نجح ملتقي مجلة «العربي» الثاني عشر الذي اختتم أعماله بالعاصمة الكويتية الأسبوع الماضي تحت عنوان « الجزيرة والخليج العربي، نصف قرن من النهضة الثقافية « في تأكيد مجموعة من الأفكار التي تشير إلى التحولات النوعية التي أصابت ثقافة بلدان منطقة الخليج العربي في السنوات الأخيرة، تلك الأفكار بلورها رئيس تحرير المجلة الدكتور سليمان العسكري، في كلمته والتي عكست بوضوح أهداف الملتقي إذ أكد أنه خلال السنوات الخمس الأخيرة لاحظت المجلة عبر ما تتلقاه من مواد لونا من ألوان النشاط الثقافي الملحوظ في منطقة الجزيرة والخليج العربي، سواء عبر ظهور روايات لافتة لعدد كبير من الكتاب الخليجيين لاقت التفاتا من القراء العرب، وعبرت عن مواهب جديدة من الكتاب الذين عبروا عن العديد من القضايا المسكوت عنها، أو ابتكروا أساليب سردية جديدة، ثم أصبحت هذه الأعمال قادرة على التنافس وتحقيق جوائز عربية وعالمية لفتت انتباه العالم العربي والعالم. وتواكب ذلك مع ظهور أعمال فنية، كشفت أن هناك جيلا جديدا مشغولا بقضايا المنطقة ويعبر عنها بطريقة فنية لافتة للنظر، ولهذه الأسباب سعت مجلة «العربي» كما يعبر العسكري إلى إلقاء الضوء على هذا الإنتاج في مسار ه الزمني من بدايات النهضة وصولا للأجيال الجديدة. ويحسب للملتقي أنه أفسح مساحة كبيرة لمشاركة الأجيال الجديدة سواء المبدعين أو النقاد الشباب إذ غابت عنها ولأول مرة مساهمات النقاد والمفكرين العرب الراسخين، كما يحسب لها الاقتراب من مساحة مسكوت عنها في الأوساط الثقافية وتتعلق بغير لافت للنظر في المكانة التي كانت تحتلها عواصم ثقافية راسخة تعرف بعواصم المركز مثل القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق، فالمتابع للثقافة العربية في ربع القرن الأخير يعرف تأثير العواصم الخليجية سواء كان إيجابيا أو سلبيا إلا أنه تأثير بات من الصعب إنكاره المتمرد الأبدي منيف. ومن ناحية أخرى لفتت الأنظار وبقوة خلال الملتقي الجلسة التي خصت لأعمال الكاتب الراحل عبد الرحمن منيف، الذي ظل ينظر إليه في الخليج العربي باعتباره « الكاتب المتمرد « وهي نظرة جاء الملتقي ليؤكدها، ولكن في سياق الاعتراف بموهبته وليس بوصفه كاتبا منبوذا كما كان يجري تقديمه على الصعيد الرسمي في بلده الأصلي السعودية. ومنيف (1933 2004) يعدّ واحدًا من أهم الروائيين العرب، بعد نجيب محفوظ (1911 2006) واحتفت رواياته منذ روايته الأولى «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973) بالتقاط كل ما يمكن أن يسهم في رصد التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية العربية خلال الربع الأخير من القرن العشرين، مع التركيز الواضح والمباشر على القضايا والإشكالات التي أحاطت بمنطقة الخليج العربي أو ما يعرف باسم «الدول النفطية»، متتبّعا برهافة ما أحدثته الثورة النفطية من تغيّرات جذرية في بنية المجتمع الخليجي بصفة خاصة والعربي بصفة عامة. ونظرا لعلاقة منيف المتوتّرة مع الكثير من الأنظمة العربية آنذاك، فإن أشهر رواياته (خماسية «مدن الملح») تحكي قصة اكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية، وما خلّفه ذلك من تحولات في البنى الاجتماعة والمنظومة القيمية أيضا بالنسبة إلى الكثير من دول منطقة الخليج. وُلِدَ عبدالرحمن منيف، في الأردن من أب سعودي وأم عراقية، ثم انتقل إلى العراق، وأقام بها حتى عام 1952، حيث انخرط في النشاط السياسي، وطُرِد من العراق بعد التوقيع على حلف بغداد عام 1955، ليعيش في القاهرة ويستأنف دراسته فيها، وفي عام 1958، انتقل إلى بلجراد ليحصل على الدكتوراة في اقتصاديات النفط. وفي الفترة من 1962 إلى 1986، يتنقّل منيف ما بين دمشق وبيروت والعراق وفرنسا ليستقر أخيرا في دمشق حتى وفاته عام 2004، وأصدر -حتى وفاته - إحدى عشرة رواية من بينها «الخماسية» و«الثلاثية» إذا اعتبرنا كلا منهما متنًا روائيًا واحدًا. وهي حسب ترتيب الصدور: «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973)، «قصة حب مجوسية» (1974)، «شرق المتوسط» (1975)، ونال أول جائزة للإبداع الروائي قدمتها القاهرة 1998. وخلال الملتقى خصصت اليوم جلسة لتناول أدب منيف حيث أكد الباحث المصري محمد الشحات، في ورقته التي تناولت سردية المنفى في أعمال منيف أن هذه الأعمال صدرت غالبا عن «جماليات المقاومة»، سواء عن طريق توظيف تقنيات الزمن المختلفة أو عن طريق التمرّد على حدود وتقاليد النّوع الأدبي، وقال الشحات إن منيف كتب روايةً هي أقرب إلى روح الملحمة أو النص التاريخي أو التسجيلي أو النص الواقعي، وانطلق من مفهوم «الإبداع بوصفه مقاومةً». من جهته، عرض الباحث الكويتي محمد القشعمي، لسيرة منيف انطلاقا من حياته والحوارات التي أجريت معه، في حين ركز الناقد السوري بندر عبد الحميد، على كتابات منيف في النقد التشكيلي، واختتمت داليا سعودي، بتقديم ورقة تحت عنوان «منيف أنشودة الثائر الأبدي»، وقالت إن منيف هو نموذج للمثقف المقاوم، وإنه انطلق من مفهوم ديمقراطي نفذه شكلا ومضمونا، حيث حفلت أعماله بقيم حقوق الإنسان وأسست لما يمكن تسميته بعلم جمال المقاومة وفضحت ممارسات الاستبداد في عالمنا العربي. وفي سياق الاهتمام برموز التغيير في الثقافة الخليجية أفردت جلسات الملتقي مساحة لإعادة اكتشاف الأدوار التي لعبها فهد العسكر في الثقافة الكويتية, وكذلك دور الشاعر أحمد السقاف وهو دور تأسيسي في الصحافة الخليجية انطلق من وعي عروبي لافت للنظر على نحو ما أوضح الشاعر أشرف أبو اليزيد في ورقته. وانطلاقا من رؤية بشأن تأثير الإبداع الروائي على خلخلة البني التقليدية تحدث الناقد العراقي عبد الله إبراهيم, مؤكدا أنه تغب الطرائق الجديدة في التمثيل السردي عن الرواية العربية في منطقة الخليج وشبه الجزيرة، وإن كانت تأخرت زمنيًا عن نظائرها في بعض البلاد العربية الأخرى، لكنها سرعان ما وجدت لها مكانًا واضحًا في تلك المدوّنة السردية، فوقعت الإفادة منها في الكتابة الروائية. وفحص إبراهيم بعض ضروب التمثيل السردي في نماذج دالّة من الروايات التي ظهرت في تلك المنطقة خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ومنها رواية « ساق الغراب « للكاتب السعودي عبد الله أمقاسم. ورواية «اليهوديّ الحالي» للكاتب اليمني علي المقري» التي اهتمت بموضوع هُويّة يهود اليمن، واعتمدت تمثيلًا سرديًا يحاكي نهج الكتب الإخبارية، ورواية الاعتراف للكاتب الإماراتي علي أبو الريش ورواية « الثوب « للكويتي طالب الرفاعي. أصوات الخليج وقدمت خلال الملتقي مجموعة من الشهادات التي سلطت الضوء على مساهمات عدد من مبدعي دول الخليج العربي في أنواع إبداعية مختلفة إذ قدمت شهادات للعماني محمود الرحبي، والعمانية هدى الحجري، والكاتب اليمني علي المقري، ومن الكاتب الكويتي البارز إسماعيل فهد إسماعيل، الذي خصص له الملتقي جلسة استعرض فيها تجربته العريضة كما قدم ولأول مرة في ملتقى بهذا المستوى الكاتب الكويتي الشاب سعود السنعوسي، صاحب رواية « ساق البامبو « التي ظهرت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذا العام. ضمن ما لمسه الملتقى خلال جلساته الطرات الاجتماعية والتقنية التي لغتها الدراما الخليجدية إذ تحدث النجم السعودي البارز عبد الله السدحان، عن تجربته في مسلسل «طاش ما طاش» وكيف أنها تجربة غيرت من شكل الدراما السعودية وأحدثت تحولات مجتمعية بارزة حين رفعت من سقف تناول المحرمات وأكدت السدحان على الدور الرقابي الذي تلعبه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، لكنه في المقابل أكد أن وعي المشاهد السعودي صار أكثر وعيا وبطريقة تضمن مساندة الفنان السعودي في معركته من أجل التغيير. وقدم الدكتور علي العنزي ورقة بحثت في مسار المسرح في الخليج العربي كاشفا عن توترات الصعود والهبوط في تجاربه في عدة بلدان خليجية متأملا علاقة المسرح بالسياق الاجتماعي. مشيرا إلى أن هذا المسرح يعاني مشكلات أوجزها «غياب النص، تراجع الظاهرة، هيمنة المسرح التجاري، ضعف الدعم والرقابة «. وفي السياق ذاته توقف الناقد عماد النويري، أمام الدراما التليفزيونية في الخليج مؤكدا دور هذه الدراما في إحداث التغير الاجتماعي في منظومة القيم الاجتماعية، الأمر الذي يؤدي إلى تخلف الجانب اللا مادي عن الجانب المادي، وهذه الظاهرة يطلق عليها العالم (أوجبي رن) مصطلح الهوة الثقافية أو التخلف الثقافي. ومن ثم تعمل الجوانب المادية كالبرامج والمسلسلات والأفلام والحوارات والأخبار في القنوات الفضائية على دفع اللا مادية ممثلة في قيم المجتمع نحو التغير.