كثيرا ما نستخدم فى حياتنا العملية وأحاديثنا اليومية وفى تعبيراتنا عن مشاعرنا الداخلية كلمتى (إما ..أو) وذلك للترجيح بين مسألتين أو قضيتين أو موقفين، عازفين بذلك التضييق عن رؤية أوسع أفقا تتمثل فى لفظتى (لم لا)؛ تلك التى تفسح للعقل مجالا أوسع للاختيارات وإطلاق الأحكام، ويتراءى لى أن الأيديولوجيات والمذاهب العقدية والتصورات المنغلقة على ذاتها هى الأقرب إلى المنحى الأول فما برحت –على مر التاريخ الإنساني- تؤكد امتلاكها للحقيقة المطلقة والرأى القاطع والحكم الفصل، وقد أطلق الفلاسفة والمتفلسفون على هذا المنحى العديد من الاصطلاحات مثل (الراديكالية والدجماطيقية والفاشية) وذلك لأنها تتبنى النزعة الإطاحية فى أفكارها وآرائها وأحكامها ظنا منها بأنها تقف على مركزية اليقين ودونها شتات على حافة الريبة والشك، وقد بررت هذه الاتجاهات جموحها وجنوحها بحجة منطقية مفادها (إما أن تكون أو لا..ولا ثالث بينهما) وعليه فالشيء الذى يحمل قيمة المثالية يخلو تماما من المادية والشخص الذى يتصف بالإيمان هو أبعد الناس عن الكفر، وقد تولد عن هذا التصور العديد من الثنائيات التى أعيت تفكيرنا (الحق والباطل، الصواب والخطأ، الخير والشر، الحب والبغض، المثالى والمادى، الأصالة والمعاصرة، الحجاب والسفور، الدين والعلم، العقل والنقل، التقليد والتجديد، الإيمان والكفر، الصدق والكذب، الثيوقراطية والعلمانية، الاشتراكية والرأسمالية، المتأسلمين والمدنيين، الخطاب والمشروع، النظر والعمل) واعتقد المتعالمون أن الوجود متوقف على لحظة الاختيار بين أحد أطراف هذه الثنائيات والتعصب لها ومحو الطرف الآخر. وعلى الجانب الثانى نجد فلسفة الممكن والمنطق متعدد القيم؛ الذى يعمد إلى التأليف بين هذه الثنائيات أو الإبقاء عليها فى نسق من حقوق التجاور ونسبية الأحكام القيمية وترسيخ الفلسفة الغيرية التى تؤكد بأن وجود أى فكرة أو نسق أو رأى يستمد قوته من مدى قدرته على التعايش مع المعارض أو المغاير أو المختلف، فالحق المطلق المعرفى غير موجود على أرض الواقع النسبى المتغير؛ وعليه فإن فى كل حق نسبة من الباطل، وأن العلاقة بين (1-0) لا تساوى بالضرورة قيمة الوجود والعدم، فهناك قيم عديدة غير ظاهرة كامنة فىما تحت الصفر وما بعد الصفر إلى الواحد، وعليه فالصواب رأى يستند إلى حجج وبراهين يمكن دحضها فيستحيل بمقتضاها ما حملنا عليه قيمة الصواب إلى قيمة الخطأ، وما نعتقد أنه خير لما يصاحبه من نفع ولذة سرعان ما يؤكد العقل أن ذلك الخير يحمل بين طياته بعضا من الشر فى الأنانية والرغبة. وهكذا يمكننا التثبت من أن فلسفة (لم . لا) هى الآلية الفاعلة التى يجب علينا استخدامها فى مناقشاتنا وتحليلاتنا وأحكامنا على ما يدور من حولنا من وقائع وأحداث ومواقف، وليس أدل على صدق ما ندعيه من قراءة متأنية لتاريخ الأفكار وجغرافيا الفكر وتجارب المجددين وقادة الإصلاح، فمن منا كان يتصور أن غير المتوقع أو ما استبعدناه هو الواقع المعيش، لذا سوف تظل مقولة (هيرقليطس) “إذا لم تتوقع حدوث ما تعتقد أنه مستحيل فلن تصل إلى الحقيقة أبدا" النهج الذى يجب بمقتضاه إعادة قراءتنا للخطابات المطروحة، فمنطق (إما ..أو) لن يمكننا من الوقوف على المغالطات المنطقية وسفسطائية اللغة وفلسفة الملابس وفلسفة الكذب وفلسفة الضحك وفلسفة القيم التى زج بها فى الخطابات الثورية التى تطلقها النخب على اختلاف نوازعها واتجاهاتها، والسؤال المطروح يكمن فى جدلية لماذا نقرأ؟ وكيف نكتب؟ ولماذا نكتب؟ وكيف نقرأ؟. * وكيل كلية الآداب - جامعة بنى سويف