ومن ميكافيللى كنقطة بدء، أذكركم بنظريته السياسية فى الحكم، أول سبيل وهو الوصول إلى الحكم عن طريق اتخاذ كل وسائل النذالة والوقاحة وحلقات طويلة من الغش والخيانة ويبرر لهم كيف يظلون فى الحكم، بالرغم من ارتكاب جميع الفظائع والجرائم بإطلاق اسم “الطريقة الحسنة” وفيها يستخدم الشر للوصول إلى الحسن. ولا بد أن يتخلى فيها الحاكم عن فضيلته وأخلاقه ويخون أصدقاءه ويتنكر لعهوده ومواثيقه ويتخلى عن الرحمة والدين !! وهناك أسلوب آخر أو “الطريقة السيئة” التى تشمل كل أعمال القسوة مع الوقف تدريجياً حتى لا يفقد الأمير أو الحاكم ميزة التأثير على شعبه ويمنحه على فترات الرحمة لضمان بقائه وبالتالى يدينون له دائماً بالإخلاص والولاء، وطوال نظرية ميكافيللى السياسية يتضح لنا أنه يثبت مفهوم لدى الحاكم بأنه لا بد أن يتعلم طريقة الحيوان !! فعليه أن يقلد الثعلب والأسد معاً. أما كيف كان العقل البريطانى مهيأ لتقبل تلك النظرية والعمل بها فلأنه ببساطة يحمل بداخله الأهداف الاستعمارية غير السوية للسيطرة على العالم والنظرة الاستعلائية التى ولد محملاً بها، ويطل بها على من سواه حتى على حلفائه فصنعت وطوعت ودربت ومولت دولاً وجماعات وأفرادا من الإرهابيين والمتطرفين فى أفغانستان وإيران والعراق وليبيا والبلقان، سوريا، إندونيسيا، ومصر وحتى فى إفريقيا لمصلحتها الخاصة، وكيف تعاملت مع كل الأطراف المتحاربة بنظرية اللا مبدأ على الإطلاق، فنجدها قد استغلت صنيعتها الإخوان المسلمين والشيع الأفغانية.. إلخ. انظر الفكر واختيار الموقع على الخرائط لتدرك مدى الدقة والتأنى فى تنفيذ خططها، لتستخدمها فيما بعد فى نشر الإسلاموفبيا.
تلك كانت المجموعة الأولى. أما المجموعة الثانية من القوى الفاعلة الإسلامية أو المتأسلمة هى الحركات أو المنظمات المتطرفة ومن أخطرها وأكثرها تنظيما ونفوذاً الإخوان المسلمين فى مصر 1928 وتم تطويرها لشبكة عالمية. والجماعة الإسلامية الأخرى فى الهند 1941، والآن تمثل القوة الكبرى فى باكستان وبالرغم من المنهج الدؤوب الذى اتبعته فى تحقيق ذلك، فإنها حافظت بنفس المنهج على نفس المسافة مع السنة والشيعة، وشاركت فى عمليات وحروب سرية بجانب المجموعات الجهادية وارتكبت من خلالهم أفظع الجرائم ضد المدنيين والشعوب، وبدأ التواطؤ سراً فيما بينها وبين الولاياتالمتحدة فى استخدام كل ما سبق لهزيمة وتفكيك الاتحاد السوفيتى ومناصرتها لتلك المنظمات التى صنعتها وادخرتها لأوقات معلومة فى باكستان وليبيا وجيش تحرير كوسوفو. وكانت لها قواعد قوية مع قاعدة بن لادن بالرغم من الدعاية الهوليوودية التى حاولت تصديرها للعالم بنفى ذلك، فالأمر هنا بالنسبة لهم حاسم وخصوصا بعد سحب بريطانيا لقواتها العسكرية من الشرق الأوسط فى أواخر الستينيات، ولابد لها من الاحتفاظ بمصالحها فى تلك المنطقة من نفط وغيره..
ولننظر عن كثب فى علاقة الإخوان بالراعى البريطانى بحلول عام 1942 كانت بريطانيا بدأت فى تمويل الإخوان وبالتحديد فى 18 مايو، عقد مسئولو السفارة البريطانية اجتماعا مع عثمان باشا رئيس وزراء مصر تم الاتفاق على نقاط تحدد وتحمى الإخوان المسلمين فى مصر، من ضمنها أن تدفع الحكومة المصرية سراً الدعم المقدم من حزب الوفد للإخوان المسلمين بجانب المساعدة المالية التى ستقدمها بريطانيا لهم، وطالبت بعدم أخذ أى أعمال أو إجراءات عدائية ضدهم. وكانت الإستراتيجية التى تم الاتفاق عليها هى “القتل عن طريق تقديم الأفضال”، ويتم السماح لهم بإصدار صحيفة ونشر مقالاتهم وأفكارهم للمجتمع، وبنهاية الحرب العالمية الثانية توافرت لبريطانيا خبرة كبيرة فى التواطؤ معهم وترويضهم.
وبالرغم من اعتراض بعض أعضاء حزب العمال فى ذلك الوقت على تفاعل ورعاية دولتهم للإخوان مثل “ميلانى فيلبس”، وعضو المحافظين “مايكل جوف” فإن بريطانيا ظلت متمسكة بموقفها – الذى أثمر فيما بعد – للحد الذى دفع “كين ليفينجستون” عمدة لندن لتقديم الدعوى ليوسف القرضاوى القائد الروحى لجماعة الإخوان المسلمين الدولية لزيارة لندن. سلوك بريطانيا العظمى بجانب أنه لا يمكن التكهن به إلا أنه أيضاً لا يمكن نقده !! ومن بين الوثائق التى تم تسريبها ويتضح فيها عمق وقوة العلاقات بين بريطانيا والإخوان أشار السفير “بلمبلي” فى مذكراته 2005 “أن التعاون مع المتأسلمين مفيد، حيث إننا نحصل أيضاً على معلومات” بريطانيا تعلم جيداً كيف تصنع وتنشر جواسيسها فى كل بقاع الأرض!
ويكشف لنا “بلمبلي” أيضاً دور بريطانيا فى الضغط على نظام الرئيس السابق “مبارك” لتقبل الإخوان، ولعلنا جميعاً نذكر أحداث الانتخابات البرلمانية وفوزهم ب 88 مقعداً بنسبة 19 % من الأصوات !! فها هى الجائزة للتخطيط القديم تلوح فى الأفق تسربهم طوال سنين داخل المجتمع المصرى بالأعمال الخيرية جعل لهم قدراً كبيراً من الضغط على الشارع وعتلة تحريك لإحداث تغيير فيما بعد سيأتى دورها .. تلك هى سياسة بريطانيا التى تعتبرها إنجازا وورقة إيواء تلك الجماعات المتطرفة فيما يسمى “لندستان” منذ زمن جاء بفاعليته تماماً.
ومن وإلى “لند ستان” يبقى الحوار وصفحات التاريخ دائماً لا تنتهى ويظل المؤرخون والكتاب ممن يحملون فى داخلهم توهج الضمير الأخلاقى مشحذين أقلامهم لنقل الحقائق للشعوب، كما هى وليس كما يريدون أن يزيفوها.. ولعل الكثير لا يعرف أنه كان “لأسامة بن لادن” مكتب دائم فى لندن أطلق عليه “لجنة الشورى والإصلاح” وساعدته أمريكا، ووفرت له الغطاء لدعم أعمال القاعدة العسكرية فى تجنيد المتدربين والأموال والمعدات والخدمات العديدة لدرجة توفير بريطانيا أيضاً لمركز ثابت تتلقى فيه كل التقارير العسكرية والأمنية الواردة من القاعدة من خلاله وبحثها مع صديقتها وحليفتها أمريكا – كما تدير جيوشها – لدرجة تنظيم مؤتمر صحفى لابن لادن مع CNN فى مارس 1977!
وقبل أن أكمل يستوقفنى للغاية كيف لشعوب تلك البلدين أن يصمتوا أو يغيبوا بأى وسيلة أمام تصرفات وسياسة حكوماتهم الإرهابية والاستعمارية !! حالة الصمت الشعبى تستوقفنى كثيراً فى تلك الدول. نشر “مارك كورتيس” فى كتابه وثيقة لتقرير البحوث للكونجرس الأمريكى، ومفاده أن بن لادن زار لندن فى 1994 وظل عدة شهور فى ويمبلى اجتمع فيها أعضاء الجماعة الجزائرية الإرهابية المسلحة ونشر سجلات فواتير هاتفه من 1996 إلى 1998 التى وضحت أن خُمس مكالماته 238 من 1100 كانت للندن.
هذه اللجنة للقاعدة على أرض بريطانيا كانت تتكون من منظمة أيمن الظواهرى الإرهابية، منظمة الجهاد الإسلامى المصرية، ومن أبرزهم “عادل عبد الباري” الذى نظم تفجير خان الخليلى فى مصر وقائد خلية لندن المتميز ومنظم مذبحة الأقصر.. والآخر “إبراهيم عيداروس” الذى منحته لندن حق اللجوء السياسى وكانت له بصمات واضحة فى تفجير شرق إفريقيا.. وسمحت للجميع فى تلك اللجنة الإرهابية بالعمل علناً لمدة أربع سنوات على أرضها.. بكل الرعاية .. انظر هنا كيف تدار تلك العلاقات الدولية ما بين بريطانيا والدول العربية بشكل دبلوماسى ناعم قد يبدو مليئاً ومفعماً بالصداقة والتفاهم بل والتعاون وفى نفس الوقت تدير وتنظم جماعاتها الإرهابية المسلحة ضد تلك الدول. حتى حليفتها أمريكا فى تلك اللعبة والمؤامرات عندما طلبت منها تسليم “خالد الفواز” وهو منشق سعودى 1998 بزعم تورطه فى تفجيرات شرق إفريقيا والذى كان كما قلنا مسبقاً يعمل علناً تحت أعينها رفضت ترحيله لأمريكا بحجة أن حقوق الإنسان الخاصة به ستنتهك فى سجونهم !!..
وعلى صفحات جريدة “الجارديان” صرح محامى الفواز كان على اتصال دائم بجهاز المخابرات البريطانية، وكانت اجتماعاته تدوم معهم لأكثر من أربع ساعات جيداً كيف تعد المعارضين بشكل عنكبوتى وبأذرعه التى قد تبدو متفرقة إلا أن العقل البريطانى يجيد جمعها جيداً وتحريكها” وصرح هو أيضاً بأنه يحتفظ باتصالات على أعلى مستوى مع المخابرات البريطانية!
والحقيقة أن كلا من بريطانياوأمريكا لديهما إيمان راسخ وعقيدة ثابتة بأن سياستهم المعلنة وغير المعلنة التآمرية هى أفضل الإستراتيجيات لضمان بقاء استقرارهم على المدى الطويل فى تلك المنطقة. وترى على الصعيد السورى تلك السياسة واضحة فقد استخدم البريطانيون والأمريكان المتأسلمين واستغلوا وجودهم فى لندن كأداة ضغط على النظام وزعزعة للاستقرار بل ووصل الأمر إلى تشكيلها لنظام آخر يخلف القائم تربطهما به علاقات قائمة على مصالح وتفاهمات . ولعل الكثيرين يتذكرون محاولة أمريكا زعزعة نظام “حافظ الأسد” الذى حكم سوريا حتى وفاته 2000 وفى أغسطس 2002 عقد الإخوان السوريون الذين كانوا يحاولون تنصيب أنفسهم قادة للمعارضة مؤتمراً فى لندن تحت شعار “سوريا لشعبها كله” ولا ننسى أن جميع أنشطة المعارضة تدبر وتدار فى لندن (على صدر الدين البيانوني) زعيم الإخوان الذى انتقل للإقامة فى لندن عام 2000 بعد أن أمضى 20 عاماً فى الأردن من قبل.
إن حركة الإخوان المسلمين المصرية وهى حركة سياسية دينية ولها صلات تاريخية بالإرهاب والاغتيالات فى الأربعينيات والخمسينيات بمفاهيمهم الثابتة عن الجهاد تقيم أيضاً فى لندن. هل ما زال الوعى المصرى يذكر كيف شن الرئيس السابق “مبارك” هجوماً حاداً علنياً على بريطانيا بعد مذبحة الأقصر، بأنها تؤوى المجاهدين الإرهابيين المنفذين لهذا الهجوم وذكر اسم “عادل عبد الباري” بالتحديد وطالبهم حينئذ بتسليمه لمصر ورفضت بريطانيا كالمعتاد.
الحقيقة سأتوقف هنا عن السرد ليس لنفاد الحقائق أو الأدلة بل لالتقاط أنفاسى من هذا الكم الهائل من الغدر والخيانة والأكاذيب وهذا التغاضى عن إدانة دولتين تتحكمان فى صنع وتصدير الإرهاب والقتل المتعمد وتخريب البلدان الآمنة وترويع وتشتيت الشعوب بل وتتبنى سياسة الوداعة وحماية الإنسانية !!. لا تنس عزيزى القارئ وأنت تقرأ تلك السطور نظرية ميكافيللي. وإلى حقائق قادمة.