من مكتبة أستاذى الذى تأدبت على مبادئه وأخلاقه د. ثروت شفيق عبثت أناملى فى مكتبته القديمة، لأجد كتابا عن الحلاج للبروفيسور لويس ماسينيون، وكان من أشهر المستشرقين الفرنسيين، وأكثرهم حماسة وشغف وغزارة فى الأعمال أيضاً، سافر فى رحلات كثيرة للبحث والمعرفة محملاً بأبعاد روحية خاصة به، لعل رسالة الدكتوراه التى قامت على فكرة البدلية ومذهب الصوفية والتطهر، أكبر مثال لتنوع وإبداع العقل البشرى ممثلة فى هذا المستشرق، ومما أذكره عن ماسينيون هو القبض عليه فى 1908 واتهامه بالجاسوسية من السلطات العثمانية، وعندما كان وحيداً فى زنزانته عاش حالة مثل الرؤى الروحية وكأن جسده سجن يحاكمه أمام حضور إلهى، وهناك حوله أشخاص لا يراهم يصلون من أجله وعندها نطق باللغة العربية وصلى... الحقيقة أن الحديث عن البروفيسور ماسينيون لا يمل منه المهتم بالمعرفة أبداً، ولنا فى موضع آخر قريب - إن شاء الله تعالى - محاولة لسرد قصته الحافلة الغنية، لكن ما ذكرنى به فى سيرة الحلاج هو طلبه من الأب القس العراقى “دهان الموصلي” الذى كان يقيم فى باريس، بأن يقيم قداساً على روح الحلاج فى ذكرى وفاته، وعندما دهش القس من طلبه “وقال كيف أقيم قداساً لروح مسلم وهذه دار عبادة مسيحية”، فأجابه “ إن الحلاج رجل متصوف روحانى وإن فوارق الأديان لا يحسب لها مساحة فى حالته”.... وكلما كان لويس يتردد للصلاة فى الكنيسة كان أيضاً دائم الذكر والترحم على الحلاج.... عاش الحلاج متنقلاً من سجن إلى آخر، حتى استقر به المقام فى سجن “قصر الخليفة”، بعدما عزز صلاته بكل الوزراء وادانوا له بالولاء والحماية أيضاً. ومن عجائب تصاريف الأقدار أن كانت أم المقتدر نفسه ذات الشخصية القوية هى أكبر حام له، ويروى أنه من أسباب حمايتها للحلاج، عندما مرض المقتدر وارتفعت درجة حرارته لثلاثة عشر يوماً، وهنا أشار عليها القشوري باستدعاء الحلاج لما له من بركات وعلو، وكانت هذه السيدة تركية الأصل مثل العامة فى تأثرهم بمظاهر الصلاح والخوارق والبركات، فجاءوا به ورقاه وشفى المقتدر... وهكذا نعم الحلاج بسجن كالسلطان وجذب كل رجال ونساء القصر، وذاع صيته بتفكيره الروحى، وكل عبارات النور والحب الإلهى والتضحية وجمال الحياة بعد الموت، وأخذ الناس يحجون حول القصر يتوسلون له فى الدعاء لهم.. وعلى الجانب الآخر كانت البلاد تعج بالثورات والمؤامراتخصوصا حقد حامد بن العباس الوزير على الحلاج، ومحاولة منه لتشتيت العامة وإلهائهم عن الخسائر الفادحة التى كان سبباً فيها، بفشله فى الحكم وفساده، أوكل غلاماً بمراقبة الحلاج ليوقع به، ودخل ذات يوم هذا الغلام ومعه الطعام، فوجد بيت الحلاج الذى كان مسجوناً به داخل القصر قد امتلأ عن آخره بخيرات كثيرة، فهلع الغلام وذهب إلى الوزير يخبره وهو يرتعد، مما زاد من حقد وكره حامد للحلاج الذى اعتبره تحدياً له، ومحاولة للسيطرة على الجميع، فأخذ يجمع خيوط اتهام ليحكم قبضته ويتخلص نهائياً من سطوة الحلاج، فقبض على بعض من جماعته وأشاع أنه فتش منزل الحلاج، وعثر على كتب له بها أقوال بادعاء الألوهية، ومما زعمه إذا صام الإنسان ثلاثة أيام بلياليها ولم يفطر، وأخذ فى اليوم الرابع ورقات هندباء وأفطر عليها أغناه عن صوم رمضان، وإذا صلى من ليلة واحدة ركعتين من أول الليلة إلى الغداة أغنته عن الصلاة بعد ذلك، وإذا تصدق بجميع ما ملكه فى ذلك اليوم أغناه الله عن الزكاة .. وإذا بنى بيتاً وصام أياماً ثم طاف حوله عرياناً مراراً أغناه الله عن الحج. وبالطبع كل ذلك كان كذباً وتلفيقاً على الحلاج، ولم يكتف بذلك، بل إنه اتهمه فى شرفه بالاعتداء والتحرش بالنساء وأراد أن يتم نسج خيوط المؤامرة جيداً ويضرب الصوفية بعضهم ببعض، فقبض على صديق الحلاج وتلميذه أبو العباس أحمد، ليتآمر معه على إدانة الحلاج، فلما رفض ووبخه بظلمه وقتله للناس أمر بقتله!!... قلوب العاشقين لها عيون ... ترى ما لا يراه الناظرونا وألسنة بأسرار تناجى .... تغيب عن الكرام الكاتبينا وأجنحة تطير بغير ريش .... إلى ملكوت رب العالمينا وترتع فى رياض القدس ... طورا وتشرب من بحار العارفينا فأورثنا الشراب علوم غيب ..... تشف على علوم الأقدمينا شواهدها عليها ناطقات ..... تبطل كل دعوى المدعينا عباد أخلصوا فى السر حتى ... دنوا منه وصاروا واصلينا.