الدولة التى هزمت أمريكا شر هزيمة وطردت الفرنسيين بعد حرب طويلة مكاسب كبيرة للاقتصاد المصرى من التعاون مع فيتنام
بطولات الشعب الفيتنامى ما زالت مادة دسمة للسينما العالمية
نجحت فى التحول من الفقر المدقع إلى تحقيق أعلى معدلات النمو
حفر شعب فيتنام صورة أسطورية لبلاده فى أذهان العالم مرتين خلال نصف قرن: الأولى فى الحرب التى لا مثيل فى دمارها عبر التاريخ الحديث للإنسانية، والثانية فى الانبعاث من ركام هذه الحرب، إلى بناء دولة مستقرة ناهضة، تزرع وتصنع وتنتج وتصدر، وتستقبل ملايين السياح ومليارات الدولارات من الاستثمارات.
وحرصاً من الدبلوماسية الرئاسية التى يقودها الرئيس عبد الفتاح السيسى على تنويع وتعميق العلاقات المصرية مع كل دول الكرة الأرضية من غربها إلى شرقها، ومن شمالها إلى جنوبها، تأتى زيارة الرئيس السيسى لهانوى، عاصمة فيتنام بعد مشاركته فى قمة البريكس فى الصين، أكبر دليل على تنوع العلاقات المصرية مع دول العالم باعتبارها أول زيارة لرئيس مصرى إلى فيتنام.
وهناك تشابه كبير بين مسار الدولة المصرية فى الكفاح والتحرر وعدد السكان بين مصر وفيتنام، لأن فيتنام صاحبة التاريخ الطويل ومسار الاستقلال المهم فى رحلتها نحو التحرر، وبلد الزعيم التاريخى “هوتشى منه”، حيث التقى الرئيس خلال الزيارة كبار المسئولين الفيتناميين، وفى مقدمتهم الرئيس، وسكرتير عام الحزب الشيوعى، ورئيس الجمعية الوطنية “البرلمان” ورئيس الوزراء، بهدف بحث سبل تطوير وتعزيز العلاقات التاريخية بين البلدين فى مختلف المجالات.
العلاقات المصرية - الفيتنامية قديمة وتاريخية، إذ تمثل مصر إحدى الدول التى بادرت بفتح سفارة بالعاصمة “هانوى” إبان الحرب الفيتنامية فى العام 1963، وقد تطورت العلاقات الثنائية بشكل ملحوظ على مدار تلك السنوات، فتم توقيع عدد من اتفاقيات التعاون فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والتجارية، فضلا عن تبادل التأييد فى المحافل الدولية، وعقد مشاورات سياسية منتظمة بين الجانبين على مستوى مساعدى وزيرى الخارجية، وتمثل اجتماعات اللجنة الوزارية المشتركة بين البلدين أهم آليات التعاون القائمة بين مصر وفيتنام، وقد انعقدت حتى الآن أربع دورات للجنة المشتركة، آخرها التى عُقدت بالقاهرة فى نوفمبر 2008، وتمت مناقشة سبل سد احتياجات فيتنام من المنتج المصرى من البترول والغاز والأسمدة واليوريا والأدوية، واتفق الجانبان على اتخاذ الخطوات اللازمة لإقامة تعاون مشترك بين البلدين، بإقامة مشروع مشترك فى مجال الثروة السمكية والاستزراع السمكى فى مصر باستخدام الخبرة الفيتنامية المتطورة فى هذا المجال، وبحث إمكانية مساعدة مصر لفيتنام فى إقامة مشروعات توصيل الكهرباء وتوليد الطاقة فى القرى والمدن الفيتنامية، بالاستعانة بخبرتها المتقدمة فى هذا المجال.
نصر ومميش مهدا لزيارة السيسى
وتعد زيارة الدكتورة سحر نصر، وزير الاستثمار والتعاون الدولى، والفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس ورئيس المنطقة الاقتصادية للقناة، لدولة فيتنام خلال الأسبوع قبل الماضى، خطوة نحو تعزيز التعاون فى مجالات بناء السفن والمزارع السمكية والأدوية والصناعات الغذائية، إذ اتفقت وزيرة الاستثمار، مع وزيرى التخطيط والاستثمار والنقل الفيتناميين، على توقيع 5 مذكرات تفاهم بين الجانبين فى مجالات الاستثمار والبورصة والموانئ، فضلا عن إقامة منتدى أعمال مصرى فيتنامى. من جانبه، أعرب كوك هانج، نائب وزير الصناعة والتجارة الفيتنامى، خلال المباحثات المشتركة، عن رغبة بلاده فى إقامة مشروعات استثمارية فى الاستزراع السمكى فى محور تنمية قناة السويس، واتفق الجانبان خلال أعمال اللجنة المصرية الفيتنامية التى عُقدت على مدار يومين، على 8 مذكرات تفاهم سيتم توقيعها قريبا، وقد وقعت مصر وفيتنام عددا من الاتفاقيات الثنائية، تغطى مختلف المجالات التجارية والاستثمارية والسياحية والزراعية والثقافية، علما بأن آخر اتفاق تم توقيعه هو اتفاق إعفاء جوازات السفر الدبلوماسية والخاصة والمهمة من تأشيرات الدخول فى هانوى عام 2010.
شراكة اقتصادية
تستورد فيتنام قائمة من السلع الإستراتيجية بكميات كبيرة، أهمها الحديد والصلب بإجمالى 6 مليارات دولار سنويا، والمنتجات الكيماوية بما يقرب من 5.2 مليار دولار، والأدوية بما يقرب من 1.7 مليار دولار، والأسمدة ب 1.6 مليار دولار، والنسيج الخام ب1.4 مليار دولار، والقطن ب875 مليون دولار، والألبان ومنتجاتها ب850 مليون دولار، وتتوافر كل تلك المنتجات فى مصر ويمكن تصديرها ل”فيتنام” لتكون سوقا مهمة للسلع المصرية وموردا ضخما للعملة الصعبة. إلى جانب الشق الاقتصادى، تقدم مصر عددا من المنح الدراسية للطلبة والباحثين الفيتناميين، تتضمن 12 منحة لدراسة اللغة العربية فى جامعة القاهرة، لطلبة جامعتى هانوى وهوتشى منه للغات، و3 منح دراسية بالأزهر الشريف للطلاب الفيتناميين من المسلمين، و5 منح لدورات تدريبية من المركز الدولى بوزارة الزراعة، وعقب افتتاح قسم اللغة العربية بكلية اللغات الأجنبية بجامعة هانوى الوطنية فى فيتنام بالعام 2006، يوفد الأزهر الشريف أستاذا مصريا للإشراف على دراسة اللغة العربية به، الأمر الذى كان له عظيم الأثر فى تنمية قدرات الطلبة ونجاح الدراسة بالقسم.
تجربة تستحق الاهتمام
لدى فيتنام تجربة إنسانية جديرة بالتأمل والاستفادة من دروسها، خصوصا مع كثير من التشابه، بين ظروفها وظروف مصر فى عدد السكان والحروب والمشكلات الاجتماعية، والبيئة الإقليمية، مع معطيات أكثر صعوبة اجتازها الفيتناميون، وعبروا ببلادهم منها إلى مسار النمو والحداثة والتقدم، حتى صنف شعبها ضمن أكثر شعوب العالم سعادة، طبقا لتقرير مؤشر السعادة فى العالم الذى ضم نحو 155 دولة بمعايير كل من متوسط العمر المتوقع، ومستوى الرفاهية، والمساواة، والعوامل البيئية
الفشل وبداية التحول
اتجهت الدولة لتنمية الجنوب على غرار النمط الشيوعى فى الشمال، وترسيخ إحكام سيطرة الدولة على الاقتصاد، وإنشاء «المناطق الاقتصادية الجديدة»، ونقل السكان قسرا إليها، وفرض نظام المزارع الجماعية والتوريد الإجبارى لمحاصيل الحبوب، لكن كل ذلك لم يؤد إلى تحقيق التنمية وأدى إلى نقص حاد فى المحاصيل الزراعية
- حاول النظام الشيوعى آنذاك الهروب من فشله، فاتبع سياسة اختلاق العداء مع الخارج، فقام باضطهاد الأقلية الصينية، واتخذ ضدهم إجراءات تعسفية، مما اضطر معه كثير من فيتناميىالجنوب ومن ذوى الأصول الصينية إلى النزوح بوساطة زوارق صغيرة محفوفة بالمخاطر للجوء إلى بعض دول جنوب شرقى آسيا. - فى عام 1978 اشتعلت الحروب مع “الشقيقتين الاشتراكيتين كمبودياوالصين” فاجتاحت فيتنام دولة كمبوديا ولم تنسحب منها إلا فى سبتمبر عام 1989، ونتيجة ذلك أوقفت الصين كل مساعداتها بل قامت عام 1979 بغزو فيتنام فى حرب قصيرة راح ضحيتها 60 ألف قتيل من الجانبين، وأصبحت فيتنام بين فشل فى الداخل، وعزلة دولية وحروب طاحنة فى الخارج. - فى ديسمبر عام 1986، مارس مؤتمر الحزب الشيوعى فى فيتنام النقد الذاتي، واعترف بأخطاء السنوات الماضية، وتقييم نتائجها بعناية، وتحليل الأخطاء والعيوب، وأعلن ما سماه “سياسة التجديد”، وتحديث هياكل الدولة، وقرر تبنى سياسية التحول من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، كما قرر الحد من الدعم الذى تقدمه الدولة، وتنويع ملكية الأصول المملوكة ملكية عامة، وتشجيع وتحفيز تنمية المؤسسات الخاصة والأفراد والقطاعات الاقتصادية، والاستغلال الأمثل للموارد من أجل تنمية الإنتاج وتبادل السلع، وهنا كانت البداية لما وصلت له فيتنام اليوم.
للشعب الفيتنامى تاريخ طويل من النضال والبطولات، فتحرر أولاً من الاستعمار الفرنسى، ثم ألحق هزيمة ساحقة بأكبر قوة عسكرية فى التاريخ الإنسانى الحديث هى الولاياتالمتحدةالأمريكية (وحلفاؤها المحليين)، فى ملحمة هزت ضمير الإنسانية وحازت تقدير العدو قبل الصديق، وخلدتها السينما العالمية فى عشرات الأفلام التى جسدت معاناة الجنود الأمريكيين، وبشاعة ما يقترفه جيشهم، وصمود المقاومة الفيتنامية.
ورغم مرور عشرات السنين ما زالت حرب فيتنام الأولى والثانية، معينا لا ينضب كمصدر إلهام لصناع السينما الأمريكية والكورية والإيطالية والفرنسية. وخرجت أمريكا تجر أذيال هزيمتها و58 ألف جثة لقتلاها وثلاثمائة ألف جريح، بينما تركت فيتنام تلعق جراح وطن مدمر سقط منه أكثر من مليونى قتيل معظمهم من شمال فيتنام، وثلاثة ملايين جريح و13 مليون مشرد من الشمال يمثلون نصف سكانه آنذاك. ولم يبق فى البلاد مبنى سليم، ولا جسر قائم، ولا مصنع ولا منشأة، بل لم تكن بها شجرة قائمة ولا أرض تصلح لشىء، بعدما مسح الأمريكيون كل مقومات الحياة للنبات والحيوان على أرضها، بإلقاء 100 ألف طن من النابالم الحارق، و11 مليون جالون من المبيد الحشرى القاتل للحياة والنباتات الذى عرف باسم السائل البرتقالي، إضافة إلى إلقاء 21 مليون قنبلة و14 مليون طن من القذائف المتنوعة. لكن الأسوأ من كل ذلك، تركت الحرب فى فيتنام شعباً منهكاً لا يصلح لشىء، إلا للقتال وحروب العصابات، شعب منقسم بين شقين، حارب كل منهما الآخر إلى حد الإبادة، وانقسامات عرقية إلى حد التطهير العرقي، فدخلت فيتنام فى محنة أسوأ من الحرب، وغرقت لمدة عشر سنوات أخرى فى حروب داخلية وخارجية، وفشل القادة الذين انتصروا فى الحرب فى إدارة البلاد، ففر السكان بالقوارب، باحثين عن لجوء خارجى، ووقع الباقون فى براثن الجوع والبطالة
لحظات مواجهة الحقيقة
وفى ديسمبر عام 1986، حانت لحظة مواجهة الحقيقة، وشجاعة الاعتراف بالخطايا، وامتلكها فعلا مؤتمر الحزب الشيوعى الفيتنامي، فى اجتماع تاريخى (يشبه ما فعلته الجارة الكبرى الصين فى الاجتماع ال 11 للحزب الشيوعى الصينى عام 1978 )، فاعترف القادة الفيتناميون بالفشل، وبدأت حملة النقد الذاتى وعلاج الأخطاء والعيوب، فى السياسة والحكم وفى الاقتصاد والإنتاج، وأعلنت سياسة التجديد، »Doi Moi»، مع إيلاء أولوية قصوى للإصلاح الاقتصادى من أجل خلق مجتمع متعدد القطاعات فى السوق التى تنظمها الحكومة، فى الوقت نفسه تعزيز البيئة القانونية وتجديد الحزب والدولة والهياكل الإدارية. ومنذ ذلك الحين بدأ انفتاح الاقتصاد الفيتنامى وتحولت من الاقتصاد المخطط مركزيا بشدة إلى سوق تعددية، ولم يكن طريق الإصلاح سهلا، ولم تبدأ ثماره فى الظهور إلا مع بداية
تسعينيات القرن الماضي، عندما تحقق الاكتفاء الذاتى فى الأرز، وصدرت فيتنام أول مليون طن من الفائض، ثم انطلق النمو وتحققت معجزة اقتصادية، حيث بلغ متوسط النمو السنوى نحو 7 % من عام 1990 حتى عام 2016، وتراجعت نسبة المواطنين تحت خط الفقر من 60 % عام 1999 الى 11% عام 2014، وانتقل الاقتصاد من أفقر دول العالم بمتوسط دخل الفرد 100 دولار فى نهاية السبعينيات إلى إحدى دول الدخل المتوسط بنحو 2000 دولار نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي، الذى بلغ 200 مليار دولار مقسوما على عدد السكان الذى يقرب من 100 مليون نسمة. وتضاعفت الصادرات بزيادة نحو 20 % سنوياً حتى وصلت إلى 165 مليار دولار عام 2014 (سبعة أضعاف صادرات مصر) والواردات 150 مليار دولار بفائض 15 مليار دولار فى الميزان التجاري، وبلغ التضخم أقل من 1 % عام 2015 بعدما تجاوز 76 % عام 1990، بينما وصل عجز الميزانية إلى حدود 1.2 % من الناتج المحلى الإجمالي، والدين العام الخارجى أقل من 50 % من الناتج المحلى الإجمالي.
وبلغ عدد العاملين نحو 55 مليون نسمة فى الترتيب 12 عالمياً، والبطالة 3.5 % فى الترتيب 30 عالمياً، والاستثمارات الأجنبية المباشرة تتضاعف بسرعة نتيجة رخص تكلفة العمالة المتعلمة والمدربة بعدما تحول شباب فيتنام إلى ثروة وطنية نتيجة سياسة تعليمية ناجحة ينفق عليها أكثر من 7 % من الناتج المحلى الإجمالي. وزار فيتنام نحو 8 ملايين سائح حققوا دخلا بلغ 16 مليار دولار فى عام 2015، وتحولت فيتنام إلى خامس أكبر دولة مصدرة فى العالم للملابس الجاهزة بنحو 20 مليار دولار سنويا، رغم أنها لا تزرع القطن وإنما تستورده من الولاياتالمتحدة والهند وجنوب إفريقيا، ثم تقوم بتصنيعه وتصدير الملابس الجاهزة.
وهكذا عرف شباب العالم الذى لم يعاصر الحرب فى فيتنام مرتين، مرة بنضالها التاريخى كما جسدته لهم السينما، ومرة بإنتاجها الغزير المتميز فيما يرتدونه من ملابس وأحذية رياضية تقتحم كل أسواق العالم.