في كلّ ذكرى لميلاد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر أو رحيله، وفي كلّ مناسبة تتعلق بهذا القائد التاريخي، تٌقدم المقاربات العديدة، وتٌطرح أسئلة كثيرة عمّا تبقى من عبد الناصر والناصرية؟ بعد سنوات الغياب الطويلة، والمتغيرات الجذرية التي حدثت، والمياه الهائجة التي جرت تحت سطح الواقع العربي والعالم. والسؤال الأهم من بين تلك الأسئلة لماذا بقي عبد الناصر، رمزا وفكرا وصورة، جزءا من يوميات المواطن العربي؟ تستعيده الذاكرة العربية حيّا في مواجهة التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية بين مرحلة وأخرى. إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في الإطار السياسي والإجتماعي والإقتصادي والقيمي والإنساني الذي قدمه عبد الناصر بعد سلسلة طويلة من المنجزات المادية والفكرية والإنتصارات والإنكسارات معا، التي صنعته، فكرة ورمزا، باتا جزءا من العقل الجمعي العربي تستعيدهما الذاكرة العربية في كلّ حين. وما أحوجنا اليوم في ذكرى ميلاد الزعيم أن نستعيد جوهر فكره التوحيدي على المستويين الوطني والقومي في مواجه أخطر وأصعب المراحل التي مرّت وتمرّ بها الأمة العربية، في ظل ظروف الإنقسام والتشتت والإستقطاب الطائفي والأقلوي والإرهاب والتوحش والتدخل الخارجي.. وأخطر هذه الظروف التي مهدت لذلك كله، هو الإستقطاب التمزيقي حول ثنائية طائفية وهمية مقيتة لا تمت بأي صلة للإسلام(عقيدة وشريعة) وللعروبة (هوية وإنتماء)، فرضتها صراعات تاريخية إقليمية بين بقايا إمبراطوريات وسلطنات تريد بعث ركامها من مقابر التاريخ، وغذتها مصالح دولية إستعمارية كانت تسود وتعيش على التمزيق الوطني والقومي والمجتمعي.. وكذلك الأمر بالنسبة للإستقطاب العرقي والأقلوي الذي خرج من سياقه التاريخي والإجتماعي والحقوقي والإنساني ليكون ورقة دولية وإقليمية، على حساب فكرة المواطنة والتعايش، وحدود ومسارات الحقوق المشروعة وفقا للقوانين الوطنية والدولية والإنسانية. وقد كان عبد الناصر يمتلك إدراكا متقدما في تحليله لأوهام الثنائية الطائفية وتوظيف الإستقطاب العرقي والأقلوي، لذلك كان الفكر القومي الناصري قد أقام مبكرا علاقة تكاملية بين الإنتماء الوطني والقومي ولم ير أيّ تناقض بين الإنتمائين، عبر التأكيد على ضرورة الوحدة الوطنية في كلّ بلد عربي كمدخل صحيح وسليم للوحدة القومية العربية.. فلم تشهد مرحلة الناصرية والمد القومي العربي الذي أطلقه عبد الناصر، أيّ إشكالات دينية أو طائفية أو عرقية أقلوية في مصر والوطن العربي عموما. حيث كان الإنتماء القومي العربي ومعركة التحرر القومي والوحدة العربية هما القضية الأولى والكبرى، ولم تكن لدوائر الإنتماء الفرعية أيّ ظل من الإعتبار أو الفاعلية.. فقد كان عبد الناصر حريصا على وحدة المسلمين والمسيحيين في إطار الإنتماء الوطني والقومي والمواطنة، وعلى وحدة العقيد الإسلامية ودور شريعتها عبادات ومعاملات في توحيد صفوف المسلمين في مواجهة شتى أنواع المخاطر. لذلك كان حريصا عبر الإمام الأكبر محمد شلتوت على التقريب بين المذاهب الإسلامية، من خلال تعميم دراسة "المذهب الجعفري" كمذهب خامس يٌدرس في الأزهر. وكان حريصا على دعم المعارضة الإيرانية في مواجهة الشاه، ممثلة بحركة آية الله الطالقاني والدكتور إبراهيم يزدي( عبد الناصر وثورة إيران- فتحي الديب). وحين زار وفد من القوى الناصرية في العراق مصر بعد عام 1963، سأل عبد الناصر الوفد: أين ناجي طالب؟ فأجاب أحد أعضاء الوفد بما يشي أنّه من ((طائفة أخرى))؟؟؟ قال عبد الناصر بحسم إنتهى الإجتماع.. وكان وعي عبد الناصر مبكرا بمشكلة الأقليات، فبعد ثورة 18 تشرين 1963 ذهب وفد عراقي لطلب الوحدة الفورية مع مصر، فأجابهم عبد الناصر، بأنه لن يعمل وحدة مع العراق إلا إذا تحققت وحدة وطنية يدخل إليها الأكراد مختارين لا مكرهين، وحثّ الوفد على ضرورة البحث عن حل سياسي يرضي جميع الأطراف، لأن الإستعمار سيدخل العراق من شماله، إذا لم تًحل المشكلة الكردية سياسيا وبالحوار والتفاهم. فيما كانت الأقليات الأخرى تجد في مصر الناصرية وطنا للجميع، حيث إرتبط الكثير من رموزها بعلاقات نضالية وإنسانية مع عبد الناصر. هكذا كان الزعيم الخالد عبد الناصر: في رؤيته التوحيدية وطنيا وقوميا، رافضا أي منحى طائفي أو عرقي يمزق الحقائق التاريخية والجغرافية والإجتماعية لأمة واحدة، مزقها أعدائها ضد إرادتها ومصالحها. وهكذا هي الناصرية: نظرية توحيدية وحدوية للأوطان والأمة العربية، تربأ بمنطلقاتها وأساليبها وأهدافها عن أيّ ثنائيات وخيارات تفتت وحدة الوجود القومي للأمة العربية، أو تصنع حواجز وهمية بين سكان الوطن العربي جميعا عربا وغير عرب. فما أحوجنا اليوم لجوهر الفكر الناصري التوحيدي وطنيا وعربيا في مواجهة أوهام الثنائيات التي نشرت بين أبناء الأمة الواحدة: فتاوى وحاكمية الإرهاب والإبادة والتوحش والطائفية والشعوبية والإستقواء بالتدخل والإحتلال الأجنبي.