لا يمكن أن تذكر ثورة 25 يناير دون أن يذكر فيها الدور الوطني العظيم للمؤسسة العسكرية المصرية المعروفة دائما بوطنيتها، وانحيازها الدائم للشعب المصري منذ نشأتها وحتى الآن، فالجيش المصري يستحق لقب حامي الثورة المصرية، والعابر بها إلى الدولة المدنية المنشودة، فقد استطاع المجلس العسكري ورجال القوات المسلحة أن يجنبوا البلاد حمامات دماء، برفضهم الانحياز للنظام السابق والضغط عليه حتى تم تسليم أمور البلاد ليعطي الجيش المصري دروسا عديدة لكل جيوش المنطقة. لقد كان للقوات المسلحة خلال فترة حكم النظام السابق العديد من المواقف الوطنية المهمة وأهمها محاولات النظام الالتفاف على إرادة الشعب وتوريث الحكم لجمال مبارك، حيث كانت القوات المسلحة ترفض هذا الأمر بشدة، كما أوقفت الكثير من عمليات الفساد التي كانت تخطط لها الحكومات المتتالية في عهد مبارك ورفضت عبث النظام السابق بقدرات البلاد، ووضعت نصب أعينها هدفا وحيدا أنها لن تخذل في يوم ، من الأيام شعب مصر العظيم الذي أقسمت على حمايته، والدفاع عنه وعن مكتسباته انحازت القوات المسلحة للشعب، واحتضنته كما حدث في ثورة يوليو عندما احتضن الشعب المصري القوات المسلحة ودافع عنها، وهو أكبر دليل أن الجيش المصري في وجدان كل أبناء الوطن، وسيذكر التاريخ الدور الوطني المشرف للجيش في هذه الثورة كما يذكره منذ تأسيسه. نشأة الجيش الجيش المصرى هو أقدم جيش عرفته البشرية وقد كان ذلك بعد توحيد الملك نرمر لمصر حوالى عام 3200ق.م, فقبل ذلك العام كان لكل إقليم من الأقاليم المصرية جيش خاص به يحميه, ولكن بعد حرب التوحيد المصرية أصبح لمصر جيش موحد تحت إمرة ملك مصر, وقد كان الجيش المصرى أقوى جيش في العالم كله ، وبفضله أنشأ المصريون أول إمبراطورية في العالم وهى الإمبراطورية المصرية الممتدة من تركيا شمالاً إلى الصومال جنوباً ومن العراق شرقاً إلى ليبيا غرباً, وقد كان ذلك هو العصر الذهبى للجيش المصرى. كان المصريون هم دائماً العنصر الأساسى في الجيش المصرى ولكن بعد إنشاء الإمبراطورية المصرية دخل في الجيش المصرى، بعض العناصر النوبية والأمازيغية (خاصةً الليبية منها). وقد كان الجيش المصرى يتكون من الجيش البرى (المشاة والعربات التى تجرها الخيول والرماحون وجنود الحراب والأفرع الأخرى) والأسطول الذى كان يحمى سواحل مصر البحرية كلها إضافة إلى نهر النيل. وما زالت بعض الخطط الحربية المصرية القديمة تُدَرَّس في أكاديميات العالم ومصر العسكرية. وقد قدمت العسكرية المصرية القديمة العديد من القواد العظماء، وكان أنبغ هذه العقول العسكرية هو الإمبراطور (تحتمس الثالث) أول إمبراطور في التاريخ وهو الذى أنشأ الإمبراطورية المصرية وفي رصيده العديد من المعارك والحروب, أشهرها معركة مجدو التى مازالت تُدرَّس حتى اليوم. جيش محمد علي بدأ محمد على ببناء أول مدرسة حربية تقوم بإعداد الجنود والضباط على الطراز الحديث عام 1820، بمدينة أسوان وقام بإنشاء العديد من الترسانات لتمويل الجيش بأحدث المعدات كالبنادق والمدافع والبارود، واستعان محمد علي باشا بالقائد الفرنسى الشهير سليمان باشا الفرنساوى الذى أقام في مصر لتأسيس هذا الجيش الذى صار من أقوى جيوش العالم في فترة وجيزة فغزا بلاداً كثيرة فوجه محمد على حملاته إلى جزيرة رودس وإلى بلاد الحجاز لمواجهة الثورة الوهابية بقيادة ابن محمد على (طوسون)وقام بإرسال حملات إلى اليونان لمواجهة الثورات اليونانية، ولكنه فشل بسبب تدخل كل من إنجلترا وفرنسا وروسيا لنجدة اليونانيين فاضطر الأسطول المصرى للانسحاب وترك الأسطول التركى وحيدا فى( نفارين عام 1827)، إن الجيش هو الدعامة الأولى التي شاد عليها محمد علي كيان مصر المستقلة، ولولاه لما تكونت الدولة المصرية ولا تحقق استقلالها، وهو الذي كفل هذا الاستقلال وصانه ستين سنة، فلا غرو أن خصه محمد علي بأعظم قسط من عنايته ومضاء عزيمته، وليس في منشآت محمد علي ما نال عنايته مثل الجيش المصري. ثورة يوليو وبقيام ثورة 23 يوليو 1952، دخلت مصر والمنطقة العربية كلها مرحلة سياسية جديدة تماماً فقد أعلنت الثورة ستة أهداف لها جاء إقامة جيش وطني قوى فى المرتبة الرابعة، حيث أعلنت الثورة أن أولوية البناء فى الدولة للأساس الاجتماعي والاقتصادي والذي سيؤدى فيما بعد لبناء جيش قوى حقيقي، وفى تلك الأثناء كان هناك ضغط على الدول العربية للدخول فى حلف دفاعي للمنطقة ضد الاتحاد السوفيتي، وهو ما رفضته مصر حيث أعلنت وقوفها على الحياد فى الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، وقادت حملة داخل الجامعة العربية لرفض الدخول فى أى أحلاف خارج نطاق الجامعة .. وقد أثمرت هذه الدعوة عن فشل استقطاب الدول العربية لدخول هذا الحلف المقترح والذي لم يدخله سوى العراق فقط وانضمت إليه كل من تركيا وإيران وباكستان تحت اسم حلف بغداد .. فما كان من مصر إلا أن قادت حملة ضد النفوذ والاستعمار بالكامل فى المنطقة العربية داعية إلى جلاء الاستعمار بالكامل عن العالم العربي كله، ولم يجد الغرب أمامه وسيله لإيقاف الثورة المصرية وتحجيمها بعد أن لاقت تأييدا واسعا لدى الرأى العام العربي إلا بالضغط على إسرائيل للقيام بإغارة عسكرية ضد القوات المصرية فى مدينة غزة يوم 28 فبراير عام 1955، وكان لتلك المفاجأة رد فعل عنيف لدى الرأى العام العربي والمصري الذي طالب بالرد الفوري على إسرائيل مما أوقع الزعامة المصرية فى حرج شديد نظرا لضعف القدرات العسكرية المصرية وعدم استعدادها لذلك .. فكان أن اتخذت قرارا بتعديل ترتيب أولويات أهدافها وجعل إنشاء جيش قوى قادر ليس فقط على حماية مصر بل والعالم العربي كله .. هدفاً أوليا ورئيسياً، وبذلك يمكن اعتبار أن تلك الإغارة العسكرية المفاجئة ضد القوات المصرية منعطف بالغ الأهمية بالنسبة للسياسة المصرية خاصة والعربية عامة فيما بعد .. فقد هددت مصر الدول الغربية بأنها إن لم يتم التعاقد معها على شراء احتياجاتها العسكرية فسوف تلجأ إلى المعسكر الشرقي للحصول على متطلبات أمنها، إلا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وبريطانيا رفضت الطلبات المصرية، ولم يكن أمام مصر واحتمالات إغارات إسرائيلية أخرى فى المستقبل واردة مع ضعف القدرات العسكرية وقلة قطع الغيار والذخيرة المطلوبة إلا أن تلجأ إلى الاتحاد السوفيتي فى إبريل عام 1955، عن طريق وزير الخارجية الصيني أثناء مؤتمر (باندونج) بإندونيسيا، وقد جاءت الموافقة المبدئية من الاتحاد السوفيتي فى 21 مايو 1955. ويعتبر توقيع تلك الصفقة حدثا سياسيا بالغ الأهمية فى التاريخ المعاصر ليس لمصر فقط بل أيضا للعالم العربي ودول العالم الثالث، فلأول مرة منذ عشرات السنوات تتحرر دولة من دول العالم الثالث من احتكار الغرب لسوق السلاح ومنعه عنها ولذلك كان رد فعل الغرب عنيفا ضد مصر، حيث أدى فيما بعد إلى سحب عرض تمويل السد العالي ثم تجميد الأرصدة المصرية فى الخارج عقب تأميم قناة السويس فى 26 يوليو 1956، ونهاية بالعدوان الثلاثي المسلح على مصر فى 29 أكتوبر 1956، بواسطة كل من إسرائيل وبريطانيا وفرنسا .. إلا أنه فى نفس الوقت قوبلت الصفقة بالتأييد الساحق والمنقطع النظير من العالم العربي ودول العالم الثالث حيث فتح أمامها الباب فى سوق السلاح لاستكمال قواتها المسلحة وكسر سيطرة الغرب عليها ولذلك شهد العالم فى نهاية حقبة الخمسينيات وبداية الستينيات تهاوى الاستعمار فى كل مكان وخصوصاً فى العالم العربي وإفريقيا وآسيا وحصول كل دولة على استقلالها بالكامل وخروجها من تحت السيطرة والهيمنة الأجنبية، ولعل أخطر ما أحدثته تلك الصفقة وإنهاء احتكار السلاح على الصعيد السياسي المصرى والعربي هي تلك الثقة التي تولدت لدى الشعب المصرى واعتزازه وإيمانه بقدرات قواته المسلحة وهو ما انعكس فى الوقفة البطولية التي وقفها الجيش والشعب ضد قوات العدوان الثلاثي 1956، ثم هذا الإمداد الكبير من المساعدات العسكرية المصرية إلى الثورات والشعوب العربية فى نضالها ضد الاستعمار وحصولها على الاستقلال نكسة 67. تعرضت القوات المسلحة المصرية لنكسة عسكرية في يونيو 67، وذلك بسبب أخطاء سياسية للنخبة الحاكمة في مصر وقتها، والتقديرات غير السليمة للموقف مع إسرائيل، ودفعت القوات المصرية ثمن تلك التقديرات واستطاعت القوات الإسرائيلية أن تحقق نصرا عسكريا، ترتب عليه احتلال سيناء بالكامل وخسائر كبيرة في الأفراد والمعدات. فجاءت حرب أكتوبر المجيدة لتعيد للقوات المسلحة المصرية هيبتها وقدرتها ومنعتها، وتؤكد أنها السد المنيع لكل من يحاول أن يدنس ترابها وقدم الجيش المصري ملحمة عسكرية على أرض سيناء شهد لها العالم بأسره. ومع بداية تنفيذ اتفاقية السلام مع إسرائيل أخذت القوات المصرية على عاتقها عمليات التطوير والتحديث المستمرة لتكون مستعدة لحماية الحدود المصرية، وقامت بالانفتاح على معظم المدارس العسكرية على مستوى العالم من خلال التدريبات المشتركة، مع الدول الكبرى، كما يتم الاستفادة من الخبرة المصرية في حفظ السلام في الدول التي تشهد نزاعات واستطاعت القوات المصرية أن تثبت قدرتها في هذا المجال. كما أسهمت القوات المسلحة خلال تلك الفترة في دعم الاقتصاد القومي المصري من خلال إنشاء مصانع تخدم الحياة المدنية ومساهمتها في إنشاء الطرق والكباري والمشروعات العملاقة الأخرى، والمساهمة في الحماية من الكوارث الطبيعية. ثم جاءت ثورة يناير ليكمل الجيش المصري أنشودته في حب الوطن ليضرب مثلا ويكون قدوة جديدة لجيوش العالم، ويثبت أن الجيش المصري هو فخر لكل أبناء الوطن بمختلف انتماءاتهم.