تعرض البنك إلى أزمة مالية كبيرة عام 1940 وعندما لجأ لوزير المالية اشترط عليه أن يترك منصبه بالبنك لعلاج الأزمة حفيده د. شريف سامى: لم أره حيث توفى قبل ميلادى وتعرفت إليه من خلال قصص وروايات الأسرة عنه
من عظماء مصر ومبدعيها راسمى سياسات التغيير والإبداع.. إنه طلعت حرب مؤسس بنك مصر الذى رفع راية الوطن خفاقة ورفض العبودية والانحناء، ونوع فى بناء البلد بين مزيج من الثقافة والفن والسياحة والبنوك وغيرها لتحقيق الاستقلال المادى والفكرى.. أجبروه على التنازل عما أسسه لكنه ضحى فى سبيل مصر.. وقال عبارته الشهيرة "ما دام فى استقالتى حياة للبنك.. فلأذهب أنا وليعيش البنك".. بهذه الجملة قرر طلعت باشا حرب تقديم استقالته من بنك مصر مجبرًا من أجل إنقاذه. وجاء ذلك فى أعقاب الأزمة المالية التى كان يمر بها البنك مع بداية الحرب العالمية الثانية، والتى أدت إلى دفع الكثيرين لسحب ودائعهم. من منا لا يعرف ميدان طلعت باشا حرب الشهير بوسط القاهرة، فهناك العديد من الشوارع التى تحمل اسمه فى محافظات مصر المختلفة، كما خصصت وزارة الثقافة مركزًا باسم طلعت الثقافى عام 1955. ولد محمد طلعت بن حسن محمد حرب مؤسس بنك مصر فى 25 نوفمبر 1867، وتوفى فى 13 أغسطس 1941، بمنطقة قصر الشوق فى حى الجمالية، وكان والده موظفاً بمصلحة السكك الحديدية الحكومية، وينتمى إلى عائلة حرب بناحية ميت أبو على من قرى منيا القمح بمحافظة الشرقية، كما كانت والدته تنتسب إلى عائلة صقر لقرية تابعة لمنيا القمح. ويقول عنه د. شريف سمير سامى، رئيس هيئة سوق المال، ابن ابنته الكبرى خديجة: إننى لم أره أو أتعرف عليه عن قرب حيث توفى مبكرا قبل ميلادنا، لكننى تعرفت إليه من خلال القصص التى سمعتها من روايات الأسرة عنه، ووالدتى التى كونت صورته لدى فى الذاكرة، وكنت أرى صوره وأقرأ خطاباته وما كان ينشر عنه بالصحف، وما كان يكتبه، فهو كان يهوى الكتابة بشدة وله العديد من المؤلفات، وأتذكر جيدا موقفا وأنا فى سن السابعة عندما ذهبت مع عمتى إلى بنك مصر، وسألتها هل الأموال التى نضعها بالبنك نستطيع أن نحصل عليها مرة ثانية، وقالت لى نعم، ومن تلك اللحظة نشأ بداخلى الاهتمام بالمعاملات البنكية وتخصصت بعد ذلك فى المجال. ويضيف: ورثت عنه حب العمل فى البنوك، أنا وابن عمتى محمود محمد نبيل إبراهيم، الرئيس التنفيذى لبنك "آى. إف. جى" موناكو سابقا.. الذى عمل والده زوج نادية سامى ابنه خديجة طلعت حرب رئيسا لمجلس إدارة البنك بعد 40 عاما من رحيل طلعت باشا حرب وهذا كان مصادفة وليس توريثا، نحن من توارثنا منه جينات العمل فى الجهاز المصرفى. كما أن جميع حسابات أفراد العائلة ببنك مصر وليس بأى بنك آخر. لقد كان رجلا شرقيا بمعنى الكلمة فى حياته وعاشقاً لمصر. جدير بالذكر أن جميع أحفاد طلعت باشا حرب من بناته فقط .. وهما فاطمة التى توفيت عام 1976 وعائشة توفيت عام 1988 وخديجة التى توفيت عام 1997 والصغرى هدى (توفيت عام 1996م) التى لم تنجب أبناء.. وكان له ابن وحيد اسمه حسن لكنه توفى فى مطلع شبابه. ويؤكد د. سامى أن طلعت باشا كان يعتبر واحدا من أهم أعلام الاقتصاد فى تاريخ مصر.. كان شغله الشاغل هو تحرير الاقتصاد المصرى من التبعية الأجنبية، وبالفعل أسهم فى تأسيس بنك مصر عام 1920 والعديد من الشركات العملاقة التى تحمل اسم مصر مثل شركة مصر للغزل والنسيج ومصر للطيران ومصر للتأمين ومصر للمناجم والمحاجر ومصر لصناعة وتكرير البترول ومصر للسياحة واستديو مصر.. وكان عندما كان يسافر إلى بريطانيا يأخذ معه بعض المفروشات والملابس من الصناعة المصرية ليقوم بعملية ترويج لها. ويضيف د. سامى، كانت السينما أيضا دائما حاضرة فى عقل ووجدان طلعت باشا فقرر بالفعل أن يقوم بإنشاء استديو مصر فى عام 1930 على طريق المريوطية، وكان هذا هو العصر الذهبى للسينما المصرية، وكانت رؤيته فى إنشاء سينما الترويج عن نجاح شركاته بعد أن تفرغ من إنشاء بنك مصر. وكان ستوديو مصر الوحيد فى العالم الذى ينتج أفلاما عربية، وكان المنافس لاستوديوهات هوليوود فى الشرق، حيث قام بنك مصر بشراء جميع المعدات السينمائية الخاصة بمبلغ قدره 244 جنيها و915 مليمًا، على اعتبارها أدوات مستعملة من المخرج محمد بيومى، الذى كان يعمل مصورا ومؤلفا وممثلا ومنتجا مصريا، حيث كان يعد من رواد السينما المصرية، ومؤسس فرقة "وادى النيل" مع الفنان بشارة واكيم، ووافق بيومى بالرغم من أن المبلغ أقل كثيرًا من ثمنها الحقيقى البالغ 4 آلاف جنيه، ويذكر د. سامى مقولة قالها المخرج محمد بيومى "تنازلت عن مصنعى لبنك مصر لحساب شركة مصر للتمثيل والسينما، وإلى هنا انتهت رسالتى وتحققت أمنيتى وأصبحت السينما من الصناعات المصرية المزدهرة، ومبعث الرزق لكثير من المصريين، ودعامة من دعامات الاقتصاد المصري". وكان من أول أفلام ستديو مصر فيلم "وداد" لسيدة الشرق أم كلثوم، ولكن كان هناك قبل عرض الفيلم الأول فيلم وثائقى عن "الحجاج للتوعية والإرشاد. ويضيف د. سامى: كان من أهم اقتراحات من المخرج محمد بيومى فى عام 1925، أن يتم تصوير فيلم لمراحل إنشاء المبنى الجديد لبنك مصر، التى تمت فى عام 1927 والذى قام من خلاله طلعت باشا باستدعاء المهندس الإيطالى أنتنيو لاشياك، من إيطاليا ليقوم ببنائه وضع تصميم هذا المبنى الفريد من نوعه، وبالفعل صمم المبنى على الطراز ال "نيو إسلامى" أو الإسلامى الحديث.. حيث تم استخدام جميع التقنيات الحديثة فى ذلك الوقت فجميع الأسقف الخشبية والتى تم زخرفتها على يد فنانين إيطاليين ولم يتم تنظيفها إلى وقتنا هذا، كما لم يتم تغيير أى شئ من الأثاث أو الديكور أو حتى الأرضيات التى من الرخام أو النجف وبعض العبارات الخاصة بمعاملات المترددين مذ كتابتها عام 1927 على النحاس. وتم اختيار شعار الملكة "كليوباترا" التى يعنى اسمها "فخر الأب".. فاختيار هذا الاسم يدل على انتمائه الشديد وحبه لبنك مصر وأنه فخر كل المصريين مدى الحياة. وبعد كل هذه الإنجازات كرمه الملك فؤاد، وفى فى عام 1931 منحه رتبة باشا عقب افتتاح شركة مصر لغزل القطن والنسيج بالمحلة الكبرى. ويضيف د. سامى: على الرغم من أن جدى طلعت باشا حرب كان خريج كلية الحقوق وعمل كمترجم بالقسم القضائى "بالدائرة السنية" ورئيسا لإدارة المحاسبات ثم مديراً لمكتب المنازعات حتى أصبح مديراً لقلم القضايا.. فإنه صاحب رؤية اقتصادية نادرة فى ذلك الوقت. كما كان له موقف وطنى مهم للغاية، ففى عام 1910 رفض اقتراح مد امتياز قناة السويس لمدة 40 سنة أخرى تنتهى سنة 2008، والذى كان سينتهى بالفعل في17 نوفمبر 1968.. وأنه استطاع أن يحشد الرأى العام، وأصدر كتابا باسم "مصر وقناة السويس" 1908، ليوضح الحقائق العامة والخاصة عن تاريخ القناة وكيف ضاعت حصص مصر من الأسهم والأرباح وخسائرها حتى 1909م. وكتابه الأشهر فى علاج مصر الاقتصادى عام 1911 ومشروع "بنك المصريين أو بنك الأمة" فهذا الكتاب يعد من المصادر المهمة لدراسة تاريخ الحركة الوطنية المصرية عامة وتاريخ مصر الاقتصادى فى عهد الخديو إسماعيل (1863-1879)، مبينًا ما حققه الاقتصاد من نمو ذهبت فوائده للشركات المالية والمصارف الأجنبية المهيمنة على الاقتصاد المصرى حتى بلغ الاقتصاد الوطنى ذروة الأزمة التى لخصها فى مجموعة الجداول التى ختم بها الكتاب عن الديون العقارية وحركة الصادرات والواردات التى تكشف فقدان التوازن وتعبر عن الخلل الذى أصاب الاقتصاد المصرى. وبعد ثورة 1919 بدأت تتبلور لدية فكرة إنشاء بنك وطنى للمصريين للتحرر من الاحتكار المصرفى الأجنبي، وساهم فى إنشاء "شركة التعاون المالي" بهدف الإقراض المالى للمصريين، ومع انتشار دعوته ألتف حوله الكثيرون ونجحوا فى تأسيس "بنك مصر" عام 1920، وتوالى العديد من المشروعات الاقتصادية الكبرى داخل وخارج مصر، إلا أنه فى عام 1940 تعرض البنك إلى أزمة مالية كبيرة تحت ضغط كل من الحكومة المصرية وسلطات الاحتلال الإنجليزي، ورفض البنك الأهلى منحه قروض بضمان محفظة الأوراق المالية، وعندما لجأ طلعت حرب لوزير المالية اشترط وقتها أن يترك منصبه لعلاج الأزمة، مما أجبره على الاستقالة من البنك عام 1939. ويذكر د. سامى عن جده، بعض الإسهامات الأدبية والثقافية والفنية والجغرافية، حيث كان فى بداية حياته كاتباً بارعاً، وأمضى الكثير من كتابته لمناقشة قضايا العالم الإسلامى وقضايا مصر، خصوصاً فى عام 1894 عقب عقد مؤتمر المستشرقين فى باريس. وعن فكرة إنشاء متحف خاص ببنك مصر يقول د. سامى: جاءت الفكرة من قبل رؤساء مجلس الإدارة قبل الاحتفال بالذكرى التسعين لإنشاء بنك مصر، وبالفعل قام البنك بافتتاح متحف خاص به، وتم منح جميع مقتنياته وإنجازاته، وتم تخصيص ركن خاص لطلعت باشا حرب، ووضع أول خزينة كانت فى ذات الوقت والعديد من الختام والأوراق والخطابات المهمة التى بخط يده وأهمها خطاب الاستقالة، وطاب البريد التى أصدرتها مصلحة البريد عامى 1970 و1992 تخليدا لذكراه. كما منحه الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 1980 قلادة النيل العظمى تكريما لمجهوداته العظيمة فى الاقتصاد المصري والموجدة أيضا بالمتحف. كما توجد كسوة باب الكعبة وحزام الكعبة التى قام ملك السعودية الراحل الملك عبد العزيز آل سعود بإهدائها له فى عام 1977، وتم منح حزام الكعبة لمكتبة الإسكندرية، وكان هذا تقديرا لجهوده فى إقامة المشروعات التنموية بالمملكة والتى من أهمها إنشاء طريق جدة وفندق خاص بجدة أيضا وإنشاء طريق يسهل حركة الحجاج، وتوفير الرحلات عن طريق شركاته. كما تم وضع أهم المتعلقات الشخصية مثل "العصا" الخاصة به و"المنشة" وبعض الأدوات الفضية. ومن أهم المقتنيات علبة لعبة "الدمينو" التى كان يهواها ويجلس حولها أهم رجال الصناعة والتجارة سواء يهودا أو مسيحيين أو مسلمين فى مصر ليتعرف من خلالها أحوال السوق المصرى والوضع اقتصادى. كما تم وضع 13 مجلدا لوصف مصر نسخة أصلية بها خرائط ومشروع قناة السويس.