سيظل يوم الرابع والعشرين من يونيو الجارى محفورا فى ذاكرة السعوديين وتاريخهم الحديث، حيث شهد بدء ممارسة النساء السعوديات لحقهن فى قيادة السيارات، وتطبيق الأمر الملكى الكريم بهذا الشأن، بعد عقود من الأخذ والرد والتردد، حسمها أخيرا ملك الحسم والحزم سلمان بن عبد العزيز بإعادة الحق إلى صاحباته، ليس ذلك فحسب، بل وحقوق كثيرة أخرى، سلبت من المرأة بفعل عادات وتقاليد عتيقة، ألبسها بعض الغلاة ثوب الدين، وحاولوا إضفاء هالات من القداسة عليها، ونسبها إلى الدين الحنيف الذى هو منها براء.
ظل موضوع قيادة المرأة لسيارتها مثار جدل بين الممانعين والمؤيدين، وشغل خلال الدورات السابقة حيزا كبيرا من مداولات ومناقشات مجلس الشورى، الذى يعبر عن تطلعات الشعب وطموحاته. كما حفلت الصحف بمساجلات عديدة بين الفريقين. ومع وجاهة الطلب، وعدم وجود خلاف حول أحقيته، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لإنصاف المرأة، حتى قيَّض الله لهذه البلاد ملكا لا يتوانى عن رد الحقوق، فكان قراره التاريخى بمثابة تأكيد جديد على أن قادة هذه البلاد وولاة أمورها لن يتوانوا عن الوقوف إلى جانب العدل، ورد المظالم، برغم أن بعض المتشككين رددوا مزاعم باطلة، بأن القرار ما هو إلا محاولة لتطييب الخواطر، وأنه لن يجد طريقه إلى أرض التنفيذ الفعلي، بسبب وجود موانع كثيرة. وما درى هؤلاء الجهلاء أنه صادر من أعلى سلطة فى البلاد، وأن من يحاول الوقوف فى طريقه كمن يحاول أن يحجب ضوء الشمس بغربال مهترئ.
ولا أخال أن هناك من يتشكك فى الإيجابيات الكثيرة لهذا القرار على حياة جميع أفراد الشعب، سواء على الصعيد الاقتصادى أم الاجتماعى والأمنى أيضا، فالتكاليف المتزايدة لمئات الآلاف من السائقين الذين كانت الأسر السعودية تضطر إلى استقدامهم ودفعها كرواتب لهم سوف تزيد من القدرة الشرائية لتلك الأسر، مما ينعكس إيجابيا على السوق المحلي، ويمكن توظيفها لإحداث المزيد من التنمية بما يؤدى إلى إيجاد مزيد من الفرص الوظيفية. كما أن دماء المعلمات والموظفات التى كانت تهدر على الإسفلت جراء تصرفات سائقين متهورين لا يهمهم سوى نقل أكبر أعداد منهن، سوف تصان، إضافة إلى وقف الجرائم التى كان يرتكبها بعض السائقين بحق من يضطررن إلى الركوب معهم فى سيارات الأجرة، وتجنيب الأسر العديد من السلبيات الأخلاقية الكثيرة جراء مخالطة الأطفال لأولئك السائقين الذين ينحدرون من مجتمعات تختلف كثيرا عن مجتمعنا فى عاداتها وتقاليدها.
وحسنا فعلت القيادة الرشيدة بوجود مدة زمنية تبلغ عدة أشهر بين إصدار القرار وبدء سريانه، حيث استغلت الأجهزة المختصة تلك الفترة لتوفير كل الاشتراطات اللازمة لتنفيذ القرار فى أجواء تضمن سلامة الجميع، بدءا من افتتاح مدارس خاصة لتعليم النساء القيادة، وزيادة الجرعة التثقيفية والتوعوية، وإصدار الضوابط الضرورية، وغير ذلك مما يلزم. إضافة إلى تهيئة المجتمع لتقبل الأمر، والتعامل معه على أنه واقع ينبغى التعايش معه، وتحذير جميع الأصوات المشروخة التى ارتفعت برفضه، ووصلت حد إصدار بعض المهووسين والذين يعيشون خارج الزمن لتهديدات هلامية، تعاملت معها الأجهزة الأمنية بما يلزم من حسم وصرامة. ومن الخطوات الإيجابية التى تصب فى صالح التنفيذ الآمن للقرار إصدار قانون منع التحرش، الذى يضمن سلامة النساء، والتعامل الصارم مع من يحاولون تهديدهن والتعدى عليهن، قولا أو فعلا، وهى خطوة أتت فى وقتها المناسب، لتؤكد حرص القيادة الرشيدة على استتباب الأمن، وعدم ترك فرصة أمام أى مستهتر، وسد كل ثغرة يحاول بها بعض مرضى القلوب التعلل بعدم وجود قانون يعاقب مرتكبى هذا الفعل المستهجن، وهو ما يؤكد بعد نظر المسئولين.
من الأشياء التى ظلت تلاحقنى خلال مسيرتى العملية أو خلال مشاركاتى المتكررة فى ندوات أو ورش عمل خارج المملكة – بحكم تمثيلى لبلادى فى عدد من المحافل الحقوقية - تلك الأسئلة المتعددة عن الحكمة من وراء منع المرأة من قيادة السيارة فى السعودية، فالبعض كان يتساءل عن ذلك فى الوقت الذى تمارس فيه أعداد من نساء بلادى الفضليات قيادة الطائرات. وبعض تلك الأسئلة كان يقولها أصحابها بحسن نية، والآخر بسوء نية ، وفى كلتا الحالتين كنت وغيرى ممن يتعرضون لذلك الموقف نضطر إلى السكوت، بسبب عدم وجود إجابات مقنعة. حتى فى بعض الدول العربية كنا نواجه بمثل هذه الأسئلة، وقد فاجأنى أحد الأصدقاء ممن يتبوأون منصبا قياديا فى وزارة الداخلية الإماراتية بأن إحصاءات رسمية لوزارته تثبت أن أقل نسبة حوادث فى الإمارات، خصوصا دبي، ترتكبها النساء السعوديات اللاتى وصفهن بأنهن أكثر الملتزمين بآداب وضوابط السير.
التحية فى هذا المقام ينبغى أن توجه للرعيل الأول من السعوديات اللاتى ظللن يطالبن بحقهن، وتحملن فى سبيل ذلك كثيرا من الأذى، وتمسكن بالالتزام بالقانون فى سبيل استعادة حقهن، ورفضن دعوات كثير من المنظمات المشبوهة والجهات المعادية التى ظلت تحرضهن باستمرار على التظاهر وافتعال الأزمات، حتى أنصفتهن القيادة الكريمة وأعادت إليهن حقوقهن وهن مرفوعات الرأس كريمات الجانب. ليتأكد من جديد أنه ما ضاع حق وراءه مطالب.