ارتفاع أسعار الذهب اليوم الخميس 13 نوفمبر في بداية تعاملات البورصة العالمية    "عقبة رئيسية" تؤخر حسم مصير مقاتلي حماس المحتجزين في أنفاق رفح    ترامب: الشعب الأمريكي لن ينسى ما فعله الديمقراطيون    صدام وشيك بين الأهلي واتحاد الكرة بسبب عقوبات مباراة السوبر    السيطرة على حريق شقة سكنية في فيصل    مهرجان القاهرة السينمائي يتوهج بروح الإنسان المصري ويؤكد ريادة مصر الفنية    المهن التمثيلية تصدر بيانا شديد اللهجة بشأن الفنان محمد صبحي    10 صيغ لطلب الرزق وصلاح الأحوال| فيديو    عوض تاج الدين: الاستثمار في الرعاية الصحية أساسي لتطوير الإنسان والاقتصاد المصري    مصمم أزياء حفل افتتاح المتحف المصري الكبير: صُنعت في مصر من الألف للياء    تراجع جديد.. أسعار الفراخ والبيض في أسواق الشرقية الخميس 13-11-2025    صاحب السيارة تنازل.. سعد الصغير يعلن انتهاء أزمة حادث إسماعيل الليثي (فيديو)    مؤتمر حاشد لدعم مرشحي القائمة الوطنية في انتخابات النواب بالقنطرة غرب الإسماعيلية (صور)    مجلس النواب الأمريكي يقر مشروع قانون إنهاء الإغلاق الحكومي ويحوّله للرئيس ترامب للتوقيع    فائدة تصل ل 21.25%.. تفاصيل أعلى شهادات البنك الأهلي المصري    الولايات المتحدة تُنهي سك عملة "السنت" رسميًا بعد أكثر من قرنين من التداول    عباس شراقي: تجارب توربينات سد النهضة غير مكتملة    استخراج الشهادات بالمحافظات.. تسهيلات «التجنيد والتعبئة» تربط أصحاب الهمم بالوطن    أمطار تضرب بقوة هذه الأماكن.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    نجم الزمالك السابق: «لو مكان مرتجي هقول ل زيزو عيب».. وأيمن عبدالعزيز يرد: «ميقدرش يعمل كده»    حبس المتهمين بسرقة معدات تصوير من شركة في عابدين    قانون يكرّس الدولة البوليسية .."الإجراءات الجنائية": تقنين القمع باسم العدالة وبدائل شكلية للحبس الاحتياطي    حبس المتهم بقتل زوجته فى المنوفية بسبب خلافات زوجية    مؤتمر المناخ COP30.. العالم يجتمع في قلب «الأمازون» لإنقاذ كوكب الأرض    احسب إجازاتك.. تعرف على موعد العطلات الدينية والرسمية في 2026    من «رأس الحكمة» إلى «علم الروم».. مصر قبلة الاستثمار    القيادة المركزية الأمريكية: نفذنا 22 عملية أمنية ضد "داعش" طوال الشهر الماضي    إعلام: زيلينسكي وأجهزة مكافحة الفساد الأوكرانية على شفا الحرب    التفاف على توصيات الأمم المتحدة .. السيسي يصدّق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    الاحتلال الإسرائيلي يشن سلسلة اقتحامات وعمليات نسف في الضفة الغربية وقطاع غزة    فرصة مميزة للمعلمين 2025.. التقديم الآن علي اعتماد المراكز التدريبية لدى الأكاديمية المهنية    بدء نوة المكنسة بالإسكندرية.. أمطار متوسطة ورعدية تضرب عدة مناطق    قرارات جديدة بشأن مصرع وإصابة 7 في حادث منشأة القناطر    مرور الإسكندرية يواصل حملاته لضبط المخالفات بجميع أنحاء المحافظة    وزير المالية السابق: 2026 سيكون عام شعور المواطن باستقرار الأسعار والانخفاض التدريجي    بتروجت: اتفاق ثلاثي مع الزمالك وحمدان لانتقاله في يناير ولكن.. وحقيقة عرض الأهلي    أبو ريدة: سنخوض مباريات قوية في مارس استعدادا لكأس العالم    الإنتاج الحربي يلتقي أسوان في الجولة ال 12 بدوري المحترفين    انطلاق معسكر فيفا لحكام الدوري الممتاز بمشروع الهدف 15 نوفمبر    فيفي عبده تبارك ل مي عز الدين زواجها.. والأخيرة ترد: «الله يبارك فيكي يا ماما»    وزير الإسكان: بدء التسجيل عبر منصة "مصر العقارية" لطرح 25 ألف وحدة سكنية    المستشار بنداري: أشكر وسائل الإعلام على صدق تغطية انتخابات نواب 2025    يقضي على ذاكرتك.. أهم أضرار استخدام الشاشات لفترات طويلة    عقار تجريبي جديد من نوفارتيس يُظهر فعالية واعدة ضد الملاريا    إذا قالت صدقت.. كيف تتمسك مصر بملفات أمنها القومي وحماية استقرار المنطقة؟.. من سرت والجفرة خط أحمر إلى إفشال محاولات تفكيك السودان وتهجير أهالي غزة .. دور القاهرة حاسم في ضبط التوازنات الإقليمية    حيثيات حبس البلوجر «سوزي الأردنية»: «الحرية لا تعني الانفلات»    محمود فوزي ل"من مصر": قانون الإجراءات الجنائية زوّد بدائل الحبس الاحتياطي    عماد الدين حسين: الإقبال على التصويت كان كبيرًا في دوائر المرشحين البارزين    تعرف على ملاعب يورو 2028 بعد إعلان اللجنة المنظمة رسميا    تأكيد لليوم السابع.. اتحاد الكرة يعلن حرية انتقال اللاعبين الهواة بدون قيود    «يتميز بالانضباط التكتيكي».. نجم الأهلي السابق يتغنى ب طاهر محمد طاهر    النيابة العامة تخصص جزء من رسوم خدماتها الرقمية لصالح مستشفى سرطان الأطفال    قد يؤدي إلى العمى.. أعراض وأسباب التراكوما بعد القضاء على المرض في مصر    مقرمش جدا من بره.. أفضل طريقة لقلي السمك بدون نقطة زيت    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«مقاومة الاستلاب.. استعادة الروح».. قراءة فى «الخطاب النقدى.. التراث والتأويل»

يبحث هذا الكتاب – " الخطاب النقدى ..التراث والتأويل " للدكتورمحمد عبد الباسط عيد والصادر عن مؤسسة الانتشار العربى منذ أشهر قليلة – فى قضيتين رئيسيتين هما – بتبسيط أرجو ألا يكون مخلا – قضية علاقتنا بالتراث عمومًا والتراث النقدى خصوصًا والثانية قضية علاقتنا بحاضر النقد الأدبى الأوروأمريكى، ولاشك أن أزمة هذه العلاقة الأخيرة وحالة التبعية التى يعيشها النقد الأدبى العربى مما يفقده مساهمته الفعالة فى المشهد الأدبى العالمى، دعك من فكرة الهوية الثابتة التى هى فى النهاية فكرة رومانسية حالمة.

فالمحاولات الدائبة - منذ عصر النهضة العربية إلى الآن - لاتسعى لشئ سوى هذه المساهمة التى تؤكد حيوية الثقافة العربية والخروج بها من حالة الاستلاب إلى استعادة الروح التى تمتعت بها – حقيقة – فى مراحل ازدهارها، ولاأريد أن أتجاوز كثيرًا حدود النقد الأدبى – وهو ما حرص عليه الباحث – لكى أقول إن تبعية النقد الأدبى العربى مظهر من مظاهر التبعية العامة، حتى أصبح من الشائع تنسيب مفكرينا – فى مستوى آخر – إلى المدارس الفكرية الغربية: الوجودية والماركسية والوضعية المنطقية، وفى النقد الأدبى نجد مبشرى المنهج التاريخى والنفسى والواقعى- أو الاجتماعى كما يحبذ البعض – والأسلوبى والبنيوى بتنويعاته المختلفة والتفكيكى والثقافى، وهكذا حتى أصبح من الممكن تلخيص الأمر كله فى هذه المعادلة:
"الغرب ينتج والشرق يستهلك"...!

وتزداد الحالة غرابة حين ننسب بعض النقاد العرب إلى نقاد غربيين من حيث الاتباع والمشايعة، ومن أجل الخلاص من هذا كان لابد من طرح علاقتنا بالتراث بوصفه الملاذ الذى تلجأ إليه الذات لتجدد عناصره الحيوية القادرة على تأكيد فعل المساهمة، دون انغلاق – بطبيعة الحال – على هذا التراث، ودون أن تكون هذه العودة مدفوعة بفعل المباهاة التى ترى – وهى رؤية واهمة – أنه لاجديد هناك، فكل ماتوصل إليه الغرب موجود هنا، يمكن تلمسه عند عبد القاهر الجرجانى وحازم القرطاجنى على طريقة "أسلمة العلوم" أو"هذه بضاعتنا ردت إلينا" بثياب غربية لاأكثر فنحن – بهذا الصنيع كما يقول د.عيد – " نظلم تراثنا حين نقرنه بغيره ونطالبه بما ليس فيه، ونظلمه أكثر حين نبحث عن غيره فيه وكأن شرعيته دائما مرتهنة بغيره وكأنه لاوجود له إلا أن يأذن غيره"..! ( الخطاب النقدى ..التراث والتأويل ص9).

والحل الذى يقدمه باحثنا النابه يتجاوز آلية " الوسطية " المريحة التى تأخذ شيئًا من هنا وأشياء من هناك ويسعى إلى " إبداع سبيل منهجى متطور قادر على تقديم قراءة متجددة للتراث، وبهذا يتحدد هدف الكتاب فى شقين:
الأول: موضوعى يتعلق بالبحث عن مرتكزات التأويل ومبادئه كما تصورها العقل النقدى العربى.
والثانى: منهجى يتعلق بالطريقة التى نقرأ بها تراثنا أو بمنجهية هذه القراءة " (ص11)

وهذا النهج هو الذى سوف ينقذنا من آلية الاجترار ويمنحنا القدرة على "الانتقال من حال النقل والاستنساخ المعرفى لنظريات ومناهج جادت بها قرائح الآخرين إلى دائرة الفاعلين القادرين على المساهمة فى ما يطالعونه ويوظفونه دون استلاب ماسخ أو ادعاء زائف".(ص12)

وفى تصورى أن وصف الآخرين يمكن أن ينسحب على نقادنا العرب القدماء، رغم كوننا امتدادًا متطورًا لهم. أريد أن اقول: إن مقولة " الإبداع " – المقابلة للاستلاب – هى التى ينبغى أن تحكم علاقتنا سواء مع التراث أو الوافد، وكما كان يقول توفيق الحكيم – فى سياق آخر – إن القديم جديد بالنسبة لى، لأننى لم أكن أعرفه. الأمر إذن يبدأ من فاعلية الذات وتوظيفها لمنهج التأويل الدائم المبتكر، وعليه فإن الناقد العربى التائق إلى بناء نقد عربى أصيل ومتقدم ومنافس– كما يقول محمد مفتاح – ملزم بأن يقوم بعملية غربلة للمنجزات الأجنبية ولمخلفات التراث العربى إذ بدون عملية الغربلة تلك فإنه يبقى بلاشك أسيرًا للجهتين". ( السابق ص 20)

ينقسم كتابنا – موضع هذه القراءة – إلى تقديم وثلاثة فصول يحمل الفصل الأول عنوان "الخطاب النقدى ..التراث ..التأويل " – وهو عنوان الكتاب – ويحمل الفصل الثانى عنوان "المفهوم ..النسق ..الخطاب قراءة فى أبيات المعانى". ويحمل الثالث عنوان " النص والخطاب ..المفهوم والإجراء قراءة فى " ديوان المعانى ".

وهذا يعنى أن الكتاب يبدأ بمهاد نظرى موسّع فى التقديم والفصل الأول، يطرح فيهما العديد من القضايا الإشكالية التى أشرنا إلى بعضها أعلاه، ود.محمد عبد الباسط عيد محق فى هذه التوسعة النظرية، لأنه يرتاد أرضا غير ممهدة تمامًا ويروم آفاقًا جديدة فى قراءتنا للتراث، ولعل أهم مايستوقفنا فى أطروحاته هو تأكيده ضرورة النظرة الشمولية للتراث، على نحو تتجاوب فيه مجالاته المتنوعة، سواء كانت خالصة للمجال الأدبى أو شاملة للثقافة العربية بصورة عامة، حيث يمتاز "التراث العربى بخاصية التداخل المعرفى بين حقوله المتعددة على تباعدها واختلافها، فلم يكن التراث جزرًا منعزلة تفتقد العلاقات القوية فيما بينها؛ فلا تخلص كتب النحو للنحو وحده، ولا كتب البلاغة للبلاغة وحدها، والأمر نفسه ينسحب على كتب النقد والأصول والتاريخ .."(ص34)

ولماذا نذهب بعيدًا ونحن نعلم أن عبد القاهر الجرجانى الذى نتيه به دائمًا عالم نحوى فى الأساس، وفى هذا يمكننى الإشارة إلى ضرورة بحث تفاسير القرآن لمعرفة مناهج مقاربته، وهو ما يضع أيدينا على كنوز تستطيع رفد النقد الأدبى العربى المعاصر، وبهذالا تغدو القراءة – قراءة التراث – " تنويعًا على المقروء بقدر ماهى إعادة كتابة له ..وأنَّ المسألة فى جوهرها تتعلق بالحاضر ولاتمس الماضى إلا فى حدود كونه عنصرًا من عناصر تشكيل هذا الحاضر". ( حسين مخافى السابق ص 37)

وهو مايعنى أن الماضى والحاضر يمارسان تأثيرهما فى اللحظة الراهنة ويمثلان عناصره المتداخلة، ويبقى الرهان على مايؤكده د.عبد الباسط عيد وهو فعل " التأويل" الذى يمنحه مساحة واسعة للتعريف به، والذى هو معنى بمشكل تفسير النص بشكل عام مركزًا "على طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة وعلاقته بمؤلفه من جهة أخرى ".(ص 36)

والتأويل بهذا يتجاوز انغلاق البنيوية على "النص"، ولايستبعد صاحب النص بدعوى موت المؤلف، وينفتح على النقد الثقافى فى انفتاحه على السياق العام، وفى تصورى أن التأويل – بهذا المعنى الذى يقدمه د. عبد الباسط – قريب من علم النص الذى يتسع ليشمل أطراف العملية الإبداعية كلها.

ولكن ماعلاقة كل هذا ببحث " أبيات المعانى " التى هى موضع قراءة هذا الكتاب ؟
تتبدى هذه العلاقة فى ربط الباحث الذكى بين دائرتين، تتمثل الدائرة الأولى فى المادة التراثية، وبحث المؤسسات القارة والمتغيرة التى ينهض عليها نظر القدماء فى تأليف هذه المادة، بينما تتمثل الثانية فى الرؤية المعاصرة التى تسعى إلى تملك المقروء لحسابها هى ليصبح " التأويل فى الأساس فعلا تواصليا تتلاقى فى رحابه المختلفات والمتباعدات دونما أى إزاحة أو نفى "( ص 41).
وبهذا نصبح أمام "هوية" متحركة لاتتجمد عند لحظة تاريخية سابقة، ولاتنداح فى طوفان العولمة الذى يمسخ سماتها الفارقة. بإيجاز فإن " الهوية " تميز وتفرد لاتجمد وهى " مظلة عامة تشمل السمات المائزة التى شكلتها منظومة القيم والاعتقاد لجماعة ما " ( ص21)

يمكن وصف الفصل الثانى والثالث بالمقاربة التطبيقية والتى تتخذ من " أبيات المعانى " مادة لها والمتزامنة مع إنشاد الشعر وتلقيه والمقصود بأبيات المعاني: "أبيات الشعر المشكلة، أو التى يجد المتلقى صعوبة فى تلقيها " (ص45) ويرجع الباحث هذا إلى " أنها أبيات تتسع فيها دائرة الإشكال بداية من وحداتها النصية الخالصة وانتهاء بالسياق الاجتماعى والتاريخى الحاف بها، ومن ثم فهى فى حاجة إلى من يزيل إشكالها ويصلها بمتلقيها عبر الزمان". وهى أيضا – كما يقول ابن قتيبة معللا اسمها – تلك التى " يسأل عن معانيها ولاتفهم من أول وهلة " (ص45)

وتختلف أبيات المعاني عن شروح الشعر، لأن الثانية – شروح الشعر – "عمل موسّع، قد يستوعب عدّة قصائد لشاعر أو أكثر وقد يشمل ديوانًا كاملا، فى حين أن " أبيات المعانى جزئية ذات طبيعة خاصة وهذا جعلها موضع اجتهاد وأخذ ورد وهذا عمل تأويلى بامتياز ". (ص48) وارتباط "أبيات المعاني" بالسياقين الاجتماعى والتاريخى يضعنا فى قلب نظرية الخطاب الذى يتجاوز المتكلم إلى المتلقى الى الثقافة برمتها فالخطاب – كما يقول باختين – " دراما مكونة من ثلاثة أدوار، إنها ليست ثنائية بل ثلاثية ". (ص54) وهذا يستدعى – كما يقول الباحث – نظرية التناص التى نشأت فى مقابل البنية المغلقة ذات النسق المستقل،لتنفي بذلك – أي نظرية التناص – التصور المثالى الذى نظر إلى النص باستمرار على أنه إبداع متفرد وخلق نقى،كما يستدعى نظرية التلقى التى استهدفت - ضمن مااستهدفت - النظر إلى تاريخ الأدب باعتباره نسقًا.

وفى المبحث الثانى " دوائر التأويل " يتم تناول " معانى الشعر" لأبى سعيد بن هرون الأشناندانى من خلال ثلاث دوائر هى بالترتيب: ( الدال / النص) ( النص / الدال ) و ( النص / النصوص ) ( النصوص / النص) و ( النصوص / الأنساق الثقافية ) ( الأنساق الثقافية / النصوص ).

وبتأمل هذه الدوائر يتضح أن الباحث يبدأ من الوحدة اللغوية الأولى – وهى الكلمة المُشْكلة – وقد بدأ فى الاستشهاد بعديد من النماذج، ليس من المحبذ الوقوف عندها هنا، وصولا إلى النص باعتباره بنية أكبر تنعكس على الدال الأول ويسهم فى استجلاء معناه، ثم – وهذا توسع أكبر – النصوص التى تتجاوب مع النص المفرد، ثم أخيرًا الأنساق الثقافية، التى تمثل السياق المفسر للأبنية السابقة.
وكما هو شأن البدايات دائما جاء هذا الكتاب – كتاب الأشنانداني- خاليًا من التبويب الموضوعى – نسبة إلى الموضوع أو الغرض الشعرى فى حالتنا – فهو لم يجمع أبيات المديح أو الهجاء أو الرثاء أو الغزل مثلا فى أبواب مستقلة، كما خلا هذا الكتاب أيضًا من التبويب التاريخىّ، من الأقدم للأحدث، وقد وردت النصوص دون عزو فى أحيان كثيرة، اللهم إلا على نحو عام فهو تارة ينسبها إلى الجاهليين وتارة أخرى ينسبها إلى المخضرمين والإسلاميين، ومن الممكن اعتبار هذا نوعا من التبويب التاريخى بصورة عامة، غير أنه – ربما بحدس منهجى – يورد أبيات معانيه مثنى مثنى كثيرًا، ومفردة قليلا وثلاث نادرًا، ويرجع الباحث ذلك إلى وجود ترابط دلالى فى البيتين حين يشغل المبتدأ أو فعل الشرط – مثلا – موقعا فى البيت الأول، ويشغل الخبر أو جواب الشرط موقعًا فى البيت الثانى، ولا بأس أن نورد هنا هذا النموذج الذى أورده الباحث :
ولمّا رأت للصبح فى غَسَق الدُّجى ** تَباشيرَ لم تُسْتر بما تُنْبت الأرضُ
رَعَتْ مابقَا من ليله فى نهاره ** تَحنُّ إلى بَعْضٍ ويَذْعُرهَا بَعْضُ
حيث تأتى أداة الشرط " لما " وفعله " رأت " فى صدر البيت الأول، ثم يأتى جواب الشرط "رعت" مع بداية البيت الثانى.

وفى الدائرة الثانية ينفتح النص على غيره من النصوص لتوثيق دلالة معينة، وهو مايتجاوب مع الدائرة الأولى التى تبدأ بالدال، وتستدعى الممارسة فى هذه الدائرة بشكل موسّع كثيرا من النصوص الشعرية وغير الشعرية التى تفاعلت معها " أبيات المعانى " وذلك من باب طريف – كما يصفه الباحث –وهوباب توثيق المعنى والتدليل عليه.

وفى الدائرة الثالثة نكون أقرب إلى النقد الثقافى حين ينفتح النص على العالم الخارجى بقيمه ومعتقداته وحكاياته من النص إلى العالم ومن العالم إلى النص، بتعبيرات الباحث.

وفى المبحث الثالث يتوقف د.عيد أمام كتاب "ابن قتيبة" "المعانى الكبير فى أبيات المعانى" وتطور هذا الكتاب على مستوى التنظيم والتبويب ومستوى منهجية التفسير يرجح أنه لاحق تاريخيا للكتاب الأول، ويعتمد الباحث على الدوائر السابقة مع اختلاف الدائرة الثانية ( النص / السياق ) ( السياق / النص).

ويقصد بالسياق هنا كلية النص: من الجزء إلى الكل أو من البيت إلى النص، وهذا هو المسار الأول. أما المسار الثانى فيكون: من الكل إلى كل أوسع منه، أو من النص إلى النصوص.
وفى المبحث الرابع " تحولات النسق" نتوقف – مع الباحث – أمام كتاب ابن جنى " الفسرالصغير" تفسير "أبيات المعانى فى شعر المتنبى"، ويمتاز ابن جنى فى انفتاحه على التراث الشعرى السابق على المتنبى، كما ينفتح على نص المتنبى كله، ولايحجز نفسه فى بيت المعاني موضع الإشكال، كما يمتاز بأنه مقصور على شعر شاعر محدد، ومنهج ابن جنى يبدأ من النص، ولايفرض عليه مقولات مسبقة وبذلك "يترسخ المعطى اللسانى أداة واختيار المؤول ذوقًا، وقصد صاحب النص على سواه، فيجمع فى لحظة واحدة الذاتى والموضوعى معًا ". (ص 131)
ويعتمد ابن جني على رافدين أساسيين، هما: " قصد المؤلف " و" الاتكاء على رصيد لغوى كبير" فى فهم الأبيات المشكلة، ولا ينظر ابن جنى إلى القافية بوصفها حلية موسيقية زائدة؛ فالقافية لديه " مبتدأ الحركة وعلة الجمع ومناط الدعوة تدعو القافية القوية بعضها بعضا " (ص 137) وهذا كله على خلاف المحدثين الذين أهملوها "لاعتقادهم ببداوة موسيقى القافية ..فحجزوها فى مجرد التكرار". (ص 138)

ولاشك أن هذه الأهمية البالغة التى يمنحها ابن جنى للقافية تعود إلى أن " الشعر القديم كله لايمكن كشف أسراره دون اعتبار كبير لفكرة الإنشاد؛ "فالإنشاد مبدأ أساسى يجب أن تنتبه إليه مقاربتنا الحديثة". (ص139)

وأعتقد أن ذلك يعود – أساسًا – إلى ماتقدم من أنّ ابن جنى يبدأ من النص متلمسا أسراره وطاقاته التعبيرية،ويخطو الشيخ – هكذا يسميه د.عيد – خطوة هائلة حقًا فى حديثه عن العلاقات النصوصية بعد أن احتلت قضية " السرقات " الشعرية مساحة كبيرة فى الدرس النقدى لم تكن تستأهلها، فلانجد عند الشيخ حديثًا عن " سرقات " و" أخذ " و" إغارة " و" سلخ"، لايوجد سابق ولاحق، وإنما تفاعل بين النصوص ونمو للمعانى وتشابكها ورصدما بينها من علاقات، متجاوزًا البيت إلى النص، والنص إلى الخطاب.

وفى الفصل الثالث والأخير نكون إزاء كتاب " ديوان المعانى "لأبى هلال العسكرى الذى يقاربه الباحث عبر حركتين: وضعه فى أفقه الثقافى والتاريخى ووضعه ثانية فى أفقنا المعاصر مستهديا بشيخه مصطفى ناصف، فى تأكيده على حيوية الثقافة الإسلامية،وذلك فى حال قدرتنا على "كشف العناصر التى تمكننا من مواجهة تيارات العصر بطريقة فكرية إيجابية أى إننا فى الحقيقة نحاول باستمرار خلق ثقافة جديدة". (ص161)

إن هذه العلاقة تؤكد أمرين متلازمين: موضوعية النص وذاتية المؤول، الأمر الذى يمكننا من أن نقول: إن التراث يعيش فينا، وليس شيئا منفصلا عنا. فتحقيق التراث – أو تحققه الفاعل – لن يكون – كما يرى محمد عابد الجابرى - بالتقوقع فيه أو بالوقوف عنده.

ويختلف هذا الكتاب – ديوان المعاني- عن كتاب العسكرى شائع الصيت " الصناعتين " فى ابتعاده عن فكرة المعيارية، فهو يقوم على متابعة نمو المعنى، كما أنه يطرح عديد القضايا التى تجدل الألسنى بالتاريخى والاجتماعى بالفنى. وفى إلماعات ذكية يتوقف الباحث أمام علامية العنوان فدالة " الديوان " تشير إلى الإبداع الشعرى، وتشير كذلك إلى التبويب والحفظ عندما نقول " ديوان الجند" مثلا. كما يقدم تفسيرًا لامتداح النقد العربى القديم لقيم السلاسة والوضوح بشيوع الشفاهية بوصفها وسيطًا بين المبدع والمتلقى. والعسكرى – بسبب ابتعاده عن أحكام القيمة – يجمع بين النص الراقي والشعبى المتداول بتعبيراتنا المعاصرة.

على أن أهم مايتوقف الباحث أمامه بإسهاب هو تقاطع هذا الكتاب مع نظرية " التناص"، حيث يظل " أجل ماقدمه هو وعيه اللافت بتركيب النص وتقاطعه مع مختلف الأنساق المزامنة له والسابقة عليه". (ص186)

ويشير الباحث كذلك – وأنا لاأستعرض كل ماجاء به بداهة – إلى حديث العسكرى عن تعالق النصوص، ودلالة ذلك على استواء مفهوم الخطاب فى أذهان علماء العربية فى هذه المرحلة الباكرة.
إن محمد عبد الباسط عيد يضع أيدينا على مجالات تأليفية هامة كان الظن الغالب أنها تخلو من المناهج النقدية، لكنها تحوي مناهج مضمرة تحتاج فحسب إلى قدرة باحثنا على استجلائها... وهذا كله يؤكد أهيمة هذا الكتاب وحاجتنا إليه، وضرورة تقديم أكثر من قراءة له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.