هناك من يكرهون ثورة 23 يوليو 1952، داخل مصر وخارجها، لأنهم تضرروا منها، ولكن هذه الكراهية لم تنجح فى هز مكانة هذه الثورة فى التاريخ المصرى الحديث، بل وفى تاريخ المنطقة العربية كلها، وشعوب العالم الطامحة إلى التحرر من الاستعمار والاستغلال الاجتماعى، وربما يكون مفهوماً أن تتعرض ثورة يوليو اليوم لهجوم جديد فى إطار التقييم المستمر لدور هذه الثورة فى الحياة المصرية الحديثة، ولكن من غير المفهوم ولا المبرر أن تكون الهجمة الجيدة على ثورة 23 يوليو بغرض ترسيخ شرعية 25 يناير، أو للتأكيد على أن مصر لم تشهد غير هذه الثورة وثوراتها الأخرى كانت غير ذات قيمة، فالصحيح أن تاريخ مصر شهد العديد من الثورات وكلها قادت إلى بعضها بعضاً وتشكل فى مجملها ملامح حركة التطور الوطنى المصرى سعياً إلى التحرر والعدالة والتقدم. ثورة 23 يوليو لا تحتاج إلى من ينصفها، لأنها تحولت إلى واقع سياسى واجتماعى واقتصادى قبلته الغالبية العظمى من الجماهير مما أكسبها شرعية لا تقوى أى محاولات على تجاهلها، والتمسك بها لا يعنى الدفاع عن عبدالناصر، وإنما الدفاع عن مكتسبات وطنية أفادت أجيالاً عديدة وأعطت لمصر مكانة عربية ودولية مرموقة، وإن كان ذلك لا يقلل من أهمية الدور التاريخى لعبدالناصر الذى استطاع بقدراته السياسية، وعمق تأثير شخصيته الكاريزمية أن يجعل من هذه الثورة أداة لتغيير جذرى قلب الأوضاع رأساً على عقب ليس فى مصر وحدها، بل وفى العالم العربى وإفريقيا وآسيا. وقد كانت لثورة يوليو إيجابياتها وسلبياتها، ولكنها دائماً ما كانت تعرف أولوياتها وأخطاءها وتعمل على تصحيحها، وإذا كانت قد فشلت فى إقامة حياة ديمقراطية سليمة، مع أن ذلك كان أحد أهدافها الستة، فإنها بالمقابل نجحت فى تحرير مصر من الاستعمار والقضاء على الإقطاع وإقامة عدالة اجتماعية وبناء جيش وطنى قوى، كما أقامت دولة وطنية مدنية ذات دور ريادى فى منطقتها العربية، كانت انقلاباً فى بادئ الأمر، ثم تحولت بفعل إنجازاتها الاجتماعية إلى ثورة، وفجرها الجيش بمجموعة الضباط الأحرار، ولكن سرعان ما تم فصل الجيش عن السياسة لصالح دولة مدنية حديثة، وبالتأكيد واجهت ثورة يوليو ألواناً من الفشل على الصعيد الداخلى وأخرى على الصعيد الخارجى، مما خصم كثيراً من رصيد إنجازاتها ومكانتها، ولكن ما لا يستطيع أحد إنكاره أن ثورة يوليو أقامت مجتمعاً حياً قادراً على إحداث التطور والتغيير دون تمييز بين أبنائه، ودولة تستطيع بناء السلام وشن الحرب دفاعاً عن أمنها القومى وأمن أمتها العربية. الأجيال التى ظهرت على مدى 60 عاماً من ثورة يوليو هى ذاتها التى خاضت ثورة 25 يناير، فكانت الأخيرة امتداداً للأولى بكل تأكيد، لأنها قامت من أجل تحقيق الأهداف التى لم تتمكن ثورة 23 يوليو من تحقيقها، وخصوصاً فيما يتعلق بإقامة حياة ديمقراطية سليمة ولتصحيح الخلل الذى حدث خلال فترات حكم السادات ومبارك فى توزيع الثروة وإقامة العدالة الاجتماعية بعد أن كانت الثورة فى عهد عبدالناصر قد حققت إنجازات حقيقية فى هذا وذاك، لم تقم ثورة 25 يناير للانتقام من ثورة يوليو، وإنما كانت امتداداً لها واستكمالاً لأهدافها، فلا منطق ولا مبرر للدعوات التى راحت تهيل التراب على ثورة 23 يوليو، بزعم أنها تفعل ذلك لكى تعزز من قيمة ودور ثورة 25 يناير أو لكى تجعل تاريخ مصر يبدأ بهذه الثورة فق. نفهم أن جماعة الإخوان المسلمين وبقية الجماعات الإسلامية الأخرى تكره ثورة 23 يوليو، مع أن الإخوان كانوا شركاء فى صناعة هذه الثورة وما كرهوها إلا بعد أن تم إقصاؤهم من ثمراتها بعد أن قادوا هجوماً مضاداً لدعم محمد نجيب فى مواجهة بقية الضباط الأحرار، كانوا يريدون اختطاف ثورة يوليو، وعندما تم التصدى لهم فتحوا النار عليها، وبعد أن كانوا يصفونها بأنها ثورة مباركة ظلوا طوال 60 عاماً يصفونها بالاستبداد والديكتاتورية، بل وبأنها مسئولة عن إهدار الإسلام. ومن الحق التأكيد على أنهم لاقوا أشد ألوان العذاب على يد ثوار يوليو بعد أن انعدمت فيهم الثقة، ومن المنطقى فى ظل هذه المرارة أن يأخذ الإخوان موقفاً سلبياً من ثورة يوليو، ولكن لن يكون منصفاً أو مقبولاً منهم أن يسقطوا هذه الثورة من تاريخ الحركة الوطنية المصرية، أو أن يشوهوا صورتها فى أذهان الأجيال الجديدة انتقاماً لما حدث لهم من عذابات وتشريد واعتقال، وإذا كان المبرر هو إفساح الطريق لثورة 25 يناير لكى تظل وحدها فى قلوب وعقول المصريين دون سواها، فإن هذا لا يعد فقط افتئاتا على مكانة ودور ثورة 23 يوليو، وكلاهما لا ينكره أى منصف، وإنما أيضاً محاولة لترسيخ الانقسام بين المصريين القائم منذ اندلاع ثورة 25 يناير بين مؤيد ومعارض، وهو الانقسام الذى تطالب كل القوى الوطنية بوضع نهاية سريعة له حتى يتحقق النجاح للثورة الجديدة، وعندما يصر إعلام الجماعة وأنصارها على هذا التوجه المعادى، أو على الأقل السلبى من ثورة 23 يوليو، فإن هناك من سيرد سريعاً بأن الجماعة تكرر بذلك ما فشلت فى تحقيقه عند بداية ثورة 23 يوليو أى اختطاف ثورة 25 يناير أيضاً، ومعلوم لدى المراقبين أن مشاركة الإخوان فى الثورة الجديدة جاءت متأخرة فيما عكس اعتقاداً عند الجماعة باحتمال فشلها، وما شاركوا فيها إلا فى اليوم الرابع بعد أن سقطت قوى الأمن (الشرطة). شرعية ثورة 25 يناير لا يمكن أن تبنى على هدم شرعية ثورة 23 يوليو، فكما أوضحنا، هى امتداد طبيعى لها من حيث الأهداف والقوى الاجتماعية التى فجرت كلاً منهما وبحكم أن كلاً منهما ثورة اجتماعية فى المقام الأول، ولكن فى نفس الوقت فإن الإنجازات والأفعال هى الفيصل فى إقامة الشرعية، فثورة 23 يوليو بدأت انقلاباً عسكرياً بلا شرعية سوى شرعية القوة المسلحة وتحولت إلى ثورة بحجم التحولات الاجتماعية التى أحدثتها سريعاً، وبهذه التحولات اكتسبت شرعيتها وأصبحت ثورة وليست انقلاباً، ومن جهة أخرى فإن ثورة 23 يوليو استطاعت أن تحسم مسألة السلطة مبكراً، حيث لم يكن قد مضى عامان على قيامها حتى اتضحت تماماً معالم السلطة الحاكمة بتكوينها البشرى والفكرى السياسى، وخاضت فى ذلك معركة سياسية لم تخل من استخدام العنف لحسم مصير الثورة، أو بالأحرى لحسم طبيعة السلطة وقيادتها، وبحسم مسألة السلطة ووضوح الأهداف الثورية (6 أهداف) والإسراع بتنفيذ هذه الأهداف مهما كان الثمن، والنجاح فى السيطرة على مقاليد الأمور فى البلاد، مثل هذه التطورات لم تعرفها حتى الآن ثورة 25 يناير التى عانت ولا تزال من مسألة عدم وضوح السلطة المعبرة عنها، بل وجدنا أنفسنا أمام سلطة برأسين فى قمة هرم الحكم، وسلطة بألف رأس فى قاع الهرم السياسى، فهناك الجيش العسكرى من جهة ورئيس الجمهورية المنتخب للإخوان الدكتور محمد مرسى، المنزوع الاختصاصات أو المقيد سياسياً من جهة أخرى، ومن قاع الحياة السياسية هناك عشرات القوى السياسية بأسلحتها الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعى المنتمية لها وكلها تتعامل وكأنها الحاكم الفعلى للبلاد. وغياب حسم مصير السلطة ليس وحده الآفة التى لم تتوقف على مدى العام ونصف العام عن إنهاك الدولة المصرية وإظهارها بمظهر الضعيف غير القادر على ضبط الأوضاع وتوجيه المسار السياسى للبلاد فى خريطة طريق واضحة تحظى بالقبول العام من الجماهير، هناك أيضاً العجز عن تفعيل أى هدف من أهداف ثورة 25 يناير خصوصاً أنها أهداف ثلاثة بسيطة جداً هى "عيش وحرية وعدالة اجتماعية" فلم تتم ترجمة الأهداف الثلاثة إلى خطط عمل سريعة ولم يشهد المواطن تغييراً حقيقياً فى حياته اليومية يجعله مطمئناً على المستقبل وواثقاً من نجاح الثورة، وحتى برنامج النهضة الذى خاض به الدكتور مرسى الانتخابات الرئاسية وأصبح مطالباً بتطبيقه لم يبدأ تفعيله بعد فى انتظار حسم مسألة السلطة، وغيرها من الملفات المعقدة كعودة البرلمان وتشكيل لجنة وضع الدستور، وتفعيل الحكومة الجديدة التى تتبنى هذا البرنامج، وبالنتيجة لا تشهد البلاد إنجازاً يدعم شرعية الثورة الجديدة. باختصار لدينا ثورة يوليو التى اكتملت، بغض النظر عن الخلاف حول مدى نجاحها فى تحقيق أهدافها، وثورة 25 يناير التى لم تكتمل وسط خلاف حاد حول آلياتها ومستقبلها السياسى.