شهد العراق فى نهاية أربعينيات وبداية خمسينيات القرن الماضي، أحداثا ووقائع كثيرة، كان فى مقدمتها تداعيات ثورة رشيد عالى الكيلانى ذات التوجه القومى العربى فى العام 1941، وقمعها عسكريا من قبل الاحتلال الإنجليزى والنظام الملكي. وحرب فلسطين عام 1948، وفرض الكيان الصهيونى على أرض فلسطين العربية من قبل بريطانيا وأمريكا خصوصا. وصراع الحركة الوطنية العراقية مع الاحتلال الإنجليزى والنظام الملكى معا الذى كانت أبرز تجلياته عددا من الانتفاضات والتظاهرات. الصراع داخل الحركة الوطنية العراقية نفسها بين التيار القومى العربى الذى كان متمثلا بشكل أساسى بحزب الاستقلال وما ينادى به من ضرورة الوحدة العربية، وبين بعض التيارات الانعزالية والشعوبية التى كانت تحاول عزل العراق عن انتمائه العربى وتفكيك هويته العربية. إضافة إلى المشكلات الداخلية التى تتعلق بالتعددية غير الرشيدة للهويات الفرعية، والمشكلات التاريخية والسياسية والحدودية فى مواجهة عداء ومطامع إيران وتركيا المنافسين الإقليميين الرئيسيين للعراق. فى الإطار العربى كانت هناك حركة تحرر ومد قومى عربى من أجل تحقيق الاستقلال فى مواجهة الاستعمار الأوروبي، وفى مواجهة الأطماع الدولية والإقليمية المتعددة فى الوطن العربي، بحكم إمساكه بأهم المفاصل والعقد الإستراتيجية والاقتصادية والحضارية فى العالم.. وفى خلفية وفضاء هذه الأحداث، كانت هناك التحولات الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، وما أفرزته من ترتيبات وأولويات ومصالح دولية وإقليمية، جسّدتها بشكل رئيسى الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالى والاشتراكي، وبروز حركة التحرر الوطنى العالمية فى مواجهة الاستعمار الغربي.
فى مواجهة هذه الخلفية بكلّ أبعادها الوطنية والعربية والإقليمية والدولية، وما أفرزته من حالة من التأزم الوطنى والسياسى والنفسى وتعقد المشكلات الوطنية، وغياب الأفق المنظور لقوى الحركة الوطنية العراقية، تفجّرت ثورة 23 يوليو فى مصر بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر فى عام 1952، التى كان استقبالها فى العراق بداية: بين الترحيب والترقب الحذرين معا. فقد أعطت مؤشرا أوليا بإمكانية انحياز الجيوش العربية إلى الشعب، وبالتالى تبلور قوة ثورية مسلحة قادرة على إحداث التغيير الثوري، فى مواجهة تحالف الاستعمار والأنظمة والقوى التقليدية من أحزاب بدائية وإقطاع متخلف ورأسمالية مستغلة ناشئة، وآلياته القمعية المادية والمعنوية. ما خلق حالة من الانسداد الثورى التى كانت الحركة الوطنية العراقية تبحث فى مواجهة إحباطاتها عن مصادر للأمل والتغيير، وهو ما وفّرته ثورة يوليو من حيث القوى والتوقيت والآمال والآفاق.. وفى نفس الوقت كان هناك نوع من الترقب الحذر، فى ظلّ عدم وضوح البرنامج السياسى للثورة سوى الأهداف الستة التى كانت بمجملها محلية، وإن كان الجانب التحررى والاجتماعى فيها أكثر وضوحا.
لكنّ سرعان ما تحوّل الترحيب والترقب والحذر، إلى تفاعل وتلاحم مع الثورة وقيادتها المتمثّلة بالزعيم الخالد جمال عبد الناصر، مع إعلان الجمهورية والإصلاح الزراعى وبرامج التنمية والانحياز الاجتماعى إلى الفلاحين والعمال، وكسر احتكار السلاح ودعم حركات التحرر الوطنى العربية والعالمية، ومواجهة حلف بغداد وغيره من الأحلاف الاستعمارية، والانفتاح على العالم الثالث عبر حركة الحياد الإيجابى ثمّ عدم الإنحياز، وبالتالى إطلاق حركة مدّ تحررى وقومى واجتماعى تجاوزت مصر إلى رحاب الوطن العربى والعالم الثالث والمجتمع الدولي. وكان صدور فلسفة الثورة التى تضمّنت رؤية قائد الثورة الإستراتيجية للبعد العربى والالتزام بالفكر القومى العربي، خصوصا فى تأكيده على جدلية الدوائر الثلاث العربية والإفريقية والإسلامية، حيث وصف الدائرة العربية الأولى (بأنّها منّا ونحن منها)، وبالتالى ترسيخ إستراتيجى لعروبة مصر وقدرها القومي. كان صدور فلسفة الثورة وإستراتيجية الدوائر الثلاث التى تقدمتها الدائرة العربية (انتماء وهوية)، المفردة الرئيسية التى التقطها التيار القومى العربى فى العراق، وبدأ يبلور فى ضوئها رؤية متناغمة مع المنجزات المادية والفكرية لثورة يوليو.
وكانت نقطة التحول الكبرى الحاسمة التى شهدت الولادة الثورية الحقيقية للتيار القومى الناصرى فى العراق بشكل عام والوطن العربي، هى تأميم قناة السويس والانتصار التاريخى الذى حققه الزعيم الخالد فى مواجهة العدوان الثلاثي، حيث شهد العراق والوطن العربى تظاهرات عارمة عمّت كلّ مدينة وقرية بطريقة يمكن وصفها بأنّها “حالة ناصرية”، دعما لقيادة جمال عبد الناصر الذى أصبح الزعيم العربى المنتخب شعبيا من المواطنين العرب.. فبدأت الأحزاب الناصرية تتشكّل إما استلهاما للتجربة التنظيمية للزعيم عبد الناصر، أو تبنى الرؤية الناصرية بالنسبة للأحزاب القومية القائمة فى ذلك الوقت، كحزب الاستقلال وحركة القوميين العرب وحزب البعث فى بداياته الأولى.. وتجذّر التيار الناصرى مع تجربة الوحدة العربية بين مصر وسوريا (ج ع م)، التى جسّدت الفكر القومى العربى ودعوة الوحدة العربية إلى واقع شعبى ودستورى ومؤسسي، وكانت ثورة 14 تموز 1958 فى العراق إضافة نوعية لمجرى الفكر الناصرى والقومى بشكل عام، التى جاءت بهدفين رئيسيين: التوحيد على المستوى الوطنى عبر بناء وحدة وطنية ديمقراطية حقيقية، والتوحيد على المستوى العربى مع الجمهورية العربية المتحدة.. وقد كانت تجربة الانفصال على مرارتها درسا بالغ الأهمية على مستوى التطور الفكرى للنظرية الناصرية، التى طرحت ميثاق العمل الوطنى دليلا فكريا تضمّن إطارا نظريا ونسقا فكريا مفتوحا على المستقبل، والتحول الاشتراكى والتنمية فى كلّ المجالات، ثمّ تبنى نظرية للعمل الوحدوى تقوم على الدعوة الجماهيرية والعمل السلمى ثمّ الإجماع الشعبى تتويجا للدعوة والعمل معا.
وقد تشكّل خلال الفترة، من العدوان الثلاثى وتجربة الوحدة وثورة 14 تموز وآثارها وإلى النكسة وانقلاب 17 تموز 1968، عدد من الأحزاب والتنظيمات الناصرية إلى جانب حركة القوميين العرب التى كانت ناصرية إلى أن حدثت النكسة وانشقّت إلى جناحين، جناح ماركسى وجناح بقى متمسكا بالناصرية.. فقد شكّل كلّ من فؤاد الركابى (الحركة الاشتراكية العربية-الجناح الناصري) وأياد سعيد ثابت (مؤتمر القوميين الاشتراكيين) ورشيد محسن (الحزب الاشتراكي)، وعدد من القيادات القومية (حزب الوحدة الاشتراكي) وانبثق من حزب الاستقلال (الحزب العربى الاشتراكي)، وغير ذلك من التنظيمات والتجمعات المهنية والاجتماعية. كما شكّل الرئيس الراحل عبد السلام عارف إلى جانب مجموعة من رموز التيار القومى الناصري (الاتحاد الاشتراكى العربي) على غرار الاتحاد الاشتراكى العربى فى مصر، كما كانت هناك نواة للتنظيم الطليعى فى العراق الذى أسسه عبد الناصر فى إطار الاتحاد الاشتراكي.
لقد كانت تجربة حزب البعث فى السلطة شديدة على التيار الناصرى فى العراق، بحيث كان من النادر أن تجد ناصريا فى العراق لم يُعتقل أو يُسجن، وتمّ تفكيك أغلب التنظيمات الناصرية أسوة بأطراف الحركة الوطنية العراقية الأخرى، وتمّ إعدام مئات الناصريين تحت التعذيب أو من خلال أحكام الإعدام ومطاردتهم حتى خارج العراق،(كما حدث لبعض الشخصيات الناصرية من محاولات إغتيال فى القاهرة)، ولم تُسلّم جثث البعض منهم إلى الآن، لنكتشف بعد ذلك أنهم استخدموا فئران تجارب للأسلحة الكيماوية أو وسائل التعذيب التى كان يتفنّن فيها النظام، ومن بين هؤلاء الشهداء الذى لم تُسلّم جثثهم: حميد زيد الشمرى وجاسم الياسين ومتعب صلال الشمرى وطلال عبد الجبار بكر ومحمد يونس أصلان، وجميعهم من الموصل، إضافة إلى الشهداء الآخرين من محافظاتالعراق الأخرى، إلى جانب الزج بمئات الناصريين فى السجون والمعتقلات، كسجن ديالى وأبو غريب وقصر النهاية والفضيلية وسجون مديريات الأمن والأجهزة القمعية الأخرى التى كانت منتشرة فى العراق بكامله.. لكن هذه الوسائل من القمع والقتل والإقصاء لم تكسر إرادة التيار الناصرى فى العراق.
كلّ هذه الظروف السياسية والقمعية والحروب الداخلية والخارجية، قادت فى النهاية إلى الاحتلال الأمريكى وإفرازاته الطائفية والعرقية ومحاولة تمزيق النسيج الوطنى والاجتماعى وتفكيك هوية العراق العربية، ليجد التيار الناصرى فى العراق نفسه أمام متغيرات ومعطيات جديدة. كان من أبرزها محاولات الاحتلال الأمريكى وحلفائه المحليين والإقليميين ضرب عروبة العراق وتعبيراتها الفكرية والسياسية والاجتماعية، عبر وضع التيار القومى العربى بأكمله فى سلّة واحدة مع النظام السابق الذى كان التيار الناصرى أولى ضحاياه، من خلال الحديث عن (القومجية) و(العراق الجديد) المنسلخ عن عروبته وحقائقه التاريخية والجغرافية العربية.
إلاّ أن كلّ محاولات الاحتلال الأمريكى وحلفائه المحليين والإقليميين لم تفلح فى سلخ العراق عن عروبته، عبر مشاريع تفكيك الهوية العربية وإضعاف الغالبية العربية الساحقة بأوهام الثنائية الطائفية المقيتة، وتسليط الإرهاب والتوحش والفوضى على العراق والوطن العربي، التى كان آخر فصولها المهزومة داعش الإرهابي.. وها هى الذكرى الخامسة والستون لثورة 23 يوليو تطلّ على مصر والعراق والأمة العربية جمعاء، وقد بدأت جحافل الاحتلال الأمريكى والغربى تحمل عصاها وترحل، ومجاميع داعش الإرهابية المتوحشة تواجه هزيمة كاملة محتّمة فى العراق وسورية وليبيا وعلى امتداد الساحة العربية، والمقاطعة العربية لداعمى الإرهاب استكملت حلقاتها عربيا، لتنتقل إقليميا إلى نظامى الفصل العنصرى والطائفى فى طهران وأنقرة، وذلك بفعل صمود الأمة العربية وجيوشها العربية الباسلة فى مصر وسورية والعراق وليبيا، وثورة 30 يونيو المجيدة فى مصر العروبة.
وبالتالى عودة الاعتبار والمصداقية والفاعلية والزخم لثورة 23 يوليو الناصرية، وخطها التحررى للوطن والمواطن وبناء ديمقراطية المواطنة لا محميات الطوائف والأعراق والمكونات، والاشتراكى فى الكفاية فى الإنتاج والعدالة فى التوزيع والتنمية المستقلة، والوحدوى على المستويين الوطنى والعربي، والعالمى فى العمل من أجل المساواة والسلام والتعاون والأمن الدولى ونبذ كلّ أشكال الاستعمار والاحتلال والهيمنة.. الأمر الذى يفرض على التيار القومى الناصرى فى العراق والوطن العربى والحركة الوطنية العربية والأمة العربية جمعاء، إعادة قراءة الوقائع والمعطيات والمتغيرات، من أجل إعادة تعريف المصالح والأولويات العربية ومصادر التهديد والمخاطر، باتجاه بلورة مشروع عربى يستلهم من ثورة 23 يوليو خطها النهضوى العام، لفرض العرب أنفسهم قطبا حضاريا وسياسيا وأمنيا واقتصاديا وإستراتيجيا، وتحت أيّ شكل دستورى فاعل، فى ظلّ عالم باتت معايير المصالح والقوة هى الحاكمة لمسارات العلاقات الدولية، التى حوّلت الوطن العربى إلى محل وموضوع للإرهاب والتوحش والمشاريع والترتيبات الدولية والإقليمية، ما يتطلّب أقصى درجات الاستجابة والتوحيد والوحدة الوطنية والقومية على المستويين الوطنى والعربي.