ما الذي يغري كاتبة لتأليف كتاب عن "سامية جمال" (5 مارس 1924 – 1 ديسمبر 1994) تلك السيدة التي أعطت للرقص الشرقى معنى بعيدا عن كونه "مثيرا للغرائز" هذا ما فعلته ناهد صلاح حين أصدرت كتابها "سامية جمال الفراشة" عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع، في محاولة لإرساء كتابة تعوزها المكتبة العربية، فنحن نتحدث دائما عن مقال إدوارد سعيد عن تحية كاريوكا بنوع من الفخر، لأن (المفكر الكبير) كتب عن (راقصة) ومع ذلك لم تعرف الثقافة العربية مثل هذا النوع من الكتابات، ما يعكس نوعا من التعالي يمتلكه الكاتب العربي، وفي الوقت نفسه يخفي احتقارا مضمرا للفنون، خصوصا فن الرقص الشرقي. كانت ناهد صلاح واعية لمثل هذه الأفكار، وهي تسعى لإنجاز كتابها، حتى إنها تقول: "لم أهتم بطريقتها في الرقص أو بحضورها على شاشة السينما، ولا التأويل من الأساس لتكنيك ما يخصها في الأداء التعبيري، أو الأثر الذي تركته في تاريخ الرقص أو التمثيل، فلا هي تحية كاريوكا الراقصة والمناضلة السياسية، التي أغوت مفكرا مثل "إدوارد سعيد" ليكتب عنها كأسطورة من أساطير شبابه، ولا هي "جريتا جاربو" التي استفزت المفكر الفرنسي "رولان بارت" ليقدم كتابه "وجه جريتا جاربو" ولم تمتلك حظ "بريجيت باردو" لتؤلف عنها الكاتبة الوجودية "سيمون دي بوفوار" كتابا يستعرضها كظاهرة نفسية وعاطفية، استحوذت على المجتمع، لأسباب اقتصادية واجتماعية". توقفت ناهد صلاح عند صورة سامية جمال، التي تنعكس في مرايا الحياة والفن، وتبدو متعددة الأبعاد، يمكن النظر إليها من أي زاوية، فخلف ابتسامتها العريضة التي تخرج من شفتيها الممتلئتين، يسكن اللغز، وتتمدد خيوط النفس الحزينة، وتحاول أن تتدبر أمرها لتخرج من الشرنقة شرقا وغربا، فيما تتطلع إلى فضاء أوسع، ولا شأن لها بما يخبئه المصير، أو بمعنى آخر هي كالصبار، كما وصفها الناقد كمال رمزي، نبات يحفر طريقه بين الصخور، في الأجواء الموحشة، يكون غالبا أكثر قوة وأشد تمسكا بالبقاء. في هذا اليوم يكون قد مر على ذكرى ميلاد "سامية جمال" حوالي 94 عاما، لكن رحيلها في العام 1994 كان يحمل أحداثا درامية كبيرة في تاريخ هذا الوطن، ففي سبتمبر من هذا العام قام عمال كفر الدوار باحتجاجاتهم الغاضبة، وأقدم إرهابي غبي على طعن نجيب محفوظ في رقبته، في أكتوبر من العام ذاته، وضربت مصر موجة مفاجئة من الأمطار والسيول، التي لم تشهدها البلاد منذ 60 عاما، وكانت سامية جمال ترحل في صمت قرب نهاية العام 1914. رحلت الفنانة الكبيرة ابنة "ونا القس" تلك القرية الصغيرة من قرى الواسطى بمحافظة بني سويف، ولابد أنها وهي تستسلم لمنجل الموت يحصد روحها، تذكرت كيف فرت هاربة من قريتها، تاركة الفقر والتعذيب، لتبدأ مشوار الفن والنجومية والسفر والحب والشائعات والزواج والطلاق والاعتزال، لابد أنها تذكرت كيف كانت البداية من كازينو بديعة مصابني إلى شاشة السينما، وما حققته من رصيد يزيد على 70 فيلما، لابد أنها تذكرت شيئا عن علاقتها بفريد الأطرش والملك فاروق، وزواجها من الأمريكي شيبارد كينج، وبعده من رشدي أباظة، ثم الطلاق واعتزال الفن، والعودة مرة أخرى مع فرقة سمير صبري، ثم الاختفاء والرحيل النهائي. "زينب خليل إبراهيم" وهذا اسمها، قبل أن تحترف الفن، كانت الدنيا لديها أضيق من شوارع قريتها، أو من سطوح حارة ضيقة في شارع الأزهر، أول ما وطئت أقدامها في القاهرة، كانت تستطيع أن ترى أفقا للحلم وسط الدموع، خصوصا بعد "علقة ساخنة" من زوجة الأب ومن الأب ذاته، وكما تقول ناهد صلاح: "كانت تراه مجسدا أمامها حين تنفرد إلى نفسها، وتنصت إلى حفيف أجنحة الفراشات، التي تطير برشاقة حولها، وتخرج من إطارها المكاني، هذا الحفيف كان يستدرجها إلى الضوء، كانه يومئ لها بضرورة مغادرة الظلال، حياتها تلونت بالأبيض والأسود كقصص الحواديت القديمة، قبل أن تخرج إلى عالم الشهرة والأضواء، كان لابد لها من هذا الترحال حتى يكون لها قصة". تجاوزت سامية جمال فشلها الأول في عالم الرقص، لأنها صدقت أن لديها الحق في النجاح، وبدأت مشوارها بقروش قليلة منحتها لمدرب الرقص "إيزاك ديكسون" ثم دخولها المتمهل إلى عالم السينما بأدوار صغيرة، حتى ازدهر نجمها في الأفلام المشتركة مع فريد الأطرش، وتوالت أفلامها، وهنا تؤكد ناهد صلاح أن: "فتحها الأول في عالم الرقص، هو مزجها بين الشرقي والغربي، والذي ميزها بينما هي تتوق لخطوات مختلفة عن العادي، واعتبرت أن كل شيء ممكن في الرقص، الجسد خارج نطاق تكوينه العادي يصير أخف وزنا، ويتسع له فضاء يؤمن له الحركة بصخب الموسيقى وإيقاع النفس والروح الحرة في تلك اللحظة الخاطفة، التي تبتسم فيها لصوت قديم يشاكسها، هو حفيف فراشاتها". لا توجد بداية واحدة مشتركة بين جميع من أرخوا للحظة ميلاد سامية جمال، فالأب لدى أحدهم كان يعمل "ترزي ووالدتها تنحدر من أصول مغربية" ولدى آخر: "ولدت في إحدى قرى بني سويف في الصعيد، كان والدها قد تزوج من امرأتين، ثم انتقل إلى القاهرة، ليقيموا في حي شعبي بالأزهر، الذي كان يستقبل النازحين من الريف، لها أشقاء أكبر وأصغر منها سنا" لكن أشرف غريب يقول: "توفيت الأم وأعاد الأب إلى عصمته زوجته الأولى وتحول هناؤها إلى شقاء ولهوها ومرحها إلى سنوات من الأشغال الشاقة في منزل الأسرة". رحلة طويلة قطعتها سامية جمال، حملت من الشقاء أكثر مما حملت من الفرح، وانتهت بها إلى الترتيب للمجهول، فاشترت مدفنا في أول طريق السويس، وكانت تزوره من وقت لآخر، حتى ذهبت ذات مرة فوجدت اللوحة الرخام مكتوب عليها "الفنانة سامية جمال" فاعترضت وطلبت تغييرها، وأوصت وصية غريبة بأن يخرج جثمانها من سلم الخدم في هدوء، لقد حددت شكلا خاصا للنهاية، هكذا رتبت حالها قبل أن تداهم الأنيميا جسدها، ودخلت المستشفى إثر تعرضها لهبوط حاد في نسبة الهيموجلوبين، وقررت أن تغادر المستشفى بعد ثلاثة أيام، لكن الأمر تطلب فيما بعد استئصال جزء كبير من الأمعاء، ولم تتحسن بعد الجراحة فقد بدأت تفقد الوعي تدريجيا حتى رحلت في الأول من ديسمبر عام 1994.