلد وتقويض كيانه وإلغاء تمايزه و إزالة معالمه الحضارية. البعض يتخوف من اندلاع فتنة مذهبية بين السنة والشيعة وهي الخطر الفعلي والداهم في لبنان أو إحداث فوضى إقليمية جديدة تتزامن مع توابع الثورات العربية ويكون من معالمها حروب أهلية واضطرابات وأشكال من التقسيم والتجزئة وبذلك ندخل في مرحلة انتقالية جديدة غير واضحة النتائج و مفتوحة الاحتمالات. وبالنظر إلى التركيبة السياسية للبنان نجد أنها تقسيمة طائفية بالأساس حيث يتنافس فيها العديد من الأحزاب السياسية التي لا تكاد تلعب أدوارا مؤثرة في كثير من الأحيان إذ لم يحصل حزب لبناني منفرد على أكثر من 12,5 % من المقاعد النيابية عدا تيار المستقبل. وهناك أيضا تحالفات محلية و وطنية أكبر مثل قوى 14 آذار التي يقودها تيار المستقبل مدعومة من قبل دول عربية و أعضاء بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهي القوى المعارضة لسوريا والداعية لعزل لبنان عن الصراعات الإقليمية، ويظهر معها في الصورة قوى 8 آذار التي يقودها حزب الله الشيعي مدعومة من قبل النظامين السوري والإيراني. وبذلك تصل مؤشرات ما بعد الاستقالة - التي وصفها البعض بأنها سياسية مذهبية - إلى طريق مسدود، يُمهّد لعدم عقد انتخابات المجالس النيابية التي كان مقررا لها منتصف العام الحالي، وبذلك تتعطل الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس حكومة جديد، ما يعني أن الأزمة ستدخل في نفق مفتوح لا يعلم مداه إلا الله. الأمر الآخر هو تعرض لبنان للفوضى المدمرة غير البنّاءة وعادة ما تكون في عدة أشياء يأتي في مقدمتها تقسيم الدولة و هي فكرة ما زالت مطروحة في أروقة سرية لتقسيم لبنان إلى دولتين أحدهما مسلمة والأخرى مسيحية على غرار تجارب قبرص وكوسوفو والبوسنة ، ثم تأتي بعدها فكرة التوطين و من آلياته شبح تسكين الفلسطينيين في لبنان خصوصاً بعد اتجاه التسوية الإسرائيلية الفلسطينية إلى رفض عودة الفلسطينيين إلى ديارهم. و من آليات الفوضى المدمّرة، إعادة طرح مشاريع تدويل لبنان، إمّا سلمياً عبر الإدارة الدولية التي تشهدها الساحة اللبنانية من لجنة تحقيق باغتيال الرئيس الحريري، إلى لجنة التحقّق من انسحاب الجيش السوري، إلى مراقبة دولية للانتخابات النيابية، و غيرها من الصيغ التي وضعت لبنان تحت مظلة دولية أو انتداب دولي بأسلوب "سلمي"، أما الأخطر فهو ما يطرح من مشاريع عسكرية لتدويل المسألة اللبنانية و إلهائها عن العدو الإسرائيلي القابع على أراضيها غصباً وعدواناً. وهناك تخوفات كبرى من اندلاع حرب أهلية حدد المتابعون لها عدة أسباب يأتي على رأسها حدوث أزمة حكم تؤدّي إلى تعطيل الحياة السياسية، وتوليد فراغ دستوري في المؤسسات الشرعية من رئاسة الجمهورية إلى المجلس النيابي ثم الحكومة.يليها أزمة اجتماعية واقتصادية تهدد بانقسام طبقي حاد نتيجة الفقر والهجرة والتخلّف والبطالة، مما يولّد فوضى اقتصادية تهدّد بثورة شعبية نتيجة الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي. يأتي ذلك في الوقت الذي ربط فيه محللون سياسيون سيناريوهات ما بعد ميقاتي بمجريات الثورة السورية مؤكدين أنها لا تخرج عن ثلاثة بدائل محتملة تتمثل في نجاح الثورة السورية وعندها يتم تشكيل حكومة في لبنان ويرضخ فريق 8 آذار الممثل للأغلبية الحكومية لتسوية سياسية. البديل الآخر هو أن تستمر الأزمة السورية وتطول ليصعب عندها الوصول لاتفاق ويبقى لبنان بلا حكومة و لا انتخابات و يظل منتظرا لجلاء الأوضاع في سوريا ، فيما يأتي أخر البدائل بنظرة تشاؤمية تتوقع انتهاء الأزمة السورية بالتقسيم و عندها يواجه لبنان وضعًا كارثيًا. ويعد من أهم وأخطر النتائج المتوقعة لهذه السيناريوهات المختبئة تحت لواء "الفوضى الخلاّقة" هو خطر الحرب الأهلية الذي يلوح بالأفق، لعدد من العوامل التي حددها خبير بالشأن اللبناني و من بينها أزمة مؤسسات الدولة الرسمية فرغم أن لبنان استطاع مؤخرا تشكيل برلمان وحكومة جديدة، إلا أن ذلك لم يكن سهلا وليس استنادا للآليات الدستورية بالدرجة الأولى، بقدر ما كان نتيجة لصفقات ومشاريع ووعود خلف الكواليس قد تتغير بتغير الظروف والموازين في القوى والمصلحة، وهو ما يهدد بفوضى عارمة يصعب حينها الرجوع إلى مرجع مسئول وواضح. يلي ذلك أزمة اقتصادية طاحنة قد تؤدي إلى ثورة شعبية أو تطاحنات داخلية بين الأكثرية الفقيرة جدا والأقلية الغنية جدا بالإضافة لأزمة الهوية و الموقع، ففي ظل التخبّط و الاستسلام للتدويل يصعب على لبنان تحديد موقفه من القوى الإقليمية والدولية، وهو الأمر الذي قد يدخله في أزمة هوية خاصّة تجاه إسرائيل ، الأمر الذي من شانه أن يحوّل لبنان إلى نموذج تصدّر منه الفوضى والأزمات إلى الدول العربية الأخرى، ويكون مفتاح البداية لها. هكذا تكون العقد مترابطة وحل إحداها يقود إلى حل الأخرى والعكس صحيح فإما تسوية شاملة أو لا تسوية.. ومع هذه التناقضات وما ولدته من حالة عدم الاستقرار يبقى الوضع مهيأ لأي مفاجآت غير سارة وما أكثرها في بلد يعيش على خط العواصف.