تكمن أهمية رسالة عبد الله أوجلان فى حل القضية الكردية فى تركيا فى محاولة للوصول إلى حل بالطرق الناعمة بعيداً عن العنف، فى الوقت الذى وصل فيه العنف فى شمال كردستان وفى مدينة عفرين فى روج آفا إلى مستوى لم يشهده الكرد طيلة العقود الماضية، فأوجلان يدرك أبعاد المرحلة التى تمر بها منطقة الشرق الأوسط ومتطلباتها وانعكاساتها على تركيا فى المستقبل. لذا نجد أن الرسالة تحمل بين طياتها رغبة فى الوصول إلى سلام مستدام بين الكرد وتركيا لدرء انعكاسات وقوع حرب على تركيا بين القوى المتصارعة فى الشرق الأوسط يكون الكرد طرفاً فيها، ولعدم الانزلاق إلى وضع خطير تتضرر منه تركيا والكرد، ولسد الطريق أمام ذلك لابد من الوصول إلى حل الخلافات والمشكلات القائمة بالحوار والسبل السلمية، ويمكن القول إنه من أحد أبعاد هذه الرسالة إغلاق الطرق التى من شأنها أن تسوق تركيا وشعوبها والكرد نحو العنف ونبذه. كما تعلمون أن عبد الله أوجلان هو قائد حزب العمال الكردستانى الذى يناضل من أجل حقوق الشعب الكردى فى شمال كردستان فى تركيا، وفى نفس الوقت ملهم الشعب الكردى فى أجزاء كردستان الأربعة وضمنها روجافا كردستان فى سوريا، ولهذا رأى أن من واجبه المساهمة فى إيجاد حل سلمى للقضية الكردية فى سوريا أيضاً حقناً للدماء، فحثت الرسالة قوات سوريا الديمقراطية على عدم الاعتماد على الحل العسكري، وفقاً لمبدأ قبول الآخر أساسا، والمسائل السياسية هى من مهام مجلس سوريا الديمقراطية. أى أن هذه الرسالة تعتبر مقترحاً لهذا المجلس بأن يصعد من نضاله السياسى فى سبيل المشاركة فى لجنة صياغة دستور جديد لسوريا، وبالتالى تضمين الحقوق المشروعة للكرد وبقية مكونات مناطق شمال وشرق سوريا فى الدستور السورى الجديد، كما أن الرسالة كانت موجهة وبشكل غير مباشر إلى القوى الأخرى الموجودة فى سوريا أيضاً من أجل الحفاظ على وحدة الأراضى السورية، ورأى بأن المشروع الديمقراطى فى شمال وشرق سوريا يعزز من التلاحم الوطنى وليس تقسيما ولا انفصالاً عن سوريا. جاءت الرسالة فى توقيت تتجه فيها تركيا إلى حالة اختناق وانسداد بسبب المشاكل التى تعيشها داخلياً وخارجياً نتيجةً لسياسات أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، حيث بدأت تظهر ملامح انشقاقات داخل هذا الحزب من جهة، وبروز معارضة قوية لسياسية أردوغان وحزبه وهذا ما تبين فى انتخابات البلديات التى جرت فى مارس المنصرم التى أدت إلى خسارة أردوغان لبلديتى أنقرةوإسطنبول من جهة أخرى، وهذا يعنى خسارة الثقل السياسى والاقتصادى لحزبه، وأن نظام أردوغان مهدد بالانهيار وهذا ما اضطر بأردوغان إلى السماح بقيام محامى أوجلان بزيارته بعد منع لقاء موكليه بزيارته منذ 2011 وبالتالى محاولة كسب أصوات الكرد فى انتخابات بلدية إسطنبول بعد إلغائها، لأن تركيا تدرك تماماً مدى تأثير أوجلان على الشعب الكردى فى عموم تركيا وأن الأصوات الكردية هى التى ستحدد وستحسم نتيجة الانتخابات فى إسطنبول، ويضاف إلى ذلك ضغوطات الأزمة الاقتصادية التى تعصف بالبلاد. وخارجياً بسبب دعم الإرهاب ومعاداة دول الشرق الأوسط والتدخل فى سيادة هذه الدول، والتقارب من روسيا، مجمل هذه الأمور أثر بشكل كبير على تركيا،وبالمقابل أراد أوجلان الاستفادة من هذه الظروف للدعوة مجدداً إلى الحل السلمي، كفرصة ذهبية لحقن الدماء بين تركيا والشعب الكردى المطالب بحقوقه المشروعة، واعتبر هذه رسالة بمثابة حبل نجاة لتركيا وبقية بلدان الشرق الأوسط. وقد أشار قائد قوات سوريا الديمقراطية فى بداية هذا الشهر فى ملتقى العشائر السورية إلى وجود مفاوضات غير مباشرة بين قواته وتركيا برعاية أمريكية، لكن مدى نجاح هذه الرعاية مرتبط بالمرونة التى تبديها تركيا للقبول بالإرادة الكردية والشعب الكردى ومشروعهم الديمقراطي، والانسحاب من منطقة عفرين المحتلة، وقد تمارس الولاياتالمتحدةالأمريكية ضغوطات على حكومة أردوغان فى وقت تكون المعارضة قوية فى تركيا، للرضوخ وتقديم التنازلات، فجاءت رسالة أوجلان كدعوة إلى التمسك بهذه المفاوضات واعتبارها السبيل الأفضل للحل. وكما تعلمون فالقومية الكردية هى القومية الأكبر فى العالم التى تعيش على أرضها التاريخية، ولا تملك دولة تحفظ لها حقوقها المشروعة، ولكن يرى عبدالله أوجلان أن الدول القومية لا تستطيع أن تأتى بحلول ناجعة للأزمات التى تعصف بالمنطقة، بل على العكس تماماً تشكل هذه الدول أرضية خصبة لنشوب صراعات داخلية بسبب اضطهاد بقية القوميات أو الطوائف أو الأديان، وبالنتيجة تدخّل القوى المستفيدة من هذه الأزمات. فيطرح بديلاً أفضل للكرد وكامل شعوب الشرق الأوسط، وهو مشروع الأمة الديمقراطية الذى يتقبل كل القوميات والأديان ويعتمد مبدأ التعايش المشترك وأخوّة الشعوب، ورأى كرد سوريا أن هذا الطرح يناسب روجافا كردستان، ويحافظ على قوتها وأمنها واستقرارها، وهذا ما شجع بقية المكونات من العرب والسريان والتركمان والجركس والأرمن الإلتفاف حول هذا المشروع بعد أن شهدوا بأم أعينهم ما يحصل فى بقية المناطق السورية نتيجة إنكار الآخر، ورأوا بأن الأمة الديمقراطية هى التى تكفل الحقوق القومية والدينية لجميع المكونات فى المنطقة دون تقسيم أو انفصال. الاستفتاء الذى جرى فى جنوب كردستان عام 2017 على الاستقلال عن العراق، والذى انتهى بالفشل، أثبت أحقية وصوابية نظرية الأمة الديمقراطية التى قدمها أوجلان كأطروحة وبديل لنموذج الدولة القومية السائدة، والتى أثبتت بأنها منبع المشاكل وخلق النعرات والعداوات والأزمات التى تعيشها دول الشرق الأوسط داخلياً وخارجيا هى خير دليل على ذلك، لكن فى هذا الصدد وبغض النظر عن نظرية الأمة الديمقراطية، فإن الظروف والواقع المتأزم والتوازنات الدولية لا تسمح للكرد بإنشاء دولة قومية وأيضاً التكالب الإقليمى على الكرد من الدول الأربع المحتلة لكردستان التى تستفيد من جغرافية كردستان الغنية بالثروات والموارد الطبيعية. وبعد الإعلان الأمريكى عن الانسحاب من سوريا ارتسمت ملامح تقارب بين نظام بشار الأسد وتركيا، وحدثت اجتماعات فى شمال مدينة اللاذقية وفى تركيا، وأيضا محاولات روسيا عبر إحياء اتفاقية أضنة لتقريب وجهات النظر بين النظام وتركيا وإيران التى تدعم هذه الخطوة للحفاظ على مصالحها الاقتصادية ضد العقوبات الأمريكية، لكن الخلافات والتناقضات بينهم كثيرة، وقد يحدث تقارب وتفاهم تكتيكيا ليس أكثر. وقد يؤثر هكذا تفاهم سلباً على الكرد بشكل كبير، لأن الدول الموجودة فيها كردستان كانت تختلف فى كل شيء إلا أنها تتحد فى محاربة القضية الكردية، وقد يتكرر هذه الأمر فى هذه المرحلة المصيرية، وهم ليسوا بحال أفضل من السابق فى ظل هذا التعاطى الدولى اللا مسئول مع الكرد فى سورياوالعراق وإيران وتركيا.