استيقظت صباح الْيَوْمَ على أصوات الطبل والزمر والغناء ، فانتابتني مشاعر الغبطة والسرور ودب في أوصالي النشاط والحيوية، فانا بطبعي محبة للبهجة، فركضت مسرعة نحو النافذة لأرى العروس كما كنت اظن و أردد معهم أهازيج الاعراس المبهجة من مدح للعروس ووصايا للعريس خاصة في المجتمع الاردني ، الا انني لم اجد شيئا مما ظننت، فقلت في نفسي لعل العرس في الجهة الاخرى من الطريق، و لكن الصوت بدأ يزداد وضوحا شيئا فشيئا وبدأت اركز في كلمات المحتفلين، يا الله انها زفة حجاج عائدين من اداء فريضة الحج. زادت فرحتي، وكيف لا، فمازالت الطقوس الدينية مستمرة و ان الدين مصدر بهجة وفرح وحياة وامل، وليس موت و إرهاب كما يصوره البعض. جلست مع والدتي تحت (العريشة) في الحديقة وكانت سعيدة جدا بزفة الحجاج هي الأخرى، حيث أهاجت بداخلها ذكريات الطفولة عندما كانت في سن الثامنة و بدأت تروي لي قصة الحاجة ياسمين أم حسن السيدة الكبيرة في السن التي تسكن في الحي المجاور لمنزل والدتي وذهبت للحج بعدما ودعت اَهلها وجيرانها بسعادة بالغة وتركت منزلها في عهدة الأهل والجيران كما كان امرا مشاعا في هذا الزمان. حيث كان الأصدقاء والجيران بمثابة الأهل وموضع الأمان والثقة، وقام أهل الحي برعاية بيت السيدة ياسمين حتى تعود ، ولكن عاد الحجيج و أم حسن ما عادت ، وتمر الأيام بطيئة والجيران في انتظار عودتها يوما ، «ولا خبر ولا جفية لا حامض حلو لا شربت» كما تقول الاغنية العراقية الشهيرة. عاد الحجاج جميعهم الا أم حسن، ومن شدة قلق أهل المدينة عليها أصبحوا يتجمهرون كل يوم امام بيتها ينتظرونها ويقيمون الصلوات والدعوات ومعهم اطفالهم واطفال المدينة كلها ومن بينهم والدتي التي ذهبت مع صديقة العائلة وقد كانت طفلة آنذاك تلعب مع الأطفال وتمرح في بستان أم حسن بينما يعيش الكبار في مهرجان يومي بانتظار الحاجة الغائبة. وبعد ايّام ليست قليلة، أُشيع بان الحاجة ياسمين أم حسن على مشارف المدينة، فعم الفرح وضج الخبر واتجهت الأهالي لاستقبال الغائبة التي ظنوا ان مكروها أصابها ولن تعود واستقبلوها بزفة ومزامير وتراتيل حتى وصلوا بيتها فصرخت أم حسن صرخة مدوية وصمت الجميع ! ياريتني ما رجعت من الحج وشفت بيتي خرابة، احباب الله ما قصروا لا خلوا بالبيت زرع ولا شجر الا ما دمروه وهم يلعبوا بانتظار الحجة تعود بالسلامة. قصة جميلة تبين لنا كم كانت الناس تعظم الشعائر الدينية وكيف كان للحج قيمة كبيرة روحية في المجتمع وكيف كان الذهاب والاياب من الحج أمرا ليس بالسهل أو اليسير بين طول المسافة وصعوبة الطريق وترجي السلامة وكيف تغير الحال الان بكل التسهيلات المهيئة للحجيج.
ان طريق الانابة الى الله ليس سهلا كله مشقة وتعب لكن كل هذا التعب يهون من اجل قصد باب رحمة الله وغفرانه وان يعود الحاج بعد وقوفه على جبل عرفات كما ولدته امه طاهرا نقيا من الذنوب والمعاصي ، هنا يفرح المجتمع بالفطرة ويعبرون عن فرحتهم بهذا الطهر والتطهر بما نعيشه من زغاريد واغاني وربما اقامة الولائم، وكأن المجتمع يشارك الحاج طهره وتوبته وانابته الي الله بهذه الأغاني . فالنفس البشرية مجبولة بطبعها على الخير، ولا خير اكثر من قبول توبة تائب عن الذنب وعند العبد، فالحج قبل ان يكون مناسك شاقة وهي ضرورية لانها توبة من القلب الى الخالق وبراء ذمة من النفس والعمل اخلاص لوجه الله الكريم، علي ذلك فان المشاق التي يصادفها الحاج في رحلته وادائه مناسكه وخوف قلبه وجوراحه من الله يمثل في جوهره اعلى الرياضات الروحية التي ترتقي بالنفس البشرية وتربيها علي طاعة الله والخوف منه والتماس الرجاء في غفرانه وقربه وحبه وأيضا عشقه والهيام به، فالله هو المحبوب والمعشوق في قلوب موحدينه. وهذه المعاني قد توجد في قلوب العباد دونما ان يدركوا فنون التعبيرعنها الا بكلمات بسيطة واغاني واهازيج ورموز ومنها الرسوم التي يرسمها الأهل علي بيت الحاج في قرى مصر تخليدا لهذه الذكري حيث يرسمون الكعبة المشرفة والنخيل والجمال وغيرها وكأنهم يوثقون رحلة الحج ويعكسون ما بداخلهم من تقديس لهذه الرحلة الى الله عز وجل. وقد عكست الأفلام القديمة رحلة الحج وظهرت العديد من الأغاني الخالدة لهذه الذكري، لعل من أشهرها أغنية " يا رايحين للنبى الغالى" للفنانة الراحلة ليلى مراد، ضمن أحداث فيلم "ليلى بنت الأكابر" والتي عندما يتم عرضها علي الشاشات فهذا يعني اننا دخلنا موسم الحج الأكبر، خاصة وانها تعكس بالتفصيل مناسك الحج كما في كلماتها: يا رايحين للنبى الغالى.. هنيالكم وعقبالى يا ريتنى كنت وياكم.. وأروح للهدى وأزوره وأبوس من شوقى شباكه.. وقلبى يتملى بنوره أحج وأطوف سبع مرات.. وألبى وأشوف منى وعرفات وأقول ربى كتبها لى.. يا رايحين للنبى الغالى أمانة الفاتحة يا مسافر لمكة.. تأدى فرض الله حترجع والإله غافر ذنوبك.. لما نلت رضاه يا ريتنى معاك في بيت الله.. وأزور وياك حبيب الله هنيالك وعقبالى.. يا رايحين للنبى الغالى كما المطربة اللبنانية نور الهدى هي أول من قدمت أغنية عن الحج في فيلمها "أفراح" عام 1950 "مبروك يا حاج وعقبالنا"، وبعدها عام 1951 غنى محمد الكحلاوى أغنية " الصبر جميل" عن الحج من تلحينه.
مشاق الرحلة كان الاستعداد للحج قديما على ظهور الجمال يبدأ بعد انتهاء عيد الفطر المبارك حيث يجهز الراغبون في الحج قافلة تشمل الإبل ومأكلهم ومشربهم وحتى أكفانهم وكانت الرحلة تستغرق أربعة شهور والطريق كان وعر ومحفوف بالمخاطر وقطاع الطرق، كما تذكر مصادر التاريخ الإسلامي. فقد كان السفر الى مكة لاداء الفريضة "قطعة من العذاب" يمنع المسافر طعامه وشرابه ونومه، كما وصفه بذلك رسول الله صل الله عليه وسلم، من كثرة ما كانت تكتسي رحلة الحج من صعوبات سواء كانت بالبواخر والإبل أو السير على الأقدام. فالرحلة كانت طويلة والسفر شاقا والطريق غير مأمون وكان أهل الحجاج يودعونهم وهم غير واثقين تماماً من عودتهم المخاطر التي كانوا يتعرضون لها خاصة في عهود بداية الفتن في الدولة الاسلامية واختلال الامن بسبب الحروب وتعديات القبائل على الطرق وأعمال النهب والسلب والقتل وقطع الطرق منذ نهاية القرن الثالث الهجري الأمر الذي ادى الى انقطاع الحج لسنوات متصلة. كما الحجاج يواجهون مخاطر الجوع والعطش في سفرهم ويتعرضون لبعض الكوارث الطبيعية ومن ذلك العواصف والبرد القارس والامطار الغزيرة والسيول الجارفة.. ويذكر ابن الجوزي صاحب كتاب "مرآة الزمان " في حوادث سنة 692 ه تعرض قافلة الحجاج الشامية الى رياح عظيمة وبرد ومطر، وهلك الناس، وحملت الريح أمتعتهم وثيابهم، واشتغل كل امرىء بنفسه، وحصلت لهم مشقة عظيمة، وكثيراً ما كانت السيول تداهم قوافل الحج، ففي سنة 1196ه اجتاحت قافلة الحج المصرية أثناء سيرها في الطريق بين مكةوالمدينة سيل أتى على نصف الحجاج المصريين، وكان الحجاج اليمنيون ايضاً يفضلون الحج عن طريق البحر، على الرغم من مخاطره، حتى لا يتعرضوا لمهاجمة العربان وقطاع الطرق البرية." وعلى طرق الحج أقيمت منشآت كثيرة مثل المحطات والمنازل والمرافق الاساسية من برك وآبار وعيون وسدود وخانات( فنادق) ومساجد وأسواق كما اقيمت علي هذه الطرق الأعلام لإرشاد الحجاج إلى الطرق الواجب اتباعها. وكان من يقود الحملة يحسب شهر للذهاب وشهر آخر للإياب وشهر يتم قضاؤه في الأقطار الحجازية المقدسة ويأخذ الحجاج معهم المئونة والماء بكميات بسيطة وخلال رحلة الذهاب وأثناء مرورهم على مدن في بلاد نجد يتزودون بالمياه من الآبار في طريقهم. بينما النساء كن يركبن الهودج وهو عبارة عن مقصورة صغيرة يتم وضعها على ظهر الذلول والظعينة أو المطية وتسمى أيضا الكواجة وتوضع فوق السرج وتكون مغطاة بغطاء مزركش مع وجود شال صوفي أحمر لامع وتستطيع المرأة أن تجلس مع طفلها داخلها بأمان. ويتقدم حملة الحج شخص كانوا يسمونه (دليلة) وهو الذي يدل الحملة ويقودها إلى أماكن التزود بالمياه والزاد كما يحدد المسافات من مدينة إلى أخرى ويعين للحملة أوقات الراحة واستكمال المسير وكان الحجاج من الكويت يزورون المدينةالمنورة أولا ومع اقتراب موسم الحج يذهبون إلى مكة بينما الحجاج من باقي الأقطار العربية يزورون مكة أولا وبعد ذلك يذهبون إلى المدينةالمنورة . أما المسعى بين الصفا والمروى، فكان عبارة عن سوق وليس كما هو الآن وكان الحجاج في سعيهم ذهابا وإيابا يشترون من المحال على جانبي المسعى، توافر ماء زمزم فقط في زقاق البخارية، وكان عبارة عن شارع ضيق بجوار الحرم فيه روس مسلمون يصنعون من مادة تشبه القصدير حافظة للمياه يسمونها زمزمية ويملئونها بماء زمزم ويشتريها الحجاج منهم. ورغم ما كان يتعرض له الحجاج من مصاعب، فإنهم طالما واصلوا على السفر إلى الحج، ولم ينقطعوا عنه تلبية لنداء الله تعالى في محكم كتابه بقوله تعالي: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق | ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير | ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق | ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه..) وفي عصرنا الحديث حتى يسر الله الرحمن الرحيم على خلقه السفر بالوسائل الحديثة من الطائرات، والعبارات البحرية والحافلات والسيارات على أنواعها المختلفة، فتمكن كبار السن والعجزة من أداء المناسك. فما يقدمه القائمون على الحج من رعاية للحجاج و تنظيم منقطع للنظير شمل المأكل و المشرب و الامن و الأمان و توفير كافة المرافق التي يحتاجها الحاج في رحلته و تهيئة الحرم المكي من حيث المكيفات و السجاد و المرافق الصحية و العيادات الطبية وخدمة ضيوف الرحمن حتى اصبح الحج فريضه سهله و ممتعه من الممكن ان تفضى باربعة ايام فقط حتى انه لفت نظري خبر امراة وضعت مولودها اثناء اداء فريضة الحج وسط رعاية الهيئات المشرفةعلى خدمة الحجاج في المملكة العربية السعودية من حكومة و شعب وأمن ولاحظت في وسائل التواصل الاجتماعي الكم الهائل من المتطوعين السعوديين لخدمة بيت الله الحرام و ضيوفه
فرحة ان المجتمع الإسلامي المجبول على الخير والفطرة يفرح برزق الجنة التي سيرزقها الله للحاج بعد قبول حجته كما قال رسول الله صل الله عليه وسلم " الحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ قيل : وما بِرُّهُ ؟ قال : إطعامُ الطَّعامِ وطِيبُ الكلامِ ". ولذلك فقد ارتبطت مظاهر الاحتفال الإسلامي بعودة الحاج بإقامة الولائم يسمونها " ذبيحة للحجاج " أو " فرحة بالحجاج " أو " سلامة الحجاج "، وقد تكون هذه اللحوم من لحوم الأضاحي، أو لحوم ذبائح جديدة. فهنيئا للحجاج وعقبالنا جميعا و لا يسعني في هذه الفرصه الا ان اتذكر اهلي و اخوتي و أصدقائي المسيحيين اتباع يسوع المسيح الذي ولد في فلسطين كم يتوقون للحج في الناصرة و كنيسة المهد وكنيسة القيامة و تمنعهم الجسور و الحدود و المعابر اطعمنا الله و اياهم زيارة هذه الاماكن المقدسة في فلسطين