بعد إحدى مباريات ليفربول التى أقيمت فى لندن ولم أتابعها، قابلت مجموعة من المشجعين فى محطة القطار، كانوا يستعدون للعودة إلى ليفربول. سألتهم: كيف كانت النتيجة؟، فجاءنى رد أحدهم مسرعا: طالما معنا صلاح فلا داعى للقلق! هذا الكلام يشعرك بدرجة من "المصرية" صرنا نفتقدها كأننا مسافر قرر ألا يعود. المصريون فى بريطانيا صار لديهم نوع جديد من الثقة بالنفس، ولو ضمنيا.
الأسبوع الماضى كنت فى زيارة عائلية لبيت صديقي، المشجع الشرس لليفربول، كانت هذه هى المرة الأولى التى أقابل فيها ابنه صاحب الثمانية أعوام، عندما سألنى عن بلدي، قلت له مصر. بتلقائية سريعة وجدته يحدثنى عن الملك توت عنخ آمون، الذى بدأ للتو التعرف فى المدرسة عن شيء من تاريخه ومقتنياته فى المتحف المصري، الكلام عن توت عنخ آمون لم يستغرق سوى 5 دقائق فقط، قبل أن يستدرجنى بعدها لمدة ساعة كاملة للحديث عن "ملك مصري" آخر فى نظره، وهو محمد صلاح.
قصة محمد صلاح مع بريطانيا تحمل الكثير من التناقض والحوافز والإنجازات، عندما انضم لصفوف تشيلسى عام 2014، اعتقد الإنجليز أنهم وقعوا للتو فى صفقة خاسرة تماما.. افتقد لعب صلاح، فى عيون مشجعى تشيلسي، حينئذ الانسجام مع الفريق والقدرة على صنع الفارق، وعندما كنت تشاهده فى الملعب، الذى لا يبعد عن بيتى سوى بضع دقائق، تشعر أنك أمام شخص يعيش حلقات من الصراع الداخلي، وينهزم فيها واحدة تلو الأخرى.
عودة صلاح مرة أخرى إلى البريميرليج فى يونيو الماضى كانت مفاجأة. فى البداية شعر مشجعو ليفربول، الذى أنفق ناديهم 34 مليون جنيه إسترلينى لإتمام صفقته، أنهم خدعوا، وأن "صلاح لا يزال يرتدى قميص تشيلسي"، برغم التألق الذى أظهره مع فيورينتينا وروما. كتبت مشجعة على تويتر حينئذ، "لا أستطيع أن أقول إنه سيجعل فريقنا أفضل. ليس الوقت مناسبا لشرائه الآن، ليس على حساب بيدرو أو هازارد أو وليام."
حتى زميله فى الفريق أليكس أوكسليد تشامبرلين قال: "عندما وقعنا مع صلاح العام الماضى اعتقدت أنه لاعب مصرى عادي، بطريقة تفكير محدودة ومحلية وشخصية ضعيفة فى الملعب"، لكنه سرعان ما اكتشف أنه قائد وذكى وسريع بشكل مذهل، ويريد المزيد بمرور الوقت."
ما الفرق الذى حصل بالضبط بين "صلاح تشيلسي" و"صلاح ليفربول"؟ الإجابة بسيطة ومباشرة: صلاح مر بتغيير عميق فى الشخصية وطريقة التفكير.
استعداد صلاح للتطور وتغيره جذبانى لأول مرة بعد مباراة صعود مصر لكأس العالم أمام الكونغو. ليس هذا لاعب الكرة التقليدى والسطحى الذى لا تخرج مقابلاته التليفزيونية بعد المباراة عن ضرورة "إسعاد الجماهير" وأهمية "رعاية المسئولين" للمنتخب و"إحراز الثلاث نقاط".
فى مقابلة قصيرة أجريت معه شعرت أننى أستمع إلى شخص واع ومحترف، ولاحظت أن لغته ومفرداتها لا تختلف كثيرا عن لاعبى المنتخب الإنجليزى أو الألمانى أو الفرنسي. هذا هو السر. التحول إلى التفكير بمستوى عالمى "World Class Material".
كما يشكل صلاح فرصة للمصريين للشعور بالفخر، فهو تجسيد للازدواجية فى مفاهيمهم أيضا. صلاح مصري، وشيوخ نكاح الموتى وبول البعير، ونواب نظرية "المؤامرة الكونية" والإعلاميون الذين لا يعرفون "إمارة عمان" من سلطنة عمان، كلهم مصريون أيضا.
الفرق بين هؤلاء المسئولين عن المشهد الحالى فى مصر، وصلاح، هو أنه فهم ماذا يريد بالضبط، وعرف حدود إمكانياته وتصرف وفقا لحركة اندماج عميقة، ليس فى منظومة كرة القدم الغربية فقط، لكن اندمج فى المجتمع وطريقة تقييمه ونظرته للأمور أيضا.
رحلة صلاح تشبه مشوار كريستيانو رونالدو وتحولاته الشخصية. عندما وصل رونالدو إلى الدورى الإنجليزى ضمن صفقة انضمامه لصفوف مانشستر يونايتد، كان أقصى طموحه هو البقاء بجوار الخط كجناح أيمن، والمساهمة فى صنع اللعب فقط. فى لحظة ما أدرك رونالدو أنه قادر على فعل أكثر من ذلك وصناعة الفارق وإحراز الأهداف، وبدأنا منذ ذلك الحين نرى رونالدو آخر تماما. صلاح فى تشيلسى هو رونالدو فى مانشيستر يونايتد، التطور النفسى ذاته، وهو اليوم يمر بنفس التغير فى الطموح والأسلوب الذى مر به رونالدو فى رحلته إلى ريال مدريد.
وقتما كان يلعب فى تشيلسي، كان صلاح لاعبا مصريا عاديا، أقرب لعبدالله السعيد أو أحمد فتحى أو باسم مرسى فى طريقة التفكير. اليوم صلاح هو المصرى الذى نطمح إلى إخراجه جميعا من أعماقنا. كان صلاح فى تشيلسى "عبئا على الدورى الإنجليزي"، واليوم يدعو أحد جماهير ليفربول مازحا على تويتر إلى "ترشيحه لمنصب رئيس وزراء بريطانيا"!