فى صباح الثالث من شهر أكتوبر، وصلتنى رسالة من صديقتى الحلبية، التى تكاد تكون مراسلة حلب السرّية، تحمل صورة للمقهى السياحى مخرباً وبجواره مقهى جحا مدمّراً بكامله، والذى كنا ندعوه من قبل بمنتدى الشام. حملقت بالصورة غير مصدقة أنها لحلب. المقهى فى الصورة عبارة عن ركام من الحجارة. رفعت سماعة الهاتف على الفور لأتصل بصديق روائى يقيم فى حلب، أعرف أنه ينام فى ساعة متأخرة، ويفيق بعد الظهيرة، ومع أنها كانت الثامنة صباحاً، إلا أننى لم أمنع نفسى من الاتصال به، فأنا أعرف رمزية هذا المكان بالنسبة له: مقهاه التاريخي! جاءنى صوته حزيناً، كان متفائلاً من باب العبثية وإيمانه باللاجدوى، مستعداً لكل احتمالات الموت والخراب، إلا أن هذه المرة، ولأول مرة، لم يكن الأمر بالنسبة له حالة عبث، بل حالة وجود تتخرّب. حاولت رفع معنوياته، مؤكدة له أن المهم هو البشر لا الحجر، فقال لي، وما الإنسان إلا ذاكرته، حين تتخرب الذاكرة، وتُباد، فإن جزءاً من هويتنا يتخرّب. سألته لماذا كان مستيقظاً؟ فقال: اتصل بى البارحة صديقى الشاعر، ولامنى بشدة، أننا يجب أن نخرج ونعيش أجواءنا برغم ما يحصل. اتفقت معه على فنجان قهوة صباحي، وبما أننى أنام متأخراً، فخشيت إن نمت لا ألحق موعدى، ظللت صاحياً، على أن أرتدى ملابسى وأنزل بعد ساعتين أو ثلاث. سمعت صوت الانفجار حتى منزلى، فتحت التليفزيون وقرأت الخبر. قال لى بالحرف: كما لو أن أحد أولادى قد مات! وقبل أن أنهى الاتصال به، قال لى إنه قلق على الصبيان فى المقهى، الذين يعتبرهم بمثابة أولاده، قال: عشرون عاماً ونحن وأصدقائى نلتقى هناك، صبيان المقهى كانوا مراهقين واليوم هم رجال، أشعر وكأننى ربيتهم ورأيتهم يكبرون أمامي، أنا خائف أن يكون أحدهم قد مات بالتفجير، لأنهم يأتون باكراً لترتيب المكان قبل وصول الزبائن. قلت له حسناً، الحمد الله على سلامتك، كان يمكنك أن تكون ميتاً الآن أنت والشاعر. حاولت التخفيف من حزنه، وفشلت. مقهى جحا، ليس مجرد مكان بالنسبة لشباب حلب، بل يكاد يكون عنوانهم الثانى بعد البيت. رثاه الكثير من الأصدقاء الحلبيين، وأولهم الشاعر محمد فؤاد... حين راحت الصور تتالى، استوقفتنى صورة لحلب قبل التفجير جوارها حلب بعد التفجير، وقد كُتبت عليها عبارة : هذه ليست برلين 1945، هذه حلب 2012. انظر ساحة سعد الله الجابرى التى كانت تشكل بمثابة جسر عبور من مبنى البريد القديم، حيث أنزل من السيرفيس حتى الطرف الثاني، صوب أوغاريت. الساحة تُشعرنى وكأننى أمام فيلم من أفلام الحرب، خراب وتدمير يطيحان بمعالم المدينة، ويبنيان مساحة كبيرة من الفراغ فى الذاكرة، فكأن المكان يُقتلع ليحل مكانه اللامكان، تذهب الهوية، ويسكن الفراغ... حلمت لسنواتى الطويلة فى المنفى، أن أذهب إلى حلب، وتكون كل مواعيدى فى مقهى جحا أو المقهى السياحي، حيث كان يمزح الأصدقاء :" المكتب هنا"، حيث عنوانهم الثابت ويكاد يكون محل الإقامة، إن ضيّع أحدهم الآخر، يجده فى المقهى. كلما احتجت للقاء صديق ما، خصوصا الكتّاب، كان يكفينى أن أمرّ فى الشارع الفاصل بين المقهيين، على يمينى مقهى جحا، وعلى اليسار السياحى المفتوح على المدينة. ..ثمة شعور يصعب وصفه، أن تذهب إلى المكان فلا تجده، ثمة خلل ما يخلقه غياب هذا المكان، ثمة احتلال مكاني، إذ يحلّ الخراب محل جمالية المكان. تفقد الكراسى والطاولات رونقها، تفقد قهوة الأصدقاء حميميتها، تفقد الذاكرة هويتها. ينتابنى هلع جديد، لم نعرفه يوماً نحن السوريين، هو هلع طيران المكان، وذهابه إلى البعيد، لتبقى الأرض مكانه فجوة كبيرة وفراغا سرمديا. * روائية سورية _ باريس