«اقرأ» هكذا بدأ الأمر الإلهي، فى محكم التنزيل، مثلما كانت كلمة عيسى ابن الإنسان فى الإنجيل: «فى البدء كان الكلمة» لكننا فرطنا فى هذا وذاك، ولم نعد نقرأ، وكأن القراءة باتت موضوعا، ينتمى إلى حالة من حالات الرفاهية، وكأن أسوأ سؤال يمكن أن تواجهه هو: ما هوايتك؟ وتكون الإجابة: القراءة، القراءة ليست هواية، إنها ذروة لحظات بناء الإنسان، ولا داعى لتكرار ما قيل إن الأهم من بناء المصانع هو بناء الإنسان، لا داعى لتكرار أن وزير دفاع الدولة العبرية «موشى دايان» سئل ذات مرة: لماذا جاءت خطط حرب 67 هى بالضبط ما جرى فى حرب السويس فى 56؟ وكانت إجابته: إن العرب لا يقرأون. واليوم يمر العرب بظروف قاسية، ولحظة تحولات،مخاضها عسير، فلا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، تعطلت المطابع عن الدوران فى غير بلد عربي، وأجهضت مشروعات دول تدعو للقراءة (مصر) ونهضت تجارب أخرى (الإمارات) كانت طوابير الشباب على إصدارات مكتبة الأسرة تدعو للفرح، الآن توقف المشروع، وتراجعت معدلات القراءة، فلا بأس من أن نتذكر ما جرى فى إسبانيا زمن الحرب الأهلية، وهزيمة الجمهوريين على يد قوات الديكتاتور فرانكو. كانت تلك القوات تحاصر أحد المواقع، التى يتحصن بها الجمهوريون،وكان الرصاص ينهال من جميع الاتجاهات، إلى أن خيم الصمت والهدوء الحذر على المكان، وتقدمت قوات فرانكو من الموقع، وفوجئ الجنود بأن رجلا واحدا، هو الذى كان يطلق كل هذا الكم من الرصاص. سأله قائد المجموعة المهاجمة: عم كنت تدافع يا رجل؟ أنت واحد ونحن كثر، ولا شك أنك كنت ستنهزم فى النهاية، قال الرجل: كنت أدافع عن هذين، وأخرج من جيبه كتابا ورغيف خبز، بالتأكيد نحن نحتاج الآن، أكثر من غيرنا، إلى ترديد إجابة هذا الرجل الإسباني، وها نحن نفعلها، ونأتى إليكم ب “سور الأزبكية”!
المؤلف المجهول لرسائل إخوان الصفا وخلان الوفا
أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب “رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا” فى سلسلة جديدة بعنوان “تيسير التراث” لجيوم دوفو، حيث تتصدر الكتاب مقدمة عبارة عن فقرة من الرسائل تقول: “وبالجملة ينبغى لإخواننا أيدهم الله تعالى، ألا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب، من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعها، وذلك أنه هو النظر فى جميع الموجودات بأسرها الحسية والعقلية، ومن أولها لآخرها، ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها، بعين الحقيقة من حيث كلها من مبدأ واحد، وعلة واحدة وعالم واحد، ونفس واحدة، محيطة جواهرها المختلفة، وأجناسها المتباينة، وأنواعها المفننة وجزئياتها المتغايرة”. تبين تلك الفقرة طمع إخوان الصفا فى شمولية المعرفة، فالرسائل تنادى بالفضول المعرفى غير المحدود، وتشجعه بلا قيود تحصره داخل مجال علمى أو مذهب أو طائفة ما، فليست رسائل إخوان الصفا موسوعة علمية فحسب، لكنها تحوى فى طياتها تفسير كتب سماوية ومجادلات دينية وسياسية وقصصاً على لسان الحيوانات وأبيات شعر، بالطريقة التى يمكن أن تجعلنا نقول عن مؤلف رسائل إخوان الصفا ما تقوله الرسائل عن الإنسان الكامل. تقول الرسائل: “فقام عند ذلك العالم الخبير الفاضل الذكي، المستبصر الفارسى النسبة، العربى الدين، الحنفى المذهب، العراقى الآداب، العبرانى المخبر، المسيحى المنهج، الشامى النسك، اليونانى العلوم، الهندى البصيرة، الصرفى السيرة، الملكى الأخلاق، الربانى الرأي، الإلهى المعارف، الصمداني”. لكن من يقدر أن يجمع المعرفة كلها؟ وكيف لكتاب لا يتجاوز عدد صفحاته الألفين أن يشمل كتب الحكماء والأنبياء بأسرها؟ وكيف لمذهب أن يستغرق المذاهب كلها بتناقضاتها؟ لا ندرى نحن شيئا عن مدى إمكانية هذا، لكن الرسائل تقول إنه ضرورى وواجب، فيجب أن تجمع العلوم كلها فى مبدأ واحد، كما تأتى المخلوقات كلها من خالق واحد. ولأنها تجمع كل المذاهب فقد استخدمت المذاهب كلها رسائل إخوان الصفا زاعمة أنها تنتمى إلى طائفتها، وحاولت أن تطبق نظريتها الفلسفية فى مشروع علمى تارة ودينى أو سياسى تارة أخرى، لكن الرسائل تجاوزت حدود الطائفة والحركة الدينية، ولا ننسى دورها الكبير فى تاريخ الأدب العربى الذى لعبته بفضل قصصها، خصوصا القصة المتضمنة، ففى الرسالة الثانية والعشرين بعنوان “تداعى الحيوان على الإنسان أمام ملك الجان”، التى انتقلت إلى التراث الأدبى العالمي، فأثرت على جورج أورويل مثلا وروايته “مزرعة الحيوانات”، أما على المستوى العلمى فتعد رسائل إخوان الصفا أول موسوعة فى تاريخ العلوم الفلسفية، وقد كان تأثيرها على الفلاسفة العرب ملحوظا. لكن على الرغم من أهميتها الدينية والسياسية والعلمية، فإنها لا تزال لغزا تاريخيا وفلسفيا، حيث إن مؤلفها مجهول، كما أنه لم يستطع إلى الآن تحديد تاريخ تأليفها، لكن “جيوم دوفو”، استطاع أن يتوصل إلى مقاربة حول تاريخ التأليف واسم المؤلف، ما قد يطرح رؤية جديدة حول فهم رسائل إخوان الصفا، حيث أثبت أن أحمد بن الطيب السرخسى تلميذ الكندى قد يكون المؤلف الحقيقى لرسائل إخوان الصفا، وقد كتبها عام 280 هجرية تقريبًا، وقد أسس السرخسى عمله على المجالس العلمية لجماعة إخوان الصفا، وهم مجموعة علماء وفلاسفة من مدرسة الكندي.
«صادق هدايت» حياة صنعتها نوبات الهوس والكتابة
فى يناير 1975 صدرت الطبعة الأولى من ترجمة د. إبراهيم الدسوقى شتا العربية لرواية الكاتب الإيرانى “صادق هدايت” (17 فبراير 1903 – 9 أبريل 1951) الشهيرة بعنوان “البومة العمياء” وطوال الفترة من عام 1976 (تاريخ صدور الطبعة الثانية من الرواية) إلى الآن لم تعرف مصر اهتماما بصادق هدايت إلا عندما ترجم الشاعر ياسر شعبان كتاب “المنزل المظلم” وهو عبارة عن قصص لم تنشر من قبل، وقد ذيل الناشر هذا الكتاب، موضحا أن صادق هدايت مؤسس فن القصة القصيرة فى إيران، وهو يعد من أهم الكتاب الإيرانيين فى العالم، إذ تعتبر كتاباته صوت المجتمع الإيرانى الحر، وقد عاش غريبا ينشد المجتمع الأفضل، ولما لم يجده، حاول الانتحار أكثر من مرة، حتى نجح فى آخر محاولاته، أثناء إقامته فى باريس، وهو فى سن الثامنة والأربعين من العمر. صدرت عدة كتب فى الأدب الإيرانى عن المركز القومى للترجمة بمصر، لكن تظل رواية “البومة العمياء” هى الرواية الخالدة فى تاريخ الكتابة الفارسية لدى كثيرين فى العالم العربي، يقول ياسر شعبان بعد أن قرأ “البومة العمياء”: “قرأت قصصا منوعة لصادق هدايت، وقد لفتت انتباهى لتنوعها الشديد، من الواقعية للسخرية، لقصص الحيوان، والميل إلى السوداوية، ومن النقد الاجتماعى الأقرب إلى اليسار والفوضوية والعدمية، كذلك اكتشفت هشاشة بعض المقولات المنتشرة فى الأوساط الثقافية، فقد كان صادق هدايت يكتب تحت تأثير الموجات النفسية التى كان يمر بها كأحد مرضى الفصام ثنائى القطبية، وتأكد لى أن عملا واحدا قادرا على إحداث تغييرات جذرية فى مفهوم الكتابة وأشكالها، وفى الآخرين، ورؤيتهم للحياة والموت، وما بينهما من علاقات بين البشر وبعضهم بعضا”.
ظهرت “البومة العمياء” أول ما ظهرت سنة 1937 والرواية عبارة عن اعتراف بين القاص وظل على الحائط، يشبه بومة، وقد كتب هدايت ذات يوم: “أخطط لكتابة شيء ما وقح وسخيف، ليكون بصقة فى وجه الجميع، ربما لا أتمكن من نشره، لا يهم، لكنه آخر أمل لي، حتى لا يقولون بعد رحيلى “كان أحمق وتافها بحق”.
طبعت الرواية أولا فى بومباى بالهند، ولم تظهر طبعتها الأولى فى إيران إلا عام 1941، ثم ترجمت بعدها إلى العديد من لغات العالم، والمثير أنه فى عام 2005 تمت مصادرة الرواية فى إيران بالإضافة إلى رواية أخرى لصادق هدايت وهى “حاج عكا” وذلك خلال معرض طهران الدولى الثامن عشر للكتاب، وفى سنة 2006 تم منع إعادة طبعها وتجريم تداولها، وكان هدايت يقول عن نفسه: “مهما يكن فليس فى تاريخ حياتى ما يلفت النظر، لم يحدث فيها ما هو جدير بالانتباه، ليس لى منصب مهم، ولا أنا من حملة الشهادات العظيمة، لم أكن أبدا طالبا بارزا على عكس ذلك كان نصيبى دائما هو عدم التوفيق، ومهما كنت أبقى خاملا ورؤسائى غير راضين عني، ربما لو استقلت رضوا”.
ربما لهذا أراد هدايت أن يستقيل من الحياة عبر ثلاث محاولات فاشلة بالغاز، فى إحدى الشقق الصغيرة بباريس لكن المحاولة الأخيرة نجحت، على نحو فاجأ أصدقاءه ومحبيه، الذين أخذوا يجمعون أعماله ويقيمونها على ضوء جديد، وبعد عام من وفاته سيكتب جلال آل أحمد: “طوال حياة صادق هدايت لم يفهمه أحد، ولهذا قابل كثيرون من معارفه خبر وفاته بالدهشة، ربما لم يتعامل معه أحد بالجدية الكافية، فقد كانوا جميعا معتادين على أقنعته التى اعتاد وضعها خلال التجمعات، أكثر من اعتيادهم على الإنسان المختبئ خلف تلك الأقنعة، وعلى ما كان يلتهمه من الداخل مثلما يلتهم البرص الجسد، وهكذا كان ينجرف فى صمت باتجاه الموت والتلاشي”.
ترك “هدايت” الدراسة بكلية الهندسة، وصرف كل قواه لمطالعة الأدب، ولم يكن العمل الإدارى ملائما لطبعه، وبعد أن عاد من باريس عام 1930 تنقل بين أكثر من مكان للعمل وفى النهاية عمل مترجما فى كلية الفنون الجميلة، وبقى فيها حتى سفره إلى باريس سنة 1950، ذلك السفر الذى لم يعد منه، وكان يعيش فى عسر مادي، ولم يجد بدا من إصدار أعماله ونشرها فى نسخ محدودة فروايته “البومة العمياء” نشرت فى 150 نسخة ومسرحية “أسطورة الخليقة” فى مائة نسخة، كان يرغب فى أن تنشر أعماله على نطاق ضيق.
صادف هدايت أياما عصيبة فى وطنه فبين عامى 1920 و1930 كانت البطالة والفاقة والفقر تكاد تقضى على الشعب الإيراني، وكانت عمليات الإرهاب تكاد تخنق أصوات الناس والكتاب، فسافر هدايت إلى الهند، ولم تتيسر له إقامة طويلة هناك لما كان يعانيه من ضيق مالي، ورغم ذلك فإنه – كما يقول د. الدسوقى شتا – قد حول الأدب الفارسى من أدب توقيعات وقصور وصالونات إلى أدب أمة، ونقله من التصوف إلى الاشتراكية، ومن الشخوص الأسطورية إلى شخوص تأكل الطعام، وتمشى فى الأسواق وتتصارع من أجل إثبات وجودها، ولذلك لم يكد هذا الذى عاش طوال عمره ينشر أعماله بشق الأنفس ينتقل إلى العالم الآخر، حتى توالى نشر أعماله وطبعها، وانهالت حفلات التأبين ومقالات المديح، لقد خسروا أديبا، لكنهم خسروا أيضا مناضلا لن يرفع كلمة فى وجوهم مرة أخرى. فى نهاية سنة 1950 سافر هدايت إلى باريس، بطريقة أشبه بالنفى الاختياري، أملا فى أن يجد هناك جوا يساعده على العمل، ويبدو أنه واجه متاعب عديدة، فكانت الرغبة فى الانتحار كامنة فى وجوده، طوال حياته، وقد كتب إلى أحد أصدقائه قائلا: “أما الخلاصة فهى أننى صدمت من كل شيء، وتعبت، ولا مناص، من أن تتحطم أعصابي، إننى أصل الليل بالنهار، كأننى محكوم عليه بالإعدام أو أسوأ، وقد نفضت يدى من حصيلة كل شيء، لا أستطيع أن أشتاق ثانية لشيء، ولا أن أعلق قلبى بشيء، ولا أن أخدع نفسي، ولا أجد الجرأة على الانتحار”.
بحث الكثيرون عن السبب فى انتحار هدايت، بعضهم يرده إلى أسباب شخصية بحتة، ومنهم من يقول إنه أصيب بيأس من الحياة بعد وفاة أحد أصدقائه، وبعضهم يرد انتحاره إلى مصرع زوج أخته، الذى كان رئيسا لوزراء إيران، واغتيل على يد جماعة “فدائيان إسلام” وثمة من يرى أنه قدم بانتحاره احتجاجا عمليا على النظام السياسى والاجتماعى فى إيران.
كان الأكثر تطرفا فى تلقى الرواية ما كتبه أحد النقاد الروس: “رواية البومة العمياء مكتوبة تحت تأثير انحطاط آداب أوروبا الغربية وتحت تأثير أدب الخوف والموت” وفى إنجلترا جعلوا من هدايت تلميذا لسارتر ففى “الصنداى تايمز” عام 1958 كتب أحد النقاد: “هذه الرواية حشد بدائى هائم، نوع من الغليان اللفظي، كابوس غربى فى أعجوبة صغيرة من السلاسة إلى جوار الحكاية الشرقية”.
تطور المجتمع اليمنى
يتناول هذا الكتاب تطور المجتمع اليمنى منذ مرحلة النظام العبودى القديم، فمرحلة النظام الإقطاعى والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الحديثة والمعاصرة، وتلك هى عناوين الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب، ويتناول الكتاب أيضا أوضاع اليمن الشمالية والجنوبية معا باعتبارهما جزءا لا يتجزأ، ويشير سلطان أحمد عمر مؤلف كتاب “نظرة فى تطور المجتمع اليمني” أن الهدف من وراء إخراج هذا الكتاب إعطاء القارئ اليمنى بوجه خاص، والقارئ العربى بوجه عام، نظرة سريعة عن تطور المجتمع اليمنى عبر التاريخ، وتبيان حقيقة الظروف الخاصة التى حكمت تطوره، وعوامل ركوده الطويل، وأسباب تخلفه وكيفية تغييره وتطويره.
يكشف الكتاب الصادر عن مؤسسة الأروقة للنشر والتوزيع عن أن النظام الاقتصادى الاجتماعى القائم فى اليمن الشمالية نظام إقطاعى متخلف فى طابعه الغالب، فالعلاقات الطبقية فى الريف تقوم على أساس استغلال طبقة كبار ملاك الأرض لطبقة الفلاحين، كما أن الدولة القائمة دولة إقطاعية بجميع مؤسساتها، وفى ظل النظام الإقطاعى القائم بدأت تنمو طبقة برجوازية فى المدن، وبرغم ضعفها فإنها تسيطر على الجانب الآخر من الاقتصاد الوطني، ويتمثل فى قطاعى التجارة والخدمات، وتحقق أقصى الأرباح على حساب الطبقة العاملة اليمنية وطبقة الفلاحين، وكل الفئات الوطنية والديمقراطية، مستفيدة من السيطرة المادية والسياسية لقوى الإقطاع، وهذا يفسر حقيقة التحالف الوثيق بين طبقة الإقطاع والطبقة البرجوازية الناشئة.
يرى المؤلف أنه فى ظل النظام الإقطاعى المتخلف ذى الجيب البرجوازى المتخلف أيضا يصير التناقض حادا بين قوى التخلف ممثلة فى الطبقة الإقطاعية والطبقة البرجوازية، ومن ورائها قوى المعسكر الرجعى العالمى من جهة، وقوى التحرر والتقدم، ممثلة فى الطبقة العاملة النامية وحلفائها من الفلاحين المنتجين، وفئات البرجوازية الصغيرة الدنيا والجنود والطلبة والمثقفين التقدميين ومن ورائها قوى المعسكر التحررى فى العالم من جهة أخرى.
أما أوضاع اليمن الجنوبية فكما يشير المؤلف: إذا أخذناها من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية فسنجد أن الحالة متشابهة تماما، إذ ليس هناك ما يميز أوضاع اليمن الجنوبى عن أوضاع اليمن الشمالى، فالتخلف الاقتصادى والاجتماعى يلف الجزءين بشكل متساو ومتشابه تقريبا، وإسقاط السلطتين - الاقتصادية والسياسية - لقوى الإقطاع والبرجوازية فى اليمن الشمالى، وإلغاء النظام القديم وجهاز دولته وعلاقاته الطبقية القائمة على الاستغلال، وإقامة على أنقاض ذلك سلطة وطنية ديمقراطية ثورية فى البلاد، تضع وسائل الإنتاج فى المدينة وفى الريف بأيدى القوى العمالية والفلاحية المنتجة، وتحت إدارتها الديمقراطية المباشرة، وتجند أكثر من ستة ملايين إنسان من أجل بناء اقتصاد وطنى متطور ومستقل عن السوق الرأسمالية العالمية. يقول المؤلف: “استخدمت فى تحليلى للواقع اليمنى المنهج الاشتراكى العلمى باعتباره المنهج الوحيد الذى تمكن بواسطته كتابة تاريخ الشعوب، إن فصول هذا الكتاب تتطلب دراسات موسعة يمكن أن تكون مادة خصبة لسلسلة من الكتب، إن هذا الكتاب جامع بين الأسلوب التحليلى والسرد التاريخى للحقائق كلما رأيت ذلك ضروريا”.
حكايات النساء فى صعيد مصر
“كثير هو ما كتب عن الصعيد، ما بين توثيق وتأريخ وتجميع للموروث والأهازيج والأمثال والحكايات، لذا فلست أظن ما فى هذا الكتاب من محتوى يزيد على كونه مربعا صغيرا، يتم تظليله فى محاولة لتوضيح صورة كبيرة، وإن كانت تظل منقوصة، لواحد من أقدم أقاليم الأرض، وأول ما شهد منها على الحضارة الإنسانية، الصعيد، المارد، الكسلان، الفقير، النائم على كنوز منذ آلاف السنين، ذاك الذى لا يبوح بحكاياته إلا نزرا يسيرا، العملاق المغرى بالمشاكسة عله يسمح بشيء من فك طلاسمه والإفصاح عن مخزونه من أساطير وخرافات ونذور منذورة وأولياء وصالحين ومخبولين وطامعين ومشعوذين”.
تلك هى الصورة التى تسعى لرسم ملامحها لصعيد مصر الكاتبة “سلمى أنور” فى كتابها الصادر عن مؤسسة بتانة بعنوان “الصعيد فى بوح نسائي”، إنها صورة مجتمع مشحون بالتعقيد الطبقى والقبلى وتضافر مكوناته الدينية والثقافية وزاخر بالموروث المخفى تحت قشرة رقيقة من التحضر والتمدين، فى حين أن فى جوف هذه القشرة قلبا صلبا جدا مزاجه عربى إسلامى قبطى فرعوني، قلب – كما ترى المؤلف – لم تستطع المؤسسات التعليمية والتنويرية الحديثة المختلفة اختراقه بالفهم الكامل أو التغيير الحقيقى إلى الآن.
بعد فترة من معايشة الجنوبيين وزيارات عديدة مطولة لمدن وقرى صعيدية، تقر المؤلفة بأن الجنوب المصرى يتسم بقدر من الغموض والتعقيد، ناهيك عن حالة الممانعة الثقافية للمفاهيم والألفاظ الوافدة من الشمال والرغبة المتأصلة لدى أبناء الصعيد فى الاحتفاظ بالسمت الجنوبى المميز لهم، ولعل إحدى علامات الممانعة الثقافية تلك هى الاحتفاظ باللهجة الجنوبية، فالجلابية الصعيدى والعيش الشمسى والويكا والزنادة، وبعض الطقوس المتعلقة بالميلاد والزواج والموت، هذه كلها مفردات جنوبية أصيلة تضاف إلى اللهجة الصعيدية لتشكل مكونات الحياة فى الصعيد.
تقول المؤلفة: “حين بدأت أختبر أرضية التواصل مع الصعيديات كنت أحسب أنى سأجدهن شبيهاتي، كنت بوعى بنت المدينة أحسب أنى سأجد فتيات كمثلى لهن تاريخى وتطلعاتى وهمومى وأسئلتى وقناعاتي، لكنى فى الحقيقة ما إن تدفقت حكايات النساء حتى بدأت أعى أن وراء المحكى مسكوتا عنه كثيرا، يمثل فى ذاته منظومة فكرية مغايرة تماما عما تشكل لدى من نشأن على مثل خلفيتى الأسرية والتعليمية من أبناء الطبقة الوسطى فى المدن”.
حاولت المؤلفة وهى تجمع الحكايات الواردة بالكتاب أن تقدم بعضا من ملامح الصعيد كما تراه نساء الصعيد، وبعضا من ملامح نساء الصعيد أنفسهم، ما يتحاكين به فى جلساتهن الخاصة، ما يعتقدن فى وجوده وإن غاب عن الأعين، ما يضحكهن وما يثقل كواهلهن، ما فقدن وأدركن وما يلهثن لتحصيله، ولم تتدخل المؤلفة فى الحكايات الواردة فى هذا الكتاب إلا بقدر التنسيق وإعادة الصياغة، بل إن بعض المقاطع واردة بلهجتها الجنوبية دون تنقيح ولا تدخل، وفى الغالب فإن تعليقات المؤلفة فى ثنايا الحكايات لا يتعدى وصف الرواية أو إدخال العبارات التى تعيد بها صياغة الحكاية كما فهمتها أو استشعرتها.