الإعلام العالمى تورط فى نقل رسائل داعش عبر الإنترنت مقاتلو التنظيم ينشرون صورهم (سيلفى) على مواقع التواصل
فى أواخر يونيو 2017 نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية على موقعها الإلكترونى تقريرا بعنوان: "داعش تحظر على مقاتليها استخدام مواقع التواصل الاجتماعى وسط قلق مرضى من التجسس والمعارضة".
وجاء فى التفاصيل أن داعش أصدرت مرسوما يحظر على مقاتليها استخدام مواقع التواصل الاجتماعى، وسط تزايد القلق من التسلل وتتبع وكالات المخابرات الأجنبية لخلاياها. وزعمت وثيقة من "اللجنة المفوضة" الإدارية للتنظيم - بحسب الصحيفة البريطانية - أن عددا من مسلحيه قتلوا بسبب عدم الاحتراس فى نشاطهم على الإنترنت، وهدد التنظيم مقاتليه ب "الاستجواب والمساءلة" لكل من يخرق الحظر. وجاء فى المنشور المزعوم:"إن أعداء الدين قد اتخذوا وسائل مختلفة من أجل اختراق صفوف الموحدين وتعلم أسرارهم، ومن هذه الوسائل مواقع التواصل الاجتماعى، (فيسبوك وتويتر وتلجرام وغيرها) حيث إن استخدامها على نطاق واسع بين جنود الدولة الإسلامية يحمل ضررا كبيرا".
اخترعها أعداء الله
ولعل من اللافت للنظر فى الوثيقة المزعومة، والمؤرخة بتاريخ 14 مايو 2017، أن التنظيم وصف مواقع التواصل الاجتماعى بأنها من إنشاء "أعداء الله.. ويجرى رصدها لهم ليلا ونهارا"، مضيفا: "كم مجاهد قتل بسبب هذا"! وربما ترجع أهمية هذا الوصف، إلى أن التنظيم يتنصل به من مواقع التواصل الاجتماعى التى كانت على مدار سنوات أداته الأولى لتجنيد مقاتلين جدد، والترويج لدعايته. ونعود إلى الإندبندنت التى نقلت عمن وصفتهم بباحثين فى مركز مكافحة الإرهاب، ومقره الأكاديمية العسكرية الأمريكية فى ويست بوينت، أن مقاتلى داعش تسببوا دون قصد فى حدوث خروقات أمنية فى العديد من الحالات الموثقة. وفى يونيو 2015، نشر مسلح صورة "سيلفي" كاملة على الإنترنت مع بيانات تحديد الموقع الجغرافى الذى نشر منه الصورة، ما تسبب فى تعقبها من قبل المخابرات الأمريكية، وتدميرها فى غارة جوية.
وقد حاول عدد من قادة داعش الحد من استخدام أعضاء التنظيم لمواقع التواصل الاجتماعى منذ سبتمبر 2014 - بحسب باحثين - محذرا منها، ثم قام التنظيم فى وقت لاحق بحظر نشر مقاتليه أية بيانات نيابة عن التنظيم الإرهابى.
تحول إستراتيجى هذا التحول الإستراتيجى - إن صح التعبير - فى تعامل التنظيم مع مواقع التواصل الاجتماعى مثيرا للدهشة، ليس فقط من درجة هذا التحول، من النقيض إلى النقيض، وإنما كذلك من سرعته، وربما يجدر بنا هنا التوقف لرصد كيف تعامل التنظيم الإرهابى مع مواقع التواصل الاجتماعى فى المرحلة الأولى من نشأته، أو بالأحرى كيف استخدمها بحرفية عالية لتحقيق أهدافه. فى عام 2016 نشرت مجلة (حلف شمال الأطلسي) "ناتو" دراسة ل"نيكول ماتيجيك"، المدير التنفيذى للمقر الرئيسى لعمليات المعلومات - وهى مؤسسة بحثية مدنية عسكرية أسترالية، تعلن أنها تعمل على نطاق واسع عبر مجال المعلومات لمنع التطرف العنيف وبناء مرونة وتماسك اجتماعى - تركزت الدراسة التى استمرت على مدار 18 شهرا كاملة، حول المقاتلين الأستراليين فى صفوف التنظيم، وتعامل الجهات الحكومية الفاعلة فى بلادهم مع القضية، لتخلص إلى أن ما يسمى بتنظيم "الدولة الإسلامية فى العراق والشام" (داعش)، يدير شبكة متطورة على مستوى الأفراد، وهو أمر بعيد تمامًا عن التصور السائد بأن "وسائل التواصل الاجتماعي" وحدها هى السبب لتطرف الشباب من الرجال والنساء، وأن هذه الشبكة "شديدة الفاعلية" تعتبر الدليل القاطع على تطور استخدام "داعش" لوسائل الاتصالات بشكل عام، ونجاحه - غير المسبوق ربما- فيما يمكن وصفه بتسويق المحتوى الداعم للإرهاب.
حرب المحتوى
فى مقدمة الدراسة يقول "ماتيجيك": ضع عبارة "التسويق لجيل الألفية" فى محرك البحث جوجل "Google"، واضغط "بحث" لتظهر فى جزء من الثانية مئات الصور والمعلومات بدءا بالبيانات الديموغرافية (الخاصة بالسكان وتصنيفاتهم)، إلى عادات الإنفاق وخرائط تعاملهم مع الشبكات الاجتماعية، ودراسات حالة العلامات التجارية. الاختلاف الوحيد يكمن فى أنه بدلاً من استخدام هذه المعلومات فى تسويق مستحضرات التجميل، أو الملابس والسيارات، نقوم عناصر "داعش" بتنفيذ توصيات خطط تسويق المحتوى - سابقة الإعداد - هذه لنشر الإرهاب، فلم تعد الخطة الإستراتيجية لتسويق محتوى داعش أو "حرب المحتوى" حربا سرية.
على أن المحتوى الذى تقوم داعش بتسويقه، ليس مباشرا أو ساذجا، وإنما يستهدف الوصول إلى العديد من فئات الأشخاص بنفس المستوى من الدقة. ويتأتى ذلك من خلال إنشاء فضاء معلوماتى زاخر بالمحتوى المراد نشره وتسويقه فى فترة معينة، ويزيد عدم وجود معلومات بديلة من تمكين نطاق معلوماتهم، بحيث تصبح البدائل - إن وجدت- ضعيفة الأثر.
وهنا تتبدى بشكل واضح خطورة عدم وجود محتوى "معتدل" أو مختلف يكافئ أو يعادل المحتوى "المتطرف" الذى يسعى التنظيم الإرهابى لترويجه، ومع تكرار التعرض لهذا المحتوى من قبل من تم الاصطلاح على تسميتهم ب"الجهاديين المحتملين"، ويتردد صدى هذا المحتوى لديهم من خلال التكرار والدمج ما بين الروايات الثقافية واللغوية والدينية، وفى أغلب الأوقات الاقتصادية التى تثير مشاعر الغضب لتحرك مشاعر المحاربين وتنمى الشعور بالانتماء إلى "الأمة الإسلامية العالمية"، التى يعرفها ماتيجيك بأنها (كلمة عربية تعنى "المجتمع"، وعلى نحو أكثر تحديدًا المجتمع المسلم).
خطيئة الإعلام فى الوقت الذى يعمد فيها منتسبو "داعش" إلى نشر وتكثيف المحتوى الإلكترونى الخاص بهم، ليس فقط فى صورة بحوث ودراسات أو فتاوى لمنظرى التنظيم، وإنما أيضا فى تغطية عملياته، وتضخيمها، حيث يلجأ بعض أعضاء التنظيم إلى اعتماد أساليب قاسية وبشعة وممنهجة فى التنكيل بمن يعتبرهم التنظيم المتطرف خصوما له. وسعيا وراء السبق الصحفى أو التغطية الإعلامية الموسعة، وسط منافسة شرسة، ودون وجود "كتاب أسلوب" أو ميثاق شرف مشترك يحكم تغطية وسائل الإعلام العالمية لما يتعلق بأخبار التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم داعش، تبارت وسائل الإعلام العالمية فى نشر محتوى داعش على نطاق واسع. وبانتشارها سريعًا على العناوين الرئيسية للمواقع الإلكترونية الإخبارية أو المدونات، وبطبيعة الحال مواقع التواصل الاجتماعي، اعتاد ملايين البشر على هذا المحتوى، وفترت كثيرا - فى البداية على الأقل- مشاعر الاستهجان والنفور الفطرى من مثل تلك المحتويات الصادمة سواء على صعيد الأفكار والمعتقدات، أو على صعيد المشاهد الدموية غير المسبوقة التى لم يتم بثها دون رقابة على القنوات التليفزيونية فحسب، وإنما أتاحت تقنيات الاتصال الحديثة إمكانية المشاهدة اللاحقة أو المشاهدة حسب الطلب، ليحقق التنظيم انتصارا ساحقا فى حرب المحتوى التى لم يرغب المعنيون على معظم الأصعدة المشاركة فيها من الأصل، لتخلو الساحة بشكل تام لداعش. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن إلقاء كل اللوم على وسائل الإعلام، إذ إنه بعد أن أصبحت الحرب ضد التنظيم وأفكاره مفروضة على جميع دول العالم، وتحركت قوى عظمى لمجابهة هذا الواقع البائس الذى ما فتئ يزداد انتشارا بشكل سريع وهائل وبالتأكيد غير متوقع ولا منتظر، لجأت معظم الدول والجهات المشاركة فى هذه الحرب على اختلاف دوافعها إلى اتباع نفس أساليب التنظيم فى التعامل مع المحتوى، مع اختلافين بارزين: الأول: فقدان عنصر المبادرة، إذ حاز التنظيم قصب السبق فى هذا السياق. والثاني: فقدان جاذبية الغموض والخروج عن المألوف التى اعتمد عليها التنظيم كثيرا. المقاييس الضحلة يقول برايان سوليس، المتخصص فى تحليل المحتوى الرقمي:"تدور فكرة وسائل التواصل الاجتماعى حول علم الاجتماع وعلم النفس أكثر من التكنولوجيا"، فيما يرى "ماتيجيك"، أن القوات العسكرية الغربية - فى أغلب الحالات - معادية للمجتمع فى حقيقة الأمر. ويضيف فى دراسته:"لا توجد نية حقيقية للمشاركة، ولا ردود على التعليقات أو التغريدات. إننا نشغل أنفسنا بحساب أعداد الإعجابات، والتعليقات، والمشاركات، وإعادة التغريد ومدى الوصول، ولكن استعراض المقاييس التافهة الضحلة التى يتم تقديمها فى التقارير كعائد على الاستثمار، ليس له دور يُذكر فى قياس أو تقدير الأثر الإستراتيجى الفعلى المطبق. فى كثير من الحالات، يكون الأثر الإستراتيجى غامضًا أو غير موجود فى بداية الأمر".
بينما يرى المقدم البحرى الأمريكى المتقاعد كليف جيلمور، أن وسائل الإعلام لا تقدم إلا ما نطلبه منها. ما بعد التسلية!! يدرك مديرو وسائل التواصل الاجتماعى "المهرة" أن إنشاء شعار موثوق به، يتطلب وجود محتوى ديناميكى يقدم ما هو أكثر من التسلية. فلإحداث تأثير، يجب أن تجذب وسائل التواصل الاجتماعى انتباه القارئ أو المشاهد، وتثير تفكيره النقدى، وتثقفه وتقنعه. ليفى ويست، الأكاديمى الأسترالى وخبير مكافحة الإرهاب، لاحظ فى عام 2015 أن "داعش تنتج محتوى موجها لتطبيع الخلافة، بشكل أكبر من المحتوى الذى يتبنى العنف"، ويمثل هذا التحول نية إستراتيجية واضحة لتكوين دولة قومية!! لها شرعية وحكم مستقر. وخلال محاولة تحقيق شرعية الخلافة، يجب أن يكون "شعار داعش" قادرًا فى الوقت ذاته على الحفاظ على الخداع بتصوير الحياة الطبيعية التى أنشأها.
ويؤكد "ماتيجيك" أن هناك إشادة منذ فترة طويلة بالإستراتيجية الإعلامية لداعش، باعتبارها واحدة من أكثر الإستراتيجيات المروعة التى حققت نجاحًا بارزًا فى العصر الحديث. لكن الحقيقة هى أن "وسائل الإعلام" ليست إستراتيجية، وإنما امتلكت داعش إستراتيجية اتصالات متطورة استخدمت وسائل الإعلام فيها كتكتيك، فالتمييز هنا مهم لأن وسائل الإعلام توحى بعقلية البث، فى حين أن الاتصال الذى نعرفه هو الحوار أو المحادثة، وفى أستراليا، تم اكتشاف أن 2% فقط من الجهاديين لديهم تطرف ذاتى مشابه لهذا السلوك، مقارنةً بأكثر من 21% كانوا مجرمين أولاً ثم تحولوا إلى جهاديين، و69% تطرفوا عبر شبكة أفراد أو داخل تجمعات أسرية.
الحرب الإلكترونية ومع استمرار الضغط الدولى بدا أخيرا أن الجهود المتزايدة لمنع انتشار المواد المتطرفة قد دمرت إلى حد كبير وجود مقاتلى داعش على شبكة الإنترنت، بما فى ذلك منصتا تويتر وفيسبوك الأكثر انتشارا.
وقال محللون، إن المرسوم الأخير "مثير للسخرية إلى حد ما" نظرا للدور القوى لمواقع التواصل الاجتماعى فى تجنيد عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب فى صفوف داعش، وتنسيق الهجمات الإرهابية على المستوى العالمي.
وتبدو الصورة اليوم فى النصف الثانى من 2017 مختلفة اختلافا كبيرا عنها فى 2015 وما قبلها، التى شهدت أزهى فترات داعش، وأقصى توسع لرقعتها، وانتشارا لمقاتليها، إذ بدا أن هناك توجها عالميا بمحاربة التنظيم، ليس فقط فى المعارك العسكرية على الأرض، وإنما أيضا فى الفضاء الافتراضي، وتم إجبار منصات التواصل الاجتماعى الأكبر فى العالم على متابعة واستئصال "المحتوى الإلكترونى المتطرف" أولا بأول، ما أسفر عن قرار التنظيم غير المتوقع بتغيير إستراتيجيته فى التعامل مع هذه المواقع.
ربما لا يمكننا الجزم - كمتابعين - أن التنظيم الإرهابى المصنف ضمن الأكثر دموية فى التاريخ المعاصر يحتضر بالفعل، ولكن ربما يمكننا القول إنه بات مطاردا بقوة وبشراسة على الأرض، وفى الفضاء الافتراضي، وقد تكشف الأيام المقبلة ما إذا كان التنظيم سيأفل نجمه أو يعمد إلى تغيير جلده ووسائله.