نار عدن وقلعة صيرا: اختلف المؤرخون في معنى اسم "عدن"؛ فمن قائل أنها تعني أرض الإقامة أوالمستقَر ومن قائل أنها مستقاة من اسم جنة الخلد (عدن) التي ذُكرت في القرآن. يقول المؤرخ والفقيه اليمني المعروف، أبو محمد عبد الله الطيب بن أحمد أبو مخرمة (1465م 1540م) المولود في عدن والمقبور فيها، وهو من أصول حضرمية، يقول في كتابه ( تاريخ ثغر عدن ) الذي يتكون من جزئين ويُعدّ من المراجع التاريخية النادرة التي لا يستغنى عنها الباحثون وطلاب العلم أن عدن وأبين ابنا عدنان بن أدَد بن الهميسع بن سلامان الذي يعود نسله إلى النبي إسماعيل ابن النبي إبراهيم عليهما السلام. وقد ساق هذا الرأي عن أبي جعفر محمد بن الطبري وقيل سُميت المدينتان باسميهما والله أعلم، كما أشار أيضاً إلى ما أورده (المازري) في مؤلفه (المعلم بفوائد مسلم) أن مدينة عدن سُميت عدناً من العدون وهو الإقامة. ويضيف أبو مخرمة، أو كما يُعرف، أيضاً، ب (بامخرمة)، أن لعدن نصيب وافر من الذكر في "الآيات والأحاديث والآثار والأشعار وغير ذلك". فأما في الآيات، بحسب المؤلف، في قوله تعالى " وبئرٍ معطلةٍ وقصرٍ مشيدٍ", وهنا يشير المؤلف إلى أن بقايا أمة من ثمود كانت تقيم في عدن. وكذلك في قوله تعالى: "إرم ذات العماد". أما في الحديث الشريف؛ فيقول (بامخرمة) أن الإمام مسلم بن الحجاج روى في صحيحه أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال في حديث شريف له أن ناراً تخرج من قُعْرةِ عدن وهي من أشراط قيام الساعة، حيث تسوق الناس إلى أرض المحشر، وقُعرة عدن تعني أقصى أرض عدن. وقيل أن هذه النار موجودة في عمق بئر في قلعة صيرة. ويفصل المؤرخ بامخرمة قصة البئر في كتابه وقد استقاها من العهد القديم في التوراة أن قابيل بعد أن قتل أخاه هابيل خاف من أبيه، فأمره الرب بالسكن في شرقي عدن؛ "ففر من أرض الهند إلى عدن وأقام هو وأهله بجبل صيرة، وأنه لما استوحش لمفارقة الوطن وغيره تبدى له إبليس ومعه شيء من آلات اللهو كالمزامير ونحوها، فكان يسليه باستعمالها، فهو أول من استعمل ذلك على ما قيل". ويذكر المؤرخ العدني حمزة علي إبراهيم لقمان (1917م 1995م) في كتابه (أساطير من تاريخ اليمن) قائلاً: "نظراً إلى أن عدن كانت تتكون من أخدود هائل، كان بركاناً ثائراً في الأزمنة القديمة، فقد أُلّفت القصص والأساطير حوله.. ومن هذه القصص أن القديس (بار ثلوميو) زار عدن وهو في طريقه إلى الهند، وأنه رأى أهل عدن واقعين تحت سيطرة الجن، يعبدون النار والشيطان، ويقدمون القرابين. وكان الشيطان يسكن بئراً يقال أنها تقع فوق جبل صيرة، ويقال أيضاً إنها في شارع الزعفران. وكان الناس يحصلون على مائهم من هذه البئر، وحين يجتمع الناس حول البئر كان الشيطان يصرخ من بطنها ويقذف باللهب، فيخر الناس سجداً. وغضب القديس وقرر أن يحضر ويشاهد أعمال الشيطان، ولما رأى الشيطان القديس صرخ وقذف باللهب والماء، فوضع القديس عباءته حول وجهه وتقدم وهو يقول "بسم المسيح المنقذ ابتعد أيها الشيطان وليتجمد ماء هذه البئر"، وفي الحال انطفأت النار وفر الشيطان إلى غير عودة، وتجمد ماء البئر. موقع عدن الجغرافي الاستراتيجي، كشبه جزيرة في الزاوية الجنوبية من الجزيرة العربية جعلها موطئ قدم لمختلف الأعراق البشرية من مختلف بقاع العالم، مما أسهم في تشكيل النسيج الاجتماعي الفسيفسائي العدني المتميز. هذا التجانس الكوني جعلها مدينة تحيط بها الكثير من القصص والحكايات والأمثال والحكم الشعبية التي ارتبطت بحياة الناس وكانت وما زالت لها قيمتها الاجتماعية، منذ آلاف السنين. كما تركت تلك الأقوام تراثها الثقافي الملموس المتمثل في المعالم التاريخية والمباني المختلفة؛ ففي عدن صهاريج المياه التاريخية (سنأتي على ذكرها) والحصون العسكرية المنتشرة في قمم جبال عدن المحيطة بها وباب العقبة وجزيرة صيرة، السالفة الذكر، كما تنتشر في مدينة عدن دور العبادة المختلفة، منها الفارسية والبوذية واليهودية والنصرانية والإسلامية الخ.. كما نجد القطع الأثرية واللوحات الفنية والمخطوطات التاريخية المختلفة التي تتحدث عن الأمور العسكرية والقضائية والدينية المحتلفة. وما زالت أرض عدن حبلى بالكثير من الأسرار. ميناء المعلا وقطارها: بدأت مظاهر الانتعاش الاقتصادي في مدينة عدن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد إنشاء مينائي التواهي والمعلا ومن تم إعلانها أول منطقة تجارية حرة في الشرق الأوسط عام 1850م وتأسيس أول غرفة تجارية فيها على مستوى الجزيرة العربية في 26 أغسطس عام 1886م. وقد ساعد ذلك على فتح فروع للشركات والبنوك العالمية، منذ أواسط أربعينيات القرن التاسع عشر حتى منتصف ستينيات القرن العشرين. كما كان لإنشاء ميناء (المعلا) عام 1855م، دور بارز في جعل عدن من أرقى المدن العالمية التي شهدت تطوراً ملموساً في مختلف صعد الحياة، حيث كان ميناءً رئيسياً لنقل البضائع وربط عدن تجارياً بمختلف بلدان العالم، لذلك تم تطويره ببناء وتوسعة أرصفته وإنشاء المخازن الكبيرة فيه. استدعت الضرورة لإنشاء أول محطة قطار في الجزيرة العربية عام 1915م في مدينة المعلا لنقل الركاب والبضائع المختلفة الواصل إلى الميناء وأهمها الفحم الحجري. وبدأ التنفيذ بتشغيله عام 1919م. وكان مكوناً من (10) عربات للركاب، في كل عربة (60) شخصاً، بالإضافة إلى (40) عربة لنقل البضائع. وكان خط سير القطار يصل إلى مدينة (لحج) الزراعية التي تبعد عن عدن حوالي (40) كيلومتر. وفي عام 1929 م توقفت حركة القطار نهائياً، بعد أن تجاوزت مصاريف تشغيله حجم الإيرادات التي تأتي منه. وبعد ذلك تم التخطيط لبناء شارع في المعلا، في مكان سير القطار ومحطات توقفه؛ فتم ردم مساحة من البحر وشُق أطول شارع في الشرق الأوسط في بداية خمسينيات القرن العشرين، يبلغ طوله قرابة (كيلومترين)، لتُبني على ضفتيه مبانٍ حديثة، لاستيعاب عائلات الجنود البريطانيين. وسُمي بالشارع الرئيسي (Main Road) ويفوق عدد بناياته ال (100) بناية وشيدت بشكل هندسي متراص شبيهة بأبنية المدن والعواصم الأوروبية، وصُمِمَت بدقة وتناسق عمراني بديع، حيث نُفِذت بإشراف مهندسين بريطانيين. عدن الصغرى ومصافي الزيت البريطانية : بعد اندلاع ثورة محمد مصدق في إيران وتأميم شركة الزيت الأنجلو إيرانيه، هناك، عام 1952م، قررت حكومة التاج البريطانية، بعد إجراء دراسات مستفيضة، نقل الشركة إلى مدينة عدن. وكان من الضرورة بمكان اختيار المنطقة الملائمة لتنفيذ المشروع الجديد؛ فوقع الاختيار على منطقة (البريقة) وهي شبه جزيرة تبعد عن مدينة عدن حوالي (25) كم براً وتكتنفها الكثير من الأساطير الغريبة والقصص القديمة وقد ذكرها المؤرخ ابن المجاور في كتابه (تاريخ المستبصر). وفيها أيضاً قبور لعدد من أولياء الله الصالحين الذين كانت تقام لهم المزارات وتنظم الكرنفالات للاحتفاء بذكراهم. كانت البريقة، في عهود غابرة، تحت حكم مشيخة (العقارب) الذين كانوا يفرضون ضرائب باهظة على سكانها، مقابل جلب المياه الصالحة للشرب من منطقة بعيدة فيها بئر غائرة في القدم وتُسمى (بئر أحمد). ويعود أصل (العقارب) إلى قبائل يمنية قديمة. تقدم القرويون من أهل البريقة بشكوى إلى السلطات البريطانية في عدن والتي سارعت إلى شراء المنطقة عام 1869م من شيخ العقارب دون أية معارضة منه. ولم تكن تلك الاستجابة السريعة من السلطات البريطانية لشكوى المواطنين رحمة ورأفة بهم من حكم العقارب، وإنما كانت لأهمية المنطقة؛ فمنها يمكن الوصول إلى مضيق (باب المندب) وهذا الذي كان يبحث عنه البريطانيون، منذ إحتلالهم لعدن. أقدمت السلطات البريطانية على توفير خزان لمياه الشرب للسكان، ويقال أن صهريجاً عميقاً، على غرار صهاريج الطويلة التي بناها الغساسنة في عدن القديمة، موجود في أعلى قمة جبلية في البريقة؛ فأقدمت السلطات البريطانية على إصلاحه وإعادة وظيفته كخزان لمياه الأمطار، ليستفيد منه الناس. كما أحدثت السلطات بعض التغييرات في المنطقة، ومنها بناء مركز للشرطة. واستطاع المواطنون جلب المياه بأنفسهم من المناطق القريبة والبعيدة بقواربهم الشراعية. بُدء العمل في تشغيل مصافي الزيت البريطانية في يوليو 1954م بطاقة تكريرية تصل إلى 150 ألف برميل في اليوم من النفط الثقيل القادم من الكويت. وكان إنشاء المصافي (BP) حدثاً تاريخياً في المنطقة العربية، عموماً، وعدن، خصوصاً، ذلك لأن عدن أضحت مركزاً تجارياً وعسكرياً استراتيجياً هاماً لبريطانيا العظمى في الشرق الأوسط. حتى أنها أنشأت حصناً عسكرياً في أعلى قمة من قمم الجبال الثلاثة المشهورة في البريقة وبنت معسكراً حربياً فيها. كما أنها أقدمت على تغيير اسم المنطقة من اسمها القديم البريقة إلى (عدن الصغرى) محاكاة لعدن القديمة التي كبرت مساحتها بضم منطقتي التواهي والمعلا إليها، بعد إنشاء مينائيهما واستحداث الكثير من المنشأت الاقتصادية والتعليمية والخدمية المختلفة. إلا أن الاسم القديم ما زال هو المتداول بين الناس حتى اليوم. قبل إنشاء مصافي الزيت، أفرغت السلطات البريطانية قرية (الحسوة) في البريقة من سكانها الأصليين البسطاء الذين كانوا يتخذون العشش الخشبية المتهالكة سكناً لهم وكانوا يقتاتون على صيد السمك بقواربهم الشراعية البسيطة. وقد طرأ الكثير من التغيرات على مدينة عدن الصغرى وسكانها، مما أدت إلى التوسع الكبير في القرى وعملت على استقرار سكان المناطق النائية في مدينة البريقة، وساعدت على تغيير نمط العيش إلى الأفضل، بعد أن كانوا يعيشون ظروفاً قاسية. وحتى الذين بقوا للعمل كصيادين تطورت وسائل عملهم بتزويد قواربهم بالمحركات التي تعمل بالوقود، لنقل إنتاجهم من الأسماك إلى الأسواق البعيدة وبسهولة. واكب فتح أبواب العمل في المصفاة أمام أبناء عدن وأبناء المناطق المختلفة في ربوع اليمن تطور الوعي السياسي والنقابي في مدينة عدن التي كانت قد شهدت ظهور الصحافة الورقية منذ عشرينيات القرن العشرين والناطقة بالإنجليزية والمترجمة للعربية (الركيكة)، وأيضاً بالأوردية (الهندية)، ليتطور المشهد بإصدار أول صحيفة أسبوعية ناطقة بالعربية الفصحى لصاحبها ورئيس تحريرها ابن عدن، رائد التنوير، محمد علي لقمان(المحامي) عام 1940م تحت اسم (فتاة الجزيرة). زد إلى ذلك فإن عام 1952م كان حمل بشائر النصر ونسائم الأمل من مصر الكنانة، للأمة العربية في الوطن العربي الذي كان يرزح تحت نير الاحتلال الأجنبي.