مطالبات بتأسيس كيان مستقل لإدارة أموال التأمينات مستقبلا الموازنة العامة الجديدة تولى اهتماما خاصا لبرامج الحماية الاجتماعية
مصر من أقدم الدول العربية التى اعتمدت النظام التأمينى فى جميع المجالات، حيث بدأ المشرعون المصريون فى البحث منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، لوضع أطر تشريعية بشأن المعاشات المدنية وصدر أول أمر ملكى ينظمها فى 26 ديسمبر 1854 أعقبه آخر فى يناير 1871 ثم ثالث فى يونيو 1887 وظل العمل بها حتى صدر القانون رقم 5 لسنة 1909 ومن بعده صدر القانون رقم 37 لسنة 1929 وتلته عدد من القوانين حتى صدر قانون التأمين الاجتماعى رقم 79 لسنة 1975 ليشمل جميع القوانين المنفصلة تحت قانون واحد ينظم قواعد المعاشات بجميع تفاصيلها. ومن بين أهم أنظمة التأمين فى مصر، التى يهتم بها قطاع عريض من الشعب المصرى هو التأمين الاجتماعي، الذى يقوم بتحقيق مصلحة تتمثل فى تغطية المخاطر، التى يتعرض لها أفراد الطبقة العاملة، التى قد تحول بينهم وبين ممارسة عملهم بصورة طبيعية كالمرض والعجز والشيخوخة، فهذا التأمين يستجيب إلى فكرة التضامن والتكافل الاجتماعى، حيث تسهم الدولة مع أصحاب الأعمال فى تحمُّل عبء هذا التأمين أى فى دفع اشتراكاته. ويعتبر التأمين الاجتماعى للموظف إجباريًا، وليس اختياريًّا للعامل أو صاحب العمل، فالاشتراك فى هذا التأمين التزام يُحدد أحواله وشروطه القانون، ولا يملك أى طرف من أطراف العقد التعديل فى ذلك، وتعتبر مصر من الدول الرائدة فى هذا الشأن، حيث أنشئت شركة مصر للتأمين فى 14 يناير 1934 على يد رائد الاقتصاد “طلعت حرب” كأول شركة تأمين برأس مال مصرى، وإدارة مصرية تهدف لتوفير الحماية التأمينية للمشروعات المصرية. فى حين يهتم جزء عريض من الجمهور بالتأمين الصحى، ينظر آخرون إلى المعاش أو راتب التقاعد الذى يوفر دخلا للشخص عندما يبلغ سنا معينة، لتوفير ضمان مالى للفرد وعائلته، حتى وفاة العامل الذى كان متزوجاً، ويتم دفع نسبة منه إلى المنتفع، وعلى مدى عقود من الزمن ظل الموظف يعانى بعد تقاعده من راتب المعاشات، الذى لا يرتقى فى أغلب الأحيان إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة. وينظم التأمينات والمعاشات فى مصر عدد من القوانين هى قانون التأمين الاجتماعى الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975، وقانون التأمين الاجتماعى على أصحاب الأعمال ومن فى حكمهم الصادر بالقانون رقم 108 لسنة 1976، وقانون التأمين الاجتماعى على العاملين المصريين فى الخارج الصادر بالقانون رقم 50 لسنة 1978، والقانون رقم 93 لسنة 1980 بتعديل بعض أحكام قانون التأمين الاجتماعى الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975، والقانون. رقم 71 لسنة 1964 بمنح معاشات ومكافأة استثنائية، وقانون نظام التأمين الاجتماعى الشامل الصادر بالقانون رقم 112 لسنة 1980. ويحدد النظام الحكومى الحالى حداً أقصى لقيمة الاشتراك، وبالتالى يحدد قيمة المعاش، فيما تحكم الزيادة السنوية قرارات سياسية من القيادة العليا، ويوجد فرق كبير بين الدخل قبل الإحالة إلى المعاش وقيمة ما يتم دفعه بعد التقاعد، وإذا كان وضع حد أدنى للأجور من أهم المطالب التى أبرزتها ثورة 25 يناير، فقد صاحب ذلك أيضًا المطالبة بوضع حد أدنى للمعاشات والاهتمام بمراجعة نظم الضمان والتأمين الاجتماعى. التحديات الاقتصادية وشهدت الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الأخيرة مطالبات لاحتواء الطموحات الشعبية من زيادة للأجور والمعاشات، من خلال زيادة المخصصات المالية المقررة لدعم برامج الحماية الاجتماعية، ونظم التأمينات والمعاشات. وبرغم سوء الأحوال الاقتصادية لأصحاب المعاشات، أدى قرار الحكومة بتحرير سعر الصرف خلال نوفمبر 2016 إلى فقدان الجنيه لأكثر من 50% من قيمته، فضلاً عن موجتين من خفض دعم الطاقة وزيادة أسعار الأدوية. ويأتى تدنى الدخل الخاص بالصندوق الحكومى من أبرز التحديات التى تواجه المعاشات، حيث يتم احتساب ودفع قيمة التأمينات، طبقًا للأجر الأساسى للموظف المؤمن عليه، وعادة ما يكون الأجر الأساسى مبلغا صغيرا مقارنة بالدخل الإجمالى للموظف، وتمت معالجة ذلك الأمر من خلال القانون 135 لسنة 2010. حيث تعالت الأصوات الرافضة له بعد يناير 2011، الأمر الذى أدى إلى إصدار الرئيس السابق “عدلى منصور” فى عام 2013، قرارا يقضى بإلغائه، متضمنًا إدخال تعديلات على قانون التأمين الاجتماعى المعمول به، تقضى بزيادة المعاشات المستحقة للمحالين للمعاش بسبب بلوغ سن التقاعد أو العجز أو الوفاة. وعمل الرئيس “عبد الفتاح السيسي” على الحد من معاناة أصحاب المعاشات ذوى الدخل المنخفض، حيث قرر الرئيس زيادة المعاشات التأمينية بنسبة 15 %، وبحد أدنى قدره 150 جنيها لنحو عشرة ملايين مواطن، وبهذا القرار يصبح الحد الأدنى للمعاش 630 جنيهًا، كما أقر الرئيس العلاوة الدورية للمخاطبين بقانون الخدمة المدنية بقيمة 7 % وبحد أدنى 65 جنيها. الحماية الاجتماعية وتولى الدولة اهتماماً خاصاً بأصحاب المعاشات أخيراً من خلال برامج الحماية الاجتماعية ونظام التأمينات والمعاشات فى الموازنة العامة للدولة. وأعلنت الحكومة عن نيتها تنفيذ حزمة جديدة من الحماية الاجتماعية مع بداية السنة المالية الجديدة 2018 2019 وربما تسبق تنفيذ الشريحة الجديدة من برنامج الإصلاح، من خلال علاوة استثنائية للموظفين، وتعزيز معاشات التضامن الاجتماعى، وزيادة تصل إلى 100 جنيه لكل مستفيد من الدعم النقدى تكافل وكرامة. وعززت الحكومة شبكة الحماية الاجتماعية بقيمة 80 مليار العام الماضى، على إثر تنفيذ الشريحة الثانية من برنامج الإصلاح الاقتصادى، وتتضمن الموازنة الجديدة زيادة فى بند الأجور إلى 267 مليار جنيه مقابل 240 ملياراً حالياً، أى بزيادة 27 مليار جنيه، على أن تتم هذه الزيادة فى غضون يوليو المقبل، إضافة إلى زيادة مخصصات برامج الحماية الاجتماعية لتصل إلى 332 مليار جنيه، وهى قيمة العام الماضى نفسها ولكن بفاعلية أكثر، من خلال استخدام الفائض من تنقية جداول الدعم النقدى واستبعاد غير المستحقين وتوسيع قاعدة المستفيدين بمنظومة تكافل وكرامة لتتخطى مليونى أسرة بدلاً من مليون و700 ألف . كما تتضمن الموازنة الجديدة زيادة الدعم لصناديق المعاشات بنحو 10 مليارات جنيه، لتصل إلى 70 مليار جنيه بدلا من 60 مليار جنيه، هذا بجانب رفع حد الإعفاء الضريبى من خلال نظام الخصم الضريبى لصالح محدودى الدخل، وتحسين الخدمات فى قطاعى التعليم والصحة، لتحسين ظروف وأوضاع الطبقة المتوسطة، لا سيما مع بدء تطبيق التأمين الصحى الشامل، الذى سيبدأ فى عدد من المحافظات خلال العام المالى المقبل. تكافل وكرامة بلغ عدد المستفيدين من معاشات الدعم النقدى “تكافل وكرامة” نحو 2.268 مليون أسرة حتى الآن، ويشمل الدعم النقدى حاليا ما يزيد على 10 ملايين مواطن. وسجل إجمالى ما تم صرفه على برنامج تكافل وكرامة منذ بدايته فى مارس 2015 حتى إبريل الجارى تجاوز 18.37 مليار جنيه. وخصصت وزارة المالية مبلغ قيمته 17.5 مليار جنيه لمعاشات الدعم النقدي( تكافل وكرامة) خلال موازنة العام المالى الجديد، وهو نفس المبلغ المتوقع لها خلال العام المالى الحالي. وبحسب البيان المالى التمهيدى لموزانة العام الجديد، فإن الحكومة تستهدف رفع عدد المستحقين لمعاشات الدعم النقدى إلى 3.2 مليون مستحق خلال العام المالى الجديد، مقابل 2.85 مليون مستحق متوقعين بنهاية العام المالى الحالي. وتأتى محافظات الصعيد فى مقدمة من حيث الاستفادة من هذه المعاشات، حيث يبلغ يمثل 72 % من إجمالى ما تم صرفه من موزانة البرنامج. ويمنح معاش تكافل للأسر الفقيرة بشرط انتظام أبنائها فى تلقى خدمات صحية والانتظام فى الدراسة، وتبلغ قيمة المعاش 325 جنيها فى الشهر، بالإضافة إلى 60 جنيها للطفل دون عمر السادسة، ويرتفع إلى 80 جنيها لطفل المرحلة الابتدائية، 100 جنيه لطالب المرحلة الإعدادية، 140 جنيها للمرحلة الثانوية، وكان يصرف سابقا بشكل تراكمى كل 3 أشهر عن طريق الأم، إلا أنه بعد قرار تعويم الجنيه فى نوفمبر الماضى، بدأت الحكومة فى صرفه شهريا. بينما يمنح برنامج كرامة مساعدات نقدية شهرية، بمبلغ 350 جنيها لكبار السن فوق 65 عاماً، ولمن لديهم عجز كلى أو إعاقة ولا يستطيعون العمل أو ليس لديهم دخل ثابت. القصور فى نظام التأمينات والمعاشات ويعانى نظام التأمينات والمعاشات العديد من بعض أوجه القصور، أبرزها عدم وجود علاقة قانونية بين معدل التضخم وقيمة المعاشات المنصوص عليها بالقانون، مما يتطلب تدخل الدولة لإقرار علاوة اجتماعية سنوية، وعادة ما يدور خلاف حول نسبة تلك العلاوة ومدى وملاءمتها للظروف المعيشية. كما تعهدت الحكومة المصرية لصندوق النقد الدولى بوضع خريطة طريق واضحة لإصلاح نظام المعاشات والتأمينات. ونص الدستور المصرى لعام 2014 فى المادة رقم 17، على أن "أموال التأمينات والمعاشات أموال خاصة، تتمتع بجميع أوجه وأشكال الحماية المقررة للأموال العامة، هى وعوائدها حق للمستفيدين منها، و تستثمر استثمارا آمنا، وتديرها هيئة مستقلة وفقاً للقانون، وتضمن الدولة أموال التأمينات والمعاشات". ولهذا هناك ضرورة للبدء فى وضع تصور للكيان الإدارى المستقل وفقاً لدستور مصر الجديد، والذى نصت مادته 17 على إنشاء كيان مستقل عن الجهاز الحكومى، يكون المسئول عن استثمار أموال التأمينات مستقبلا، مع استمرار الخزانة العامة كضامن لأموال نظام التأمين الاجتماعي. ويجب أن تقوم الحكومة بتحويل أموال التأمينات الجديدة سنوياً وبشكل منتظم إلى الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي، حتى تتم إضافة المبالغ التأمينية الجديدة إلى ما فى حوزة الهيئة من أموال تستثمرها بصورة مباشرة، وهذا النظام سيؤدى إلى إيقاف تزايد أصول الدين الحكومى للتأمينات الاجتماعية. كما ينبغى تطوير آليات إلزام المؤسسات الخاصة بسداد التأمينات الاجتماعية للعاملين لديها والمؤمن عليهم فعليا، ومد مظلة التأمينات الاجتماعية على كل العاملين فعليا لدى جهات العمل الخاصة والعامة أيضاً، ولو امتدت إليهم مظلة التأمينات وتم دفع اشتراكاتهم بانتظام، فإن تيار التدفقات الجديدة لأموال التأمينات سيساعد على تطور أصول التأمينات وعوائدها.