قلوب العاشقين لها عيون/ ترى ما لا يراه الناظرونا وألسنةٌ بأسرار تناجي/ تغيب عن الكرام الكاتبينا وأجنحةٌ تطير بغير ريشٍ/ إلى ملكوت رب العالمينا وترتع في رياض القدس طورًا/ وتشرب من بحار العارفينا فأورثنا الشراب علوم غيبٍ/ تشف على علوم الأقدمينا شواهدها عليها ناطقاتٍ/ تبطل كل دعوى المدعينا عبادٌ أخلصوا في السر حتى/ دنوا منه وصاروا واصلينا بهذه الأبيات الرقيقة عبر الحسين بن منصور الحلاج عن حالة الوجد التي يتمتع بها والكشف الذي يعاينه كصوفي له قدم وباع في الطريق. وقد لا يعرف البعض أن الحلاج كان ملمًا بعلوم الفقه والحديث وله كتب في السنة كما جاء على لسانه حيث قال "اتقوا الله في دمي فإن لي كتبًا في السنة تباع عند الوراقين"، ولم يشفع للحلاج علمه بالشريعة ولا علو شأنه في السلوك ليذهب ضحية الاستقطاب السياسي بين العباسيين وذرية على بن أبي طالب الذين كان يشايعهم ويدعو لهم، ويرى كونهم أحق بالخلافة فجاء مقتله لأسباب سياسية محضة أخذت غلافًا دينيًا، حيث كانت التهمة المعلنة والتي صلب من أجلها وقطعت أطرافه واجتز رأسه ثم أحرقت جثته هي التجديف والإلحاد وزعم الألوهية. وفي هذا الإطار سجلت على الحلاج بعض المقولات التي لا يتلاءم ظاهرها مع الشريعة مثل قوله "ما في الجبة إلا الله" والتي يفسرها الصوفية بأنه لم يعد يرى ذاته بل لم يعد يرى أي شيء في الوجود عدا الله فقد وصل إلى مقام الفناء كما أنه وصل إلى مقام السكر فصار لا يشعر بما يقول وقد تخرج منه بين الفينة والأخرى عبارات يوحي ظاهرها بالخروج عن الدين ومثل هذا لا يؤاخذ بما يقول طبقًا للحديث "رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يفيق وعن المجنون حتى يعقل وعن الصبي حتى يحتلم". وقد ظل الحلاج ملعونًا من جماعة الفقهاء متهمًا بالزندقة والقول بالحلول ورآه بعضهم ساحرًا ضليعًا في الشعوذة حتى جاء الإمام الغزالي فحقق مصالحة تاريخية بين الفقه والتصوف أو بين الشريعة والحقيقة ودافع عن الحلاج وحمل عباراته على محمل حسن وقام بتأويلها لتتفق مع الشرع. ولا يزال الصوفية يعاينون أمورًا وأحوالًا ولا يفصحون عنها لأن من لا يفهمها قد يعدها كفرًا ومروقًا عن الدين وفي هذا يقول الصوفي محمد الحافظ التجاني: ولو بحنا بسر الذات جهرًا.. لخالونا مجوسًا أو نصارى بل ينسب إلى الإمام على بن الحسين أنه قال: إني لأكتم من علمي جواهره.. كي لا يراه أخو جهلٍ فيفتتنا وقد تقدم في هذا أبو حسنٍ.. إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا فرُب جوهر علمٍ لو أبوح به.. لقيل أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجالٌ مؤمنون دمي.. يرون أقبح ما يأتونه حسنا وبخلاف التصوف ترك لنا الحلاج ذخيرة أدبية جليلة جديرة بالتوقف عندها وتأملها وقد أفاض النقاد في التعليق عليها وتحليلها أدبيًا ونحن نورد بعضها ليتأملها القارئ ويرى ما فيها من الرشاقة والجمال ورقة الإحساس، انظر إليه مثلًا عندما يقول: يا نسيم الروح قولي للرشا .. لم يزدني الورد إلا عطشا لي حبيبٌ حبه وسط الحشا .. أن يشأ يمشي على خدي مشى روحه روحي وروحي روحه .. أن يشأ شئت وأن شئت يشآ أو حين يقول: يا بديع الدل والغنجِ.. لك سلطانٌ على المهجِ إن بيتًا أنت ساكنه.. غير محتاجٍ إلى سُرَج وجهك المأمول حجتنا. حين تأتي الناس بالحججِ ونختم بهذه القصيدة التي تعد من أجمل ما قال الحلاج: والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت.. إلا وحبّك مقرون بأنفاسي ولا خلوتُ إلى قوم أحدثهم.. إلا وأنت حديثي بين جلاسي ولا ذكرتك محزونًا ولا فَرِحا.. إلا وأنت بقلبي بين وسواسي ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ.. إلا رَأَيْتُ خيالًا منك في الكاس ولو قدرتُ على الإتيان جئتُكم.. سعيًا على الوجه أو مشيًا على الراسِ