من يقرأ السطور الأولى لهذا الكتاب ، يدرك أن هناك الكثير والكثير مما تخبئه الأيام، وأن الوقت ما زال مبكرا لكتابة تاريخ ثورة 25 يناير عندما يماط اللثام عن الخفايا والخبايا.. خصوصا عندما يدلى كل بشهادته ممن كانوا فى قلب الأحداث واقتربوا من صناع القرار. فى هذا الكتاب وبين دفتيه يستعرض عبد العظيم حماد، أول رئيس تحرير للأهرام بعد الثورة، والذي جاء بإرادة شباب الصحفيين، كل ما كان شاهدا عليه وسمعه أو تناهى إلى علمه من أناس كانوا فى دائرة السلطة. هذا الكتاب يفسر ضمنا سر تقديم المؤلف استقالته من رئاسة تحرير الأهرام التى تولاها خلال الفترة من 319 2011، وحتى 19 فبراير 2012، بسبب الضغوط التى تعرض لها من العسكر ليرث الدور التقليدى لرئيس الأهرام الذى يجعلها مجرد بوق لمن يحكم ويمسك اللجام. هذا الكتاب يمنح الثوار حقهم ويرد اعتبارهم بعد أن كان البعض يتهمهم بالعمالة والتآمر، وكانت أبواق توفيق عكاشة ومن على شاكلته تهاجم الثوار المطالبين بتنحى المجلس العسكرى الذى تقمص شخصية نظام مبارك، وعمل على تنفيذ سياساته بحذافيرها.. تلك الأبواق التى دعت إلى مظاهرات مدبرة لمساندة المجلس العسكرى، واتهام الثوار المطالبين بعدم ذبح الثورة فى المهد، بأنهم يخربون البلد فى حين أن المجلس العسكرى هو الذى أدى إلى تخريب مصر بممارساته وخطاياه السياسية التى أدت فى نهاية الأمر إلى انحراف الثورة عن مسارها، وإدخال مصر فى حالة من التيه يعلم الله وحده كم تستغرق وكيف ستخرج منها .. وتاهت الثورة كما يقول مؤلف الكتاب الذى اختار هذا الوصف عنوانا لكتابه «الثورة التائهة صراع الخوذة واللحية والميدان». هذا الكتاب يدحض كل المزاعم والمبررات التى التمسها البعض بإدراك ووعى أو بدون وعى لأداء المجلس العسكرى خلال المرحلة الانتقالية، وإن كنت أتفق مع مؤلف الكتاب فى أن المشير طنطاوى على سبيل التحديد يحسب له أنه حافظ على وحدة القوات المسلحة، وإبقاء الخلافات داخل المجلس طى الكتمان، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية دون تدخل مباشر من جانب العسكريين. لكن يبقى أن المجلس لم يناصر الثورة من أجل الثورة. وبالنسبة لى شخصيا فقد أجاب لى الكتاب عن شق من الأسباب التى دفعت المشير طنطاوى، إلى مؤازرة الثورة وليس النظام وهى كراهيته الدفينة لمبارك، بفعل الجفاء الذى طالما تعامل به مبارك مع طنطاوى، ومع كل من تولوا وزارة الدفاع .. فمبارك أبعد المشير أبو غزالة عندما شعر بشعبيته الجارفة فى الشارع .. وهو ما رأيناه فيما بعد مع عمرو موسى، الذى أبعده مبارك إلى الجامعة العربية للسبب نفسه، بالنسبة للمشير طنطاوى يروى المؤلف وقائع عديدة للصلف الذى مارسه مبارك مع المشير منها، عدم مصافحة مبارك للمشير عندما مد الأخير يديه مستقبلا الرئيس لدى عودته من أحد أسفاره، وتعمده إهانته وسط جميع الوزراء الحاضرين .. هذا بالإضافة إلى الحنق الذى أصاب الجيش بسبب أفعال جمال مبارك. ويروى المؤلف قصة نقلها عن لواء فى القوات الجوية أحيل إلى التقاعد بسبب رفضه صفقتين لطائرات من الجابون وروسيا، وذلك لعدم حاجة القوات الجوية المصرية، ولأن الطائرات الروسية كانت قليلة الكفاءة، وطائرات الجابون كانت مجرد خردة، وكانت الصفقتان تخصان رجل أعمال مقرب من جمال مبارك بداية الانشطار .تلكأ المجلس العسكرى فى محاكمة مبارك ..هذا ما لمسناه جميعا وأصابنا الذهول وبدأنا نتساءل هل كان بقاء مبارك فى شرم الشيخ مقدمة لإعادته من جديد؟ .. هل هناك اتفاق خفى بين المشير ومبارك على أن يحمى الأول الأخير أم أن المشير يريد أن يظل شبح المحاكمة بعيدا عن ثوبه هو شخصيا وأعضاء مجلسه بسبب ما أثير عن تورط البعض فى صفقات سلاح..؟ الواضح للجميع أن المجلس العسكرى أبعد مبارك فى منتجع صحى متحججاً بحالته الصحية المتدهورة، ربما يهدأ الثوار أو ينسون الرجل أو يتعاطف معه الشارع فتكون مقدمة للعفو معه ..المؤكد أن تلكؤ المجلس العسكرى لعدم محاكمة كبارك كانت – كما وصفها المؤلف - بداية الانشطار بين المجلس العسكرى وقوى الثورة -فلم يكن فى حسبان المجلس المطالبة بتقديم مبارك للمحاكمة، وكان الأستاذ هيكل أول من نبه إلى أن وجود مبارك فى شرم الشيخ يجعلها مركزا لإدارة الثورة المضادة، وقد قال اللواء مختار الملا عضو المجلس العسكرى للمؤلف « فاتنا أن نعقد اتفاقا مع مبارك على عدم الملاحقة القضائية، ونعلنه للمتظاهرين ليلة 11 فبراير . بل إن أحد الجنرالات قال له إن المجلس العسكرى ندم على بيانه الشهير بعد فض اعتصام 19 مارس 2011 بعبارته الشهيرة « رصيدنا لديكم يسمح « كما ندم على أداء اللواء محسن الفنجرى التحية العسكرية للشهداء أمام كاميرات التليفزيون. وهنا بدأت حلقات الصراع بين المؤلف والمجلس، فقد قام المؤلف كرئيس تحرير للأهرام بنشر حقيقة الحالة المرضية لمبارك، وهى أنه يعانى فقط من أعراض الذبذبة الأذينية التى لا تعد مرضا خطيرا لمن هم فى عمر مبارك، وكان المجلس العسكرى آنذاك قد تحايل على نقل مبارك إلى أحد السجون الرئيسية بنقله إلى المركز الطبى العالمى فى شرم الشيخ بدعوى تدهور حالته الصحية، ولم ينس المجلس العسكرى لهيكل أنه أشعل النار، ولم ينس للأهرام نشرها الحقائق فكانت قضية طيارى الضربة الجوية التى تم اصطيادها للأستاذ .. ثم كانت السلسلة التى نشرها الأستاذ صلاح منتصر، حول أسرار الأيام الأخيرة لمبارك كما سمعها من حسام بدراوى، آخر أمين عام للحزب الوطنى، وعندما كتبت الأهرام فى صدر صفحتها الأولى التنويه عن إعادة نشر تلك الأسرار، ومنها الحوار الذى دار بين طنطاوى ومبارك، حول قتل المتظاهرين فاستشاط المشير غضبا وانتهى الأمر بعدم إعادة النشر. ويكشف المؤلف أن ائتلاف روكسى الذى تشكل ليناصر المجلس العسكرى، والذى انتقل مقره أو انبثق عنه ائتلاف العباسية فى مواجهة قوى الثورة أسسه أحمد محمد سعيد، الابن الأكبر للواء سعيد العطار، مساعد وزير الدفاع وهذه المعلومة تتسق مع ما سمعناه عن قيام بعض المحافظات، وفى مقدمتها محافظة المنوفية بإرسال موظفيها فى أتوبيسات المحافظة للاشتراك فى مظاهرات العباسية المؤيدة للمجلس العسكرى وعندما تحدث المؤلف إلى اللواء إسماعيل عتمان، عن ضرورة إنصات المجلس العسكرى إلى أصوات الشباب فى الميادين قال له: إن الحل فى يد الصحافة بأن تكتب « يا مصريين كل واحد يلم أولاده « هكذا وبمنتهى السطحية والاستهتار كان المجلس العسكرى يطلب من المصريين نسيان ما فعله مبارك بهم، وغضب المشير من نشر شهادة حسام بدراوى، التى كانت تؤكد أن مبارك أمر بقتل المتظاهرين يعنى أن المشير كذب ولم يقل الحقيقة. تكميم الأهرام لقد كان المجلس العسكرى جزءا من نظام مبارك، ولعل أفضل تعليق سمعته عن موقف المجلس العسكرى من الثورة هو أن المجلس لم يحم الثورة لكنه حمى نفسه منها، وهو التعليق الخاص بالكاتب علاء الأسوانى، وهذا يفسر عدم إقدام المجلس العسكرى على محاكمة مبارك، ثم محاولته تكميم الصحافة حتى لا تفتح ملفات الفساد، لذا لم يكن مستغربا أن يقول المشير طنطاوى لمؤلف الكتاب « خذوا ما تريدون من فلوس ولا تهتموا بالتوزيع .. فالأهرام جريدتنا « لقد اعترض العسكر على ما كتبه أسامة غيث، من اتهام للبنك المركزى بضلوعه فى جرائم غسيل أموال، وطالبوا رئيس تحرير الأهرام عبد العظيم حماد، بمنع مقالات أسامة غيث، عن الجهاز المصرفى المصرى والذى رفض ذلك، فكان العقاب من خلال سحب إعلانات بنك مصر من عدد الأهرام قبل طبعه لاستمراره فى نشر مقالات أسامة غيث .. وفى موقف آخر غضب المشير عندما نشر خبر ينفى علاقة المشير بحملة ترشحه للرئاسة، وغضب المشير عندما رفضت الأهرام الامتثال لأوامره الخاصة بعدم نشر أخبار حركة 6 إبريل .. ثم قالها اللواء مختار الملا، صريحة واضحة لمؤلف الكتاب « رئيس التحرير عليه أن يفرض رأيه المنحاز للمجلس العسكرى، فكان رد المؤلف أن رئيس التحرير ليس ملزما إلا بالمهنية. هدية العيد .. رشوى مقنعة ولعل من مفاجآت الكتاب التى أوجهها إلى من كانوا يعترضون على مجرد التفكير فى مناقشة ميزانية الجيش، وهى المفاجأة التى ألجمت رؤساء التحرير الذين كانت تصلهم شيكات فى أعياد 6 أكتوبر كهدية، وهى فى واقع الأمر رشاوى أو مقابل تأدية فروض الطاعة .. ويخبرنا مؤلف الكتاب أنه قد وصله شيك بمبلغ 25 ألف جنيه حاول رده إلى الضابط المكلف بتسليمه إياه دون جدوى، فلم يجد سوى هو والمرحوم لبيب السباعى سوى التبرع به لإحدى الجمعيات الخيرية. ضحايا العبارة وتخاذل العسكرى من النقاط التى تطرق إليها الكتاب، تأكيد تقاعس القوات المسلحة عن إنقاذ ركاب العبارة السلام 97، وكذب ما ورد فى التقرير الحكومى المفبرك عن عدم تلقى إشارات الاستغاثة كما ادعى المشير، وإيضاح أن مبارك استلهم خطة القذافى فى حماية نفسه من أى انقلاب عسكرى، بأن أمر بوضع ذخيرة السلاح المصرى فى مكان والسلاح نفسه فى مكان آخر، والوقود فى مكان ثالث، وحتى يتم الجمع بين الثلاثة لابد من قرار المشير نفسه، فمركز القوات المسلحة تلقى وحده خمس إشارات لأن نظام الإنذار المطبق يعمل به أوتوماتيكيا، وبعد الإشارة الخامسة تم تعطيل جهاز استقبال الإشارات بفعل فاعل، كما أن القوات المسلحة لديها مركز آخر تكلف إنشاؤه بمعونة أمريكية 100 مليون جنيه ولديه 7 لنشات إنقاذ سريعة .. لكن من يجرؤ على إيقاظ المشير ليعطى الأوامر بإجراء عملية إنقاذ .. من كان يجرؤ على ذلك فليمت المصريون ويصبح البحر مقبرة لهم، وتبقى كلمات فاروق جويدة لتنكأ الجرح كالملح: وبخلت يا وطن بقبر يحتوينى فى ترابك، فبخلت يوما بالسكن، واليوم تبخل بالكفن، ماذا أصابك يا وطن