الجدل السياسي الدائر حول القضاء الطبيعي والقضاء الاستثنائي والعسكري ليس أمرا جديدا, وإنما هو جزء من كفاح الحركة المدنية والسياسية المصرية طيلة عديد العقود من أجل إرساء القيم السياسية والدستورية العالمية في إطار الدولة الحديثة في بلادنا. يعود الطلب السياسي والدستوري إلي تنامي ظواهر القوانين الاستثنائية المرذولة وارتباطها بالنظرة الآداتية للقانون لدي النخبة العسكريتارية والأمنية والبيروقراطية والتكنوقراطية التي حكمت مصر ولا تزال منذ نظام يوليو وإلي الآن. حكام كرهوا قيود وضوابط دولة القانون والمؤسسات واعتقدوا أن إرادتهم وأهواءهم قانون القوانين أو سلطة ما فوق إرادة الدولة, ومن ثم تعلو وتسود الإرادة العامة للأمة وممثليها. من هنا رفض القوي الثورية والديمقراطية قيام السلطة الفعلية في البلاد وهي سلطة مؤقتة بإحالة المدنيين أمام القضاء العسكري, والمطالبة القوية والغلابة بإحالتهم إلي القضاء العادي بوصفه قاضيهم الطبيعي وفق المبادئ الدستورية العامة. إن ظاهرة القضاء الاستثنائي, وإعطاء رئيس الجمهورية سلطة إحالة المدنيين إلي القضاء العسكري, هو تعبير عن ظاهرة ازدواجية القضاء في مصر, وهي شكل من الاعتداء الدستوري والتشريعي علي استقلال السلطة القضائية وعصف بالمبادئ الدستورية العامة التي استقر عليها التقليد الدستوري العالمي والمصري من التلازم بين الدولة القانونية والمساواة أمام القانون, والقضاء الطبيعي بكل مقوماته وأركانه والتي تعني وبوضوح أن يتم إحالة المواطنين المدنيين إلي قاضيهم الطبيعي ولا يحاكمون أمام القضاء العسكري أو أمن الدولة بدرجاته حتي ولو أسبغ عليهم المشرع صفة المشروعية الشكلانية التي تستمد من القانون. إن ظاهرة غصب سلطة التشريع كانت إحدي ظواهر السياسة التشريعية المختلة في ظل نظام يوليو ولاسيما في عصر الرئيس المخلوع حسني مبارك, وارتبط بها الخلل في السياسة القضائية من خلال ازدواجية القضاء الطبيعي والقضاء الاستثنائي علي اختلاف أشكاله وجهاته , من هنا يبدو غريبا مرافعات بعضهم دفاعا عن القضاء الاستثنائي ومبرراته علي نحو يخالف كل ما استقر عليه التراث الفقهي والدستوري والقانوني والقضائي العالمي وفي الدول العريقة حول الطابع الاستثنائي للقضاء العسكري الذي ينبغي أن يقتصر علي محاكمة العسكريين, لأنه قضاء يرتبط ارتباطا وثيقا بالطابع الهرمي القيادي داخل المؤسسات العسكرية أيا كانت والتي تحكمها قواعد تتماثل مع طبيعة مهامها. من هنا لا يعد انتقاد محاكمة المدنيين أمام القضاء الاستثنائي عموما والعسكري خصوصا هو من قبيل الخصومة السياسية أو التشكيك أو إطلاق الأحكام الأخلاقية السلبية علي المؤسسة العسكرية أو جهازها القضائي, وإنما هو تأكيد علي بداهات دستورية تعرفها الأمم المتمدينة, واستقر عليها ثقاة الفقهاء والقضاة في كل الأنظمة الدستورية والقضائية العريقة والأكثر تطورا في مختلف الميادين. إن محاكمة الرئيس المخلوع ونجليه وبعض قادة جهاز الشرطة تتم أمام قاضيهم الطبيعي لا أمام القضاء العسكري ومن ثم لابد من إعمال هذا المبدأ الدستوري علي جميع المواطنين حتي لا تشيع وترسخ مقولة أن ثمة تمييزا سلطويا لصالح الرئيس ونجليه وكبار قادة وزارة الداخلية. إن المحاكمة العادلة والمنصفة أمام القضاء الطبيعي صدح بها قلة من كبار المثقفين والقضاة والفقهاء في ظل الحكم الاستثنائي وثقافة الطوارئ وسلطان الحكم المطلق في مختلف مراحل ثورة يوليو, لاسيما في أثناء حكم مبارك الذي لم يأبه بأي انتقادات تمس تغول صلاحياته الفعلية والدستورية. من هنا لابد من إعمال المبادئ الدستورية العامة في الأمم المتمدينة, وحقوق المواطن والإنسان من المحاكمة العادلة والمنصفة في المرحلة الانتقالية أساسا, هذا شئ والردع شئ آخر تماما والذي لم تحققه المحاكمات الاستثنائية. ثمة ضرورة قصوي أيضا لتوفير بيئة آمنة تماما للمحاكم لأداء أعمالها في حيدة ونزاهة وطمأنينة كي يطبق القضاة القانون دون خشية أو خوف يتهددهم علي نحو ما نري في مهزلة رفع الصور والشعارات التي تهتف بحياة الديكتاتور داخل قاعة المحاكمة, أو الاضطراب الأمني خارج المحكمة واستخدام مجموعات للعنف إزاء أسر الشهداء والمجني عليهم, هي أمور تهز من هيبة الدولة وسلطانها داخليا وخارجيا. إن ترك هؤلاء يمارسون العنف وترويع المواطنين الذي يمتد من خارج المحكمة إلي داخلها, وإلي عموم المصريين, هو أمر يثير الريب والشكوك, من هؤلاء؟! ومن يتركهم يمارسون كل هذا العنف ضد القانون.. ولماذا؟! المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح