منذ أن طرح الرئيس الأمريكى ترامب رغبته فى مغادرة الجنود الأمريكيين سوريا فى أسرع وقت ممكن، والمقدر عددهم بألفى جندى يتمركزون فى الشمال السورى، حيث الغالبية من الأكراد، وهناك تكهنات عديدة حول التأثيرات التى يمكن أن يجلبها هذا القرار حال تنفيذه، ثم تطور الأمر مع تردد فكرة أن يتم إرسال قوات عربية لتحل محل القوات الأمريكية تحت شعار محاربة تنظيم داعش. وكما ذكرت تقارير صحفية أمريكية، لا سيما “وول ستريت جورنال” فإن الدول المرشحة لإرسال قواتها هى مصر والسعودية والإمارات العربية والأردن وقطر. مع ملاحظة أن الأمر لم يتطور إلى أن يكون رسميا، بل هو فى طور الاقتراحات والمناقشات. وحتى المملكة العربية السعودية التى أعلن وزير خارجيتها عادل الجبير وفقا لوكالة الأنباء السعودية، أن تلك الفكرة محل مناقشة مع الجانب الأمريكى، وأن المملكة ستفكر فى أن ترسل قوات إلى جانب قوات دول أخرى كجزء من التحالف. بعبارة أخرى أن يكون القرار جماعيا وتحت مظلة التحالف الدولى وليس تصرفا فرديا. قضية إرسال قوات عربية إلى الأراضى السورية، تحتاج إلى مناقشة هادئة لغرض كشف أبعادها، ومعرفة إلى أى مدى يمكن أن تفيد المصالح العربية بما فيها المصالح السورية، وفى مقدمتها التسوية السياسية المقبولة من الأطراف السورية الرئيسية فى الأزمة، وتحقيق الاستقرار، والحفاظ على المؤسسات، وإعادة هيكلتها بما يناسب مضمون التسوية التى يحتمل التوصل إليها، فضلا عن إعادة الإعمار والتى تتراوح تكلفتها التقديرية ما بين 400 إلى 500 مليار دولار أمريكى، وأكثر من خمسة عشر عاما حتى يتم بث قدر من التماسك فى الاقتصاد السورى. فكرة أمريكية خالصة
والواضح أن الفكرة الأمريكية لا علاقة لها بكل ما سبق توضيحه، باعتباره مصلحة عربية عليا ومصلحة سورية عليا، بل هى فكرة تناسب المصالح الأمريكية وفقا لرؤية الرئيس ترامب وحسب، وقوامها أن يتورط العرب أكثر فى الأزمة السورية وأن تحصل الولاياتالمتحدة على مزيد من الأموال من قبل الدول العربية لاسيما الخليجية، إضافة إلى حماية الجنود الأمريكيين وإعادتهم إلى الوطن سالمين. ثم فليكن مصير سوريا نتيجة لنزاعات وصراعات أشد وربما حروب إقليمية شديدة الوطأة.. ومن ثم فهى فكرة تعنى بالأساس تأجيج الصراع على الأرض السورية وإفساح مجال لمواجهة مباشرة بين بعض العرب وبين العناصر التابعة لإيران، التى تعمل بتنسيق مع الجيش السورى لمحاربة الجماعات المسلحة، ناهيك عن مواجهة الجيش السورى، وهو أمر يحتمل حدوثه إن حدث إرسال قوات عربية وفقا لهذه الصيغة الغامضة. ومن غير المستبعد أن تتعرض القوات العربية المحتمل مشاركتها فى هكذا فكرة غامضة وملتبسة إلى هجمات انتحارية من قبل عناصر وجماعات إرهابية. والأمر الخطير والمحتمل حدوثه يتمثل فى أن تمركز قوات عربية فى شمال شرق سوريا، بدون تفاهم مع الحكومة السورية وبالقرب من الحدود التركية من شأنه أن يعرضها لعلاقة ملتبسة مع أكراد سوريا وربما مواجهات مع المجموعات الكردية المسلحة، وربما أيضا أن تتورط فى مواجهة عسكرية مع القوات التركية التى قد تكلف بالتوسع وقضم المزيد من الأراضى السورية التى يسكنها الأكراد. ومعلوم أن هناك تصريحات تركية تصر على احتلال مناطق الأكراد السوريين فى الشمال السورى، وغالبا ما ستسعى تلك القوات التركية إلى غزو شمال سوريا حال خروج الجنود الأمريكيين. وكل ذلك ضد المصلحة العربية ومدخل لحرب وفوضى شاملة.
الأرباح وليس البشر
أحد مظاهر الغرابة فى مثل هذا الطرح الأمريكى، هو التصرف بشكل يقارب الطريقة التى بنيت بها دولة إسرائيل على الأرض العربية الفلسطينية، حيث أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق. فالرئيس ترامب لا يملك صلاحيات فى أن ينشر جنوده على الأرض السورية، ووجود قوات أمريكية على أى جزء من الأرض السورية هو عمل غير مشروع، إنه نوع من الاحتلال أيا كانت المبررات التى يتم سردها لشرعنة هذا الوجود العسكرى، وبالتالى فهو لا يملك صلاحية أن يدعو دولا أخرى عربية أو غير عربية لإرسال قواتها على أرض يحتلها جنود أمريكيون بلا أى مسوغ. وإذا كان الرئيس ترامب يرى أن مهمته الكبرى هى الترويج للأسلحة الامريكية وتسويقها لدى العديد من دول الشرق الأوسط، فضلا عن دفع ما يعتبره تكاليف مهمة لحماية الاستقرار فى المنطقة أو فى جزء منها، فمن اليسير القول إنها مهمة لنشر الفوضى وتأجيج الصراعات ولا علاقة لها بسياسة دولة عظمى يفترض أنها تتحلى بمنظومة أخلاقية حين تدير الأزمات العالمية.
السياسة الأمريكية فى عهد ترامب لا تهتم بتسوية الصراعات الدولية، بقدر ما تهتم بتحقيق الأرباح على حساب حياة مئات الآلاف من البشر. والرئيس ترامب نفسه عبر فى أكثر من تغريدة وأكثر من تصريح معلن، بأن على الآخرين أن يهتموا بأمورهم، وأن أمريكا ليست معنية بأن تكون الأخ الكبير التى يضحى من أجل الآخرين. لكنه فى الحالة السورية يفعل العكس، فهو مهتم بأن يعيد تشكيل عناصر الأزمة السورية وفقا لرؤيته الذاتية، ولا يضع فى اعتباره حقوق السوريين فى التوصل إلى تسوية تاريخية، بعيدة عن أى تدخلات فجة من أى طرف كان. وهو تناقض يفصح بقوة عن غياب إستراتيجية أمريكية متماسكة بشأن قضايا وأزمات الشرق الأوسط ككل. وهذا الغياب الهيكلى يعد مسئولا عن مثل هذه الأفكار الفاقدة للنضج وغير القابلة للتطبيق، وإن تمت محاولة تطبيقها فمن شأنها أن تخلق المزيد من المشكلات، والمزيد من الصراعات، والمزيد من إثارة الكراهية بين الشعوب العربية وبعضها.
سيناريو عربى مضاد
معروف أن صنع السيناريوهات والمشاهد المستقبلية يتطلب قدرا كبيرا من الخيال السياسى والتغاضى جزئيا عن توافر بعض المعطيات الضرورية التى تجعل هذا السيناريو قابلا للتطبيق، وذلك على أمل توفير هذه المعطيات من خلال ممارسة بعض الضغوط والابتزاز السياسى والاقتصادى والدعائى – الإعلامى على الأطراف المعنية لكى تقبل بتنفيذ السيناريو المطلوب وإن على مضض. وفى الحقيقة أن مثل هذه السيناريوهات الجهنمية يمكن إفشالها بسهولة ومنع تطبيقها إذا توافر شرطان رئيسيان، أولهما وضع السيناريوهات المضادة التى تحول دون تشكيل المعطيات التى تسعى إليها واشنطن، وثانيهما إرادة الفعل الجماعى العربى من قبل الأطراف المستهدفة.
وفى تصورى أن إفشال المطلب الأمريكى ذى النكهة الاستعمارية يتطلب عدة تحركات عربية جماعية وفق نية صادقة تسعى إلى إنقاذ سوريا، وليس أى شىء آخر. ومن أهم هذه التحركات هو وقف تجميد عضوية الحكومة السورية فى الجامعة العربية، وفتح حوار مع الحكومة السورية باعتبارها الحكومة الشرعية والممثل الشرعى للدولة السورية،كما هى الحال بالنسبة لعضوية الأممالمتحدة. فبالرغم من كل الضغوط والعقوبات التى أقرها الغرب ضد دمشق، فإن العالم لا يزال يتعامل معها باعتبارها الحكومة الشرعية وعضويتها فى الأممالمتحدة لم تتعرض إلى أى ضرر، ولا يجرؤ أحد على المطالبة بتجميد عضوية سوريا فى المنظمة الدولية. ومن باب أولى أن تكون هناك نظرة عربية واقعية لمجريات الأحداث فى سوريا. فهناك تقدم ميدانى لصالح الجيش السورى، وهناك هزيمة منكرة لقطاع كبير من جماعات الإرهاب المسلح. وهو ما يجب دعمه عربيا وليس إنكاره أو تجاهله. وبالرغم من كل التعقيدات الميدانية ووفقا للمؤشرات الظاهرة، فالمستقبل سيكون لصالح الدولة السورية.
ولعل أهم ما يجب أن يتمسك به العرب يتلخص فى ثلاثة عناصر رئيسية، أولها وحدة سوريا الإقليمية، وثانيا ألا ينهار النظام لصالح الجماعات المسلحة، وثالثا أن ينتهى الوجود الأجنبى بكل أشكاله ومستوياته فى أسرع وقت ممكن. ومثل هذه المبادئ الثلاثة هى المدخل الوحيد لأى حل سياسى يطالب به الجميع، لكن الغالبية لا تعمل من أجله. بعبارة أكثر وضوحا، فإن أى حلحلة للوضع الميدانى السورى والبدء بتسوية الأزمة تتطلب دعم الدولة السورية ومؤسساتها، ومدخل هذا الأمر هو استعادة لغة الحوار مع الحكومة السورية تحت مظلة الجامعة العربية. فاستمرار عزل سوريا عربيا يعنى منح القوى الدولية والإقليمية المزيد من الوقت والظروف لتكريس وجودها غير المشروع، ومن ثم نشر الفوضى فى الأرض السورية. وهناك ما يجب أن يفكر فيه العرب، وهو أن التمسك بعروبة سوريا والتخفف رويدا رويدا من النفوذ الإيرانى لن يحدث إلا إذا أدرك العرب مسئوليتهم الجماعية فى احتواء سوريا والسوريين جميعا، وليس دعم بعضهم فى مواجهة الدولة أو الوقوف على الحياد المهجور.
إن اقتنع العرب ودولهم الرئيسية بهذا المدخل، يصبح حينها الحديث عن إنشاء قوةعربية لحفظ السلام من خلال حوار مع الحكومة السورية الانتقالية، وبعض جماعات المعارضة غير المتورطة فى محاربة الدولة السورية أمرا مقبولا، بل ومرحبا به، إذ سيكون الجنود العرب فى هذه الحالة إضافة للأمن والسلام السورى ودعما لصيغة التسوية التى يتم التوصل إليها تحت مظلة الأممالمتحدة. وقتها لن يعارض عربى إرسال جنود بلاده من أجل حماية السوريين وحماية سوريا ذاتها ودعم المصالح العربية العليا. أما قبل ذلك فسيكون خطوة على طريق ملئ بالأشواك التى لن يتحملها أصحابها.