أدت المعارك الدائرة فى جنوب السودان إلى تشريد نحو ثلاثة ملايين شخص، فر نصفهم إلى البلدان المجاورة خصوصا إلى السودان، البلد الذى كان حتى وقت قريب يعاملهم كمواطنين وليس كلاجئين. ولجأ أكثر من 220 ألف شخص إلى معسكرات الأممالمتحدة. أثر الحرب لم يتوقف عند تشريد هذا العدد الهائل من البشر، مقارنة بتعداد السكان البالغ نحو 12 مليون نسمه، بل باتت المجاعة تهدد نحو نصف السكان، مما دفع مجلس الأمن الدولى للتعبير عن قلقه العميق إزاء انتشار المجاعة وتدهور الوضع الإنسانى فى جنوب السودان، وطرحت الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا مجددا إمكانية فرض عقوبات حظر الأسلحة إلى جنوب السودان. اهتمت الحكومة السودانية مع هذا الواقع الإنسانى المرير للدولة الجارة ومع إعلان حكومة جنوب السودان المجاعة بالبلاد، وافقت الحكومة السودانية على فتح مسار إضافى جديد لتوصيل المساعدات الإنسانية للدولة المنكوبة عبر الأبيض – أويل، لنقل مزيد من المواد الغذائية، وتغطية المناطق المتأثرة بالمجاعة فى “غرب وشمال” بحر الغزال لإغاثة 300 ألف متأثر من نقص الغذاء. وبفضل مذكرة تفاهم تم توقيعها أول بين حكومتى السودان وجنوب السودان فى يوليو 2014، فقد نقل برنامج الأغذية العالمى من خلال هذا الممر ما يزيد على 57,420 طن مترى من السلع المتنوعة إلى جنوب السودان. بناء على ما سبق فتحت الحكومة السودانية مسارات لبرنامج الأغذية العالمية لإغاثة عربية قادمة إلى دولة جنوب السودان، ومن ثم تقديم العون لمئات الآلاف من اللاجئين الموجودين بالبلاد، فبجانب ما يعنيه ذلك من تعبير عن قيم إنسانية ضرورية نحن أولى بها من الغرب، فهو إدراك ووعى لما سيمثله تفكك أو انهيار هذه الدولة من تهديد واضطراب للاستقرار بالمنطقة بل والقارة الإفريقية جمعاء، ومن شأن ذلك أن يكون لبنة فى الثغرة التى انشغل الغرب كثيرا بفتحهها فى جدار الأمن القومى العربي. الحكومة السودانية وافقت حتى الآن على شراء برنامج الغذاء العالمى لعدد 60 ألف طن مترى من الذرة من السوق المحلية لأغراض الإغاثة بدولة جنوب السودان، والدول العربية ودول الجوار مدعوة لتقديم يد العون لداخل دولة الجنوب السودانى ولمئات الآلاف من اللاجئين الموجودين فى السودان، قبل قدوم فصل الخريف الذى سيبدأ مع يوليو المقبل ويصيب عمليات الإغاثة بشبه شلل تام لوعورة المنطقة وصعوبة التحرك فيها برا. وبغض النظر عن العامل الإنسانى الضرورى والملح – على أهميته- إلا أن هذا الجهد السودانى لوقف الكارثة فى الدولة الوليدة له أبعاد إستراتيجية أخرى، ويتطلب مجهودا عربيا وإقليميا داعما له من منطلق الحفاظ على متطلبات الأمن القومى العربى والإقليمي، فقد شكل انفصال جنوب السودان ضربة قاصمة للأمن القومى العربي، خصوصا مع التغلغل الصهيونى فى الجنوب، ودول منابع نهر النيل والقرن الإفريقي، وبالتالى فإن ترك دولة جنوب السودان لإغاثة الدول الكبرى والمنظمات الدولية، هو تضييع للحظة الفرصة المواتية مرة أخرى وبه قصور بلاشك فى مفهوم الأمن القومى العربى والإقليمى، فالجميع يدرك تقريبا الأيادى الغربية والإسرائيلية التى كانت سببا رئيسيا لانفصال دولة الجنوب وفقا لأهداف خبيثة. لا سيما أن إسرائيل قد وسعت فى إستراتيجيتها المخصصة للقرن الإفريقى بحيث يدخل إلى صميمها جنوب السودان، هذه الإستراتيجية التى صاغها بن جوريون وأورى لوباني، وبالتالى فإن أى تحرك عربى نحو جنوب السودان خصوصا فى هذا الوضع الكارثى هو محاولة جادة لإفشال هذه الإستراتيجية. ثمة اعتبارات عديدة دفعت نائب رئيس السودانى حسبو محمد عبد الرحمن، باتخاذ قرارا بتشكيل اللجنة العليا لدعم اللاجئين من دولة جنوب السودان برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب، رئيس السودان الأسبق، وعضوية 35 آخرين ممثلين لجهات مختلفة ذات صلة بالعمل الإنسانى واللوجيستى، وباشرت اللجنة أعمالها فورا على ضوء تقارير عن الأوضاع الإنسانية بدولة جنوب السودان وعن الوضع الغذائى، تؤكد أن هناك نحو 4.942.000 فرد يعانون من المجاعة ويتوقع أن يصل العدد إلى 5 ملايين خلال شهر الحالى ما لم تحدث تدخلات سريعة، وأشارت التقارير إلى أن ولاية "الوحدة" هى ذات الوضع الأسوأ، تليها ولاية "بحر الغزال" حيث وصلت معدلات التغذية فى هاتين الولايتين إلى الحد الأدنى مما يتطلب تدخلا إنسانيا سريعا . نتيجة لهذه التحركات استمعت اللجنة المعنية التى شكلتها رئاسة الدولة السودانية إلى تقارير أخرى عن التدخلات التى تمت من المنظمات والهيئات، والتى شملت مواد غذائية ومواد إيواء وأدوية ومياه وملابس وفرش وكانت جميعها للمتأثرين الموجودين بمعسكرات اللاجئين داخل الولايات الحدودية مع دولة جنوب السودان، كما تم عبور 27 شاحنة محملة بمواد إغاثية تتبع لمنظمة الأغذية العالمية عبر المنفذ الحدودى مع السودان ( هيجليج – بانيو) بالأضافة إلى تسليم 10 آلاف جوال من الذرة التى تبرعت بها حكومة السودان لترحيلها عبر المنفذ الحدودى كوستى – الرنك ، وهناك ترتيبات جارية لإرسال طائرة محملة بمواد إغاثة إلى جوبا . وتقوم اللجنة بزيارات ميدانية لمعسكرات اللاجئين بالولايات الحدودية وزيارة دولة جنوب السودان قريبا للوقوف على الأوضاع الإنسانية وتحديد التدخلات المطلوبة . خلاصة القول لا بد من الوجود العربى فى دولة جنوب السودان فى هذا الظرف ذو الأوضاع الإنسانية المأساوية، لاسيما أن الأوضاع الأمنية والسياسية، أصبحت مهددا رئيسيا للأزمة فى جنوب السودان، ولإخراج هذه الدولة الوليدة إلى بر الأمان والحفاظ عليها ضمن منظومة الأمن القومى العربى، وقفل الباب أمام إسرائيل والتدخلات الدولية، يجب على الدول العربية أن تقف فى هذه الأزمة التى تمر بها، حتى لا تنزلق فى أزمات أخرى للاستئثار بها فى المستقبل.